وعد بلفور: الدوافع والخطوات
(1)
|
تمرُّ مع نهاية شهر أكتوبر ومطلع شهر نوفمبر ذكرى وعد ((بلفور)) Balfour، المشهور، وكأمة عربية وإسلامية يجب علينا أن نتعرَّف إلى العوامل التي دفعت بحكومة المحافظين - البريطانية - آنذاك إلى إصدار هذا الوعد - بِحُكم وقوع الأراضي الفلسطينية تحت الانتداب البريطاني في تلك الحقبة، وما هي المراحلُ التي مَرَّ بها هذا الوعد حتى ظَهَرَ في شكْل كيان تأسَّس على مفهوم عنصري من الحركة الصهيونية، مما تَسبَّبَ في إزاحة الشَّعْب الفلسطيني بكُل الوسائل غير المشروعة بما فيها - القتل والتَّدمير والإرهاب - عن وطنه وإفساح المجال لأناسٍ اعتنقُوا اليهوديَة كدين ولا يملكون أي حق شرعي أو تاريخي في أرض فلسطين العربية والمسلمة. |
يذكر ((آرثر بلفور)) الذي كان وزيراً للخارجية البريطانية - آنذاك - أنه قبل صدور القرار التاريخي المعروف - دَعَا - أي بلفور كُلاًّ من لورد ((روتشيلد)) Rothschild، والبروفسور ((وايزمان)) Weizman، وكلا الرجلين صهيوني إلى تَقْديم مُذكَّرة عن المطالب الصهيونية، وفي ضوء هذه المذكَّرة، صدر ما يُعْرف باسم وعد ((بلفور)) الذي صَدَّق عليه مجلس الحرب البريطاني في 31 أكتوبر 1917م، وإذا كانت المذكِّرات الشَّخصية للسياسيين البريطانيين تُشير إلى أنَّ الوعد كان نابعاً - من قَلْب الحركة الصهيونية فَكرةً وصياغة وجاءت الموافقةُ عليه - بصورة سرِّية من المصادر الرَّسمية التالية: |
ـ الرئيس الأمريكي ((ويلسون))
|
ـ زعماء الحركة الصهيونية. |
ـ مُمَثّلُو الجمعية اليهودية - الإنجليزية. |
فإنه أيضاً من المفيد الإشارة إلى الخطوات العملية التي اتخذتها الحكومة البريطانية آنذاك والتي من شأنها تقوية واستمرارية اللُّوبي الصهيوني. |
ـ إنشاء فرع للدِّعاية السياسية اليهودية في وزارة الخارجية البريطانية، ويخضعُ هذا الفرْع في إدارة شؤونه للحركة الصهيونية. |
ـ العمل على نَشْر وتوزيع مَواد دعَائية فيما يختصُّ بإنشاء وطنٍ قومي لليهود داخلَ التّجمعات اليهودية في جميع أنحاء العالم. |
ـ تكوين لجنة رسمية من الدكتور وايزمان Weizmann وبعض أعضاء الحركة الصهيونية من جنْسياتٍ مُختلفةٍ وإرسالها لفلسطين لتتفرَّغ لمتابعة خطوات إنشاء الوطن القومي اليهودي، وقد قام الجنرال اللّنبي General Allenby- بتسهيل مهام هذه اللجنة في أرض فلسطين. لقد قدّمت الحكومات البريطانية المتعاقبة والتي رأسها كُل من ((رامري ماكدونالد)) و((تشرشل)) وكليمنت أتلي، وأنتوني إيدن، وهارولد ويلسون، قدَّمت كل ما تستطيعه من مُساعدات مادية ومعنوية، لتثبيت دولة الكيان الصهيوني في أرض فلسطين، مُتغافلةً في الوقت نفسه عن الوجود الفلسطيني كشعْب له تاريخهُ وحقوقه وتطلّعاتُه، ولعلَّ العامل الرئيسي خَلف المواقف الغربية المُناصرة للحركة الصهيونية يعودُ بالدَّرجة الأولى إلى الدَّور الذي لعبه اليهود أفراداً وجماعات في الدِّعاية لقضيِّتهم داخل المجتمعات الغربية نفسها، تلك الدِّعاية التي كانت وما زالت تلتزمُ بالجدِّ والحزْم واليقظة وعدم التنازل. لقد كان الغيابُ العربي كبيراً عَنْ مَسْرح السياسة العالمية في تلك الفترة التاريخية، بينما كان الوجود الصّهيوني يملك كُل وسائل الاتصال والتَّأثير،ولعلَّ ذلك يتجلَّى بصورة واضحة عندما ننظرُ في مضمون الرِّسالة التي بعث بها ((وايزمان)) إلى ((بلفُور)) في 31 مايو 1918م، والتي يحثُّ فيها الإدارة البريطانيةَ التي كانت تُشْرِفُ على شؤون ((فلسطين)) على اتخاذ الخطوات الكفيلة بمنْع ((العرب)) من الاقتراب من الشؤون السياسية للمنطقة، ووصفهم بسمات الغدْر والخيانة، وذلك لأنَّ الحركة الصهيونية تعلم جيِّداً بأنَّ العرب هم - وحدهم - الذين يعرفون الأرض الفلسطينية، ويتقنون لُغتها،ويفقهون عاداتها وتقاليدها وأنَّ ذلك يعود - بلا شك - إلى انتمائهم الفطري لها وارتباطهم التاريخي بها منذ أقدم العصور. |
لقد تكثَّفت الحملةُ الصهيونيةُ - داخل البرلمان الإنجليزي، وخصوصاً عندما تكوَّنت الحكومة العُمَّالية الثانية سنة 1929م، بقيادة ((رامزي ماكدونالد)) الذي عَهِدَ بالشؤون الفلسطينية إلى وزير المستعمرات - آنذاك - سيدني ويبْ Sidney Webb، ولقد قامَ الأخير بإصدار ما يُسمَّى بالتقرير الأبيض، Passfield White Paper، في أكتوبر 1930م، الذي ينصُّ على تَسْهيل شؤون الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين، مع التأكيد على مَراعاة حقوق الفلسطينيين والحفاظ عليها، إلا أنَّ هذا التأكيد اللَّفظي على الحقوق الفلسطينية أثارَ زَوْبَعةً كبرى في أوساط رجال السِّياسة البريطانيين من أنْصارِ الحركة الصهيونية مثل لويد جورج، وتشمبرلين Chamberlain وبالدوين Baldwin، مما اضطر رئيس الوزراء ((ماكدونالد)) إلى إسناد الشؤون الفلسطينية إلى لجنة وزارية جديدة وإقصاء ((سيدني)) عنها، كما كَلَّف ((ماكدونالد)) هذه اللجنة بمناقشة القضية مع لجنةٍ من الوكالة اليهودية، ولقد قامت اللجنتان - البريطانية واليهودية، بإصدار رسالة موقعة من رئيس الوزراء إلى ((وايزمان)) في فبراير 1931م، وكان صدور هذه الرِّسالة إيذاناً بفسْح مضمون التقرير الأبيض وبدايةً لمرحلة جديدة من مراحل استعمار الحركة الصهيونية للأراضي الفلسطينية حيث فُتح بابُ الهجرةِ على مصراعيه أمام يهود العالم، فلقد قَفز عَدَدُ المهاجرين إلى ما يقربُ من 62 ألف في سنة 1935م،وهو مُعدَّلٌ سريع لم يكن يُحْلَمُ به في سنة 1930 بحسب تعبير ((حاييم وايزمان)) Chaim Weizman زعيم الحركة الصهيونية. |
ولقد تمكَّنت الحركة الصهيونية خلال الفترة الزَّمنية 1930 - 1940م، من تقوية مواقعها تدريجاً داخل أروقة السِّياسة البريطانية وعلى وجه الخصوص ضمن دائرة الحركة العُمَّالية البريطانية حتى استطاعت في نهاية الأمرْ أنْ تكون عاملاً فعَّالاً في المسارات التي تنتهجها هذه الحركة العُمَّالية، ويمكن التدليل على هذا التغلغل الرهيب من خلال فقرات القرار - المنحاز إلى اليهود انحيازاً واضحاً - والذي اتخذته اللجنة التنفيذية لحزْب العمال في سنة 1944م ثم تبنَّاه الحزبُ في اجتماعه السَّنوي، استناداً إلى القرار السابق الذي اتخذه حِزْبُ العمَّال في اجتماعه سنة 1944م، فإنَّ الحركة الصهيونية أخذت في نشاطها السِّياسي المعروف لتسْهيل مهمة صُعود حزب العُمَّال إلى سُدَّة الحكم في بريطانيا وهذا ما حَصَلَ فِعْلاً في عام 1945م حيث تغلَّب العُمَّاليون على المحافظين بأغلبية ساحقة وهو الحدَث الذي عَبَّر عن فرحته واغتباطه به الإرهابي المعروف ((مناحيم بيغن)) في مُذكِّراته ((يومياتُ الإرهابي مناحيم بيغن، ترجمة وتقديم ((معين أحمد محمود))، ط2، بيروت 1403هـ، ص 25)). |
ولم تمض مدة طويلة على استقرار رئيس الوزراء العُمَّالي Attlee Clement في ((10)) داوننغ ستريت)) حتى كتبَ إليه الرَّئيس الأمريكي ترومان في أغسطس 1945م، طالباً منه حالاً تسهيل مهمة هجْرة عشرة آلاف يهودي إلى فلسطين، وعلى الرغم من تحفُّظ ((أتلي)) ووزير خارجيته “Bevin” على المطالبة الصّهيونية - الأمريكية، إلاَّ أنَّ ذلك لم يَحُل دون تبلور موقف عام للحزب بَرَزَ في مُناصرة الحركة الصهيونية في مطامحها ورغباتها غير المشروعة، وهذا الدَّعم شجَّع الفصائل الصهيونية مثل ((الهاغاناة)) Hagana، والأرغون Irgun، على ارتكاب أعمال إرهابية ضدَّ الوجود العربي والمصالح البريطانية على حدّ سواء في فلسطين، ومنها تفْجيره ما يَقْرُبُ منْ مائة شخص بين عَرب وإنجليز. وعندما قامت الحكومة البريطانية بسحب قواتها من فلسطين بعد أنْ تأكَّدتْ من قيام الدَّولة اليهودية على أرض فلسطين العربية والمسلمة، كان مجموع مَنْ قُتِلَ على أيدي العصابات الصّهيونية من الإنجليز - أنفسهم - بين سنوات 1945 - 1948م، ما يقرب من ((338)) شخصاً، إضافة إلى ما تحمَّلَه الآخرون من أفراد الشَّعْب الإنجليزي عن طريق دَفْع الضَّرائب منْ نفقات مالية للجيش البريطاني بلغ مقدارها ((100)) مليون جنيه استرليني، وكان ذلك كله نتيجةً للسِّياسة المنحازة التي انتهجتها الحكومات البريطانية المُتعاقبة في سبيل إنشاء وطن قومي لليهود، وهذا الانحياز في الماضي يدفعنا للأمل في أنْ تنتج الأحزاب البريطانية الحالية سياسة أكثر واقعيةً وعَدَالةً في سبيل تعويض الشعب الفلسطيني عَمَّا فقده من أرض ودم ومال،متخلِّصة في الوقت نفسه من عُقدة الذَّنب التي تُحاول الصهيونية من خلالها ابتزاز الشّعوب الغربية كَامِلةً. |
|