شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

الرئيسية > سلسلة الاثنينية > الجزء الثامن (سلسلة الاثنينية) > حفل تكريم الدكتور محمد رجب البيومي والشاعر فاروق شوشة (اثنينية - 109)
 
(( كلمة المحتفى به الدكتور محمد رجب البيومي ))
ثم يدعو مقدِّم فقرات الأمسية الأستاذ عدنان صعيدي ضيف الأمسية الأول الدكتور محمد رجب البيومي للحديث قائلاً:
الأستاذ الدكتور محمد رجب البيومي مع ترحيبنا بمقدمك وباحتفائنا بك هذه الليلة يسرنا الآن أن ندعوك للالتقاء بجمهور الحاضرين، ونرجو إن شاء الله أن نسعد بهذا اللقاء.
 
فيلبي الدكتور محمد رجب البيومي الدعوة ويلقي الكلمة التالية:
- بسم الله الرحمن الرحيم، رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي.. هذه آية كريمة قيلت على لسان سليمان بن داود حينما مر على وادي النمل وسمع نملة تقول: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يَحْطِمَنَّكُمْ سليمان وجنوده.. وأنا لم أكن أقل دهشة من نبي الله حينما وجدت هذا الحفل الكريم، وحينما وجدت هذا المكان العظيم، جئت ولم يكن في تصوري أن هنا حفلاً سيُقام أبداً، والله جئت على أن سامرنا لن يزيد على ثلاثة أو أربعة، أما هذا الحفل الرائع الذي لم يجل بخاطري، وأما الكلمات الرنانة الممتازة التي قالها زملائي الأعزاء، قالوا ما لا بعين الواقع، فأنا أقل من هذا بكثير، ولكن بعين العطف والحب، وهذا ما أسجله لهم جميعاً، وبالأخص أخي مصطفى عبد الواحد الذي أسبغ عليَّ من فضله ما أنوء بثقله، لذلك لم تكن دهشتي أكثر من دهشة نبي الله حين أقول رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي....
- على أنني حينما زرت جدة بعد عشر سنوات، ووجدت هذا التقدم الحضاري الهائل كنت لا أعتبره وحده مقياس تقدم جدة، بل أعتبر هذا الاحتفال من إنسان لا يعرفني ويتفضل بأن يُسبغ عليّ من عطفه وأن يقيم هذا الحفل، هذا هو اللون الحضاري بجدة، ليست المسألة مسألة مبان وقصور، فشيكاغو قد تكون أفضل من جدة مبانياً وطرقات وناطحات سحاب، ولكن جدة بأخلاقها وسمو رجالها هي الحضارة الأصيلة لأن المباني ليست شيئاً، ولكن هذا الكرم السابغ الذي أضفيتموه عليّ، والذي قام به الأستاذ الجليل دون أن يعرفني ودون أن أعرفه، مما يجعلني أعتقد أن الحضارة حضارة خُلقية لا مادية، وأنها هي أسمى الحضارات..
- ولذلك قد تكون البيداء أحسن من الحضر، لأن البيداء فيها صفات الحضارة، فيها الكرم والفتوة والشجاعة والمروءة، وهي بذلك وجه ظليل وإن قَفَر، ونهرٌ جارٍ وإنْ لم يجر فيه ماء، فقد جرت فيه السماحة، وتدفق فيه الوفاء، ولأمر أراده الله عزّ وجلّ، أراد أن يبعث من هذا البلد الطيب رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم إن الله عزّ وجلّ يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته وأكثر الناس حينما يتكلمون عن ذلك يقصرون الحديث على آباء الرسول وأجداده فيقولون إنه خيار من خيار، وهذا حق لا شك فيه ولكني أمتد بالآية إلى أبعد ما يكون، أمتد بها إلى المكان وإلى الزمان، الله أعلم حيث يجعل رسالته في الحجاز، وأعلم حيث يجعل رسالته في هذا الزمان الذي طغى فيه الفسق فجاء محمد صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور.
- أذكر أن الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني قد كتب كتاباً تحت عنوان "رحلتي إلى الحجاز" وكان قد حجّ قبل أن تأتي الطائرات وقبل أن تأتي السيارات في العشرينات حينما كان الجمل وسيلة الحاجّ، قال هذا الرجل: لقد ركبت الجمل فكان معي عربي يقود الجمل، وجاء وقت الطعام وقلت له تفضل معي فقال: أكلت بالأمس، إن كلمة "أكلت بالأمس" رنَّت في أذن المازني رنين الرَّعد، ففتحت عقله على شيء كبير، قال إن العربي الذي جاء من الحجاز ليفتح العالم هو الذي أكل بالأمس، إن محمداً صلى الله عليه وسلم حينما اختار الصفوة من هؤلاء الذين خاضوا الصحراء وذهبوا إلى اليرموك كانوا لا يأكلون كثيراً، وكانت عندهم الصفات التي تحمل هذه الرسالة من محيط إلى محيط، ولذلك كان العربي أجدر الناس بحمل الرسالة، وكان هذا المكان هو أسمى مكان، والله عزّ وجلّ أعلم حيث يجعل رسالته، أبناء الفتوح كلهم من هذا المكان المثنّى بن حارثة، خالد بن الوليد، سعد بن أبي وقاص، ثم ننتقل عبر العصور: عقبة بن نافع، قتيبة بن مسلم، محمد بن القاسم الثقفي، موسى بن نصير..
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
 
- وكلهم خيار من خيار، فالله أعلم حيث يجعل رسالته.
 
- على أني أذكر في جدة بالذات شيئاً عجيباً، كان أستاذي الكبير الدكتور عبد الكريم جرمانوس المستشرق الشهير ولا أقول مستشرقاً لأن كل من تشرف بالإسلام لا يُعتبر مستشرقاً وإن كان من أوروبا لأنه مادام قد حفظ القرآن، ومادام قد استنشق عبير النبوة، فهو عربي أصيل أو متعرب على أكثر تقدير، قال لي: إنني حين زرت جدة رأيت عجباً، دخلت بيت عالم جليل هو الشيخ محمد نصيف فشعرت وكأنني في بيتي، لا أطلب الطعام إلا وأجده أمامي، لا أطلب الشراب والكساء إلا وأجده طوع يدي، وأطلب مخطوطات لا أجدها في الأزهر ولا في أوروبا وأجدها عنده، إن هذا الرجل قد أذهلني، وإنه تحفة عظيمة، وإنه نفحة من نفحات رسول الله.
- هذا الكلام الذي قاله لي أستاذي الكبير عبد الكريم جرمانوس أستطيع أن أقوله عن أخي العزيز الأستاذ عبد المقصود حينما فتح هذا المكان لنا دون أن نعرف، وقد كان نصيف يقابل عبد الكريم جرمانوس وهو لا يعرفه كما حدثني، ولست أبادله ثناءاً، ولكن الحقيقة يجب أن تظهر، إننا نشيع المثالب دائماً ونخفي المحاسن وهذا غبن للأخلاق، علينا إذا رأينا محسَناً من المحاسن أن نشيد به لخلق الجيل، ولنضع المثال، ولكننا نشأنا على أن نُجسّم الهَنات وعلى أن نفضح السيئات.
- أما ما يقوم به ماجد كريم كمحمد نصيف في القديم أو كالأخ العزيز عبد المقصود في الحديث، هذه المكرمات لا بد أن تُسجل ولا بد أن تُدوَّن، والقدماء كانوا أحسن منا كثيراً وكثيراً في الكتب القديمة كالعِقد الفريد وعيون الأخبار قد حفِلت بأخبار ذوي المروءات، وسجلت ما كان عند معن بن زائدة وما كان عند حاتم الطائي وما كان عند عروة بن الورد وما كان عند يزيد بن المزْيَد وما كان عند هؤلاء، هنا في هذا العصر أناس كالراحلين ولكن يا للأسف لا نسجل شيئاً حتى نظن أن الرحلة قد انقطع بها المسير، ولكن الإسلام لا ينقطع وما وُجد الإسلام فقد وُجدت المروءات ووجدت الثروات، فأين المُسجِّلون وأين المؤلِّفون؟
- أماكن الحجاز لها عبَق كبير عند المسلمين جميعاً، ونحن نعلم أن كل قصيدة قيلت بل أكثر قصائد الشعر العربي القديم حتى في هذا العصر عند شوقي فيها ترنّم بأماكن الحجاز والناس يعدّون ذلك تقليداً، ويقولون إنه تقليد منهي عنه، والله أنا لا أميل إلى هذا، أميل إلى أنني وأنا على مشارف القرن الواحد والعشرين إذا تكلمت عن ذي سلم وإذا تكلمت عن العقيق وإذا تكلمت عن سلى لست أُقلد، إنني أحب هذه الأماكن بروحي وأود كمسلم أن أشمّ ترابها وأن أستنشق عبيرها، فإذا قلتها في قصائدي فأنا صادق، وعلينا أن ننظر إلى الأدب نظرة الواقعية الأخرى، علينا حينما نقرأ مثل هذه الأماكن أن لا نقول إنه تقليد أبداً نقول إنه إنسان مسلم يهتف وإنها روح تحنّ، وإنها قلوب تَئن، إذا سمعنا مثلاً قولُ يقابل قول عمر بن الفارض:
هل نـار ليلـى بـدت ليلاً بـذي سلـم
أم بارقٌ لاحَ في الظلماء فالعلم؟
أدوح نعمان هلاَّ نسمةً سحراً؟
وماء وجرة هلاَّ نهلة بفم
- إذا سمعنا الحديث عن وجَرة وذي سَلَم وإضم لا بد أن نعتبر أن هذه الأماكن الحجازية لها في القلب رنين ولها في النفس ذكريات، ولا بد أن تعيش، ولا بد أن نقولها وإن قالوا مقلدون؟ أَحْبِب بالتقليد إذا كان فيه ذكر أماكن رسول الله.
- أضرب لكم مثلاً، عندنا شاعر كبير كالشريف الرضي قال قصائد معروفة بالحجازيات فجاء شاعر آخر مهضوم الحق اسمه "الابراردي" قال قصائد رنانة سماها النجديات، تقرأ النجديات فلا يرويها أحد، وتقرأ حجازيات الشريف فتطير بها كل مطار، لماذا كان هذا؟ لأن الشريف الرضي ذكر أماكن رسول الله، إذا قال، مع أنه في الغزل، إذا قال:
تحمل جيرانُنا عن منى
وقالوا النَّقا بيننا موعدُ
تنادَوا بأن التنائي غداً
لـك السـوء مـن طالع يـا غـدُ
يُباع فينشد كأس الغَبوق
وقلبي يُضاع فلا يُنشد
 
- بل إن له قصيدة مرقصة على منى لا أدري كيف قالها فقد مزج فيها الذكريات بالغزل الرائع، يقول:
إني عشقت على مِنىً
لمياء يقتلني لماها
راحت مع الغزلان قد
لعبت بقلبي ما كفاها
ترجو الثواب فمهجتي
هذي القريحة من رماها
شمس أقبِّل جيدها
يوم النوى وأُجِلّ فاها
وأذود قلباً ظامئاً
لو قيل وِرْدك ماعداها
يا سرحةً بالقاع لم
يبلل بغير دمي ثراها
ممنوعة لا ظلهما يدنو إليَّ ولا جناها
أكذا تذوب عليكُمُ
نفسي وما بلغتْ مناها
أين الوجوه وحبّها
وأود لو أني فداها
أمسي لها متطلعاً
في الحاضرين ولا أراها
واهاً ولولا أن يلوم اللائمون لقلتُ آها
 
- هذه نفحة من نفحات الحجازيات، ولو شئت أن أذكر كل ما أحفظه للشريف في هذا لامتدَّ بنا الوقت، ولكن حسبي من القلادة ما أحاط بالعنق.
- إن هذه الأماكن العظيمة رنت في الشعر العربي وستظل ترن وسنظل نسمعها، ومهما قال الناقدون إنها تقليد فإنها والله تجديد، لأنها تهيج المشاعر وتُحبب الناس، إن الظرف الحجازي الذي جعل فقهاء الحجاز من أظرف الشعراء يجب أن يُسجل، عندنا عروة بن أذينة يقول شعراً لا يقوله أكثر الشعراء وهو صاحب القصيدة:
إن التي زَعمت فؤادك مَن لَها
خُلقت هواك كمـا خُلقـت هـوى لهـا
بيضاءُ باكرَها النَّعيم فصاغها
بلباقة فأدقها وأجلَّها
 
- والقصيدة مشهورة ولكن له قصيدة أخرى غير مشهورة من رائع أغاني الحجازيات يقول فيها عن النساء المحرمات:
فولهن بالبيت العتيق لُبانةُ
والبيت يعرفهن لو يتكلم
لو كان حَيَّا قبلهن أوانساً
حيا الحطيم وجوههن وزمزم
 
- إن هذه الأماكن المقدسة التي تُذكر في الشعر، إننا نحبها وإنها حجازية رائعة، وأنا أحرص على أن ننظر إلى المقدمات الطللية من هذه النظرة فإنها لا تزال تنفح بالوجدان ولا تزال تضيء للإنسان، الإنسان العربي المسلم.
- على أني فوجئت بأن أتحدث عن نفسي، ماذا عسى أن أقول؟ إن إخواني الذين تكلموا عني جعلوا الدرهم ديناراً؛ وجعلوا القيراط فداناً، فألبسوني ثوباً فضفاضاً، الأستاذ أبو مدين والأستاذ مصطفى، والأجلاّء الذين سمعتهم الآن أخشى بعد ذلك أن أتكلم عن نفسي فتذكرون قول أبي الطيب المتنبي:
كنا نظن ديارَه مملوءة
ذهباً فمات وكل دار بلقع (1)
 
- على أني سآخذ من أخي مصطفى ما قال لأتكلم في ظلال ما قال، لأن أثقل الحديث حديث النفس، كلمة (أنا) أثقل من الرصاص وأسوأ من الحجارة، وكيف أقف في هذا الجمع المَهيب لأقول أنا، سأتكلم عن غيري في ظلال ما قال أخي مصطفى، أخي مصطفى ذكر من أساتذتي الدكتور أحمد أمين والأستاذ أحمد حسن الزيات والأستاذ محمد فريد وجدي.. أدور حول ما ذكر، وهو الذي رسم لي، فأقول: نعم إنني نشأت على أدب هؤلاء، تعلمت في الأزهر، أجل، كما يتعلم الناس جميعاً ولكن هواي الروحي كان مع الثلاثة الذين اختارهم أخي العزيز الدكتور مصطفى عبد الواحد، أولهم عندي وأجدرهم بالمحبة محمد فريد وجدي لا لشيء إلا لمواقف إنسانية رائعة رأيتها منه وأنا صغير فشُرِهت نفسي، وزاغ البصرُ مني.
- محمد فريد وجدي مؤلف دائرة المعارف وصاحب ألف كتاب وصاحب اللسان الطاهر النقي الذي يتعرض للملاحدة بلسان الملائكة، هذا الرجل المتواضع العظيم، أول مرة دخلت عليه في مكتبه وهو مدير في مجلة الأزهر هزني بشيء واحد، جلست أمامه فإذا به كلما يدخل الفَراش عليه يقف ثم يجلس حين يذهب الفَراش، وتعجبت وقلت إن الفَراش يؤدي دوره وهو خادم في المكتب، فسألته بسذاجة، لماذا تقوم للفَراش؟ قال: ولدي، أقوم للناس أمامه ولا أقوم له؟ أين المساواة؟ هذا الفعل البسيط ترك في نفسي تأثيراً كبيراً عن الرجل فأحببته حُباً كثيراً، وأخذت أقرأ مقالاته، لأن هناك فرقاً بعيداً بين أن تقرأ لإنسان تحبه وإنسان لا تحبه، أنت إذا قرأت لإنسان تحبه تعيش معه بوجدانك، وتعيش معه بروحك وأنفاسك.
- من الروائع أننا الآن إذا كتب أحدنا مقالاً ذهب يتطلب أجره ولو كان في الإسلام، وأخذ يطبعه عدة طبعات ويطلب الأجر، أما أنا فوقفت لمحمد فريد وجدي على خارقة عجيبة جداً، كان شخص في بلدة حقيرة صغيرة أقصد، آسف على كلمة حقيرة، في بلدة تسمى (إخطاب) مسيحي اسمه "تادرس مسيحة" يرسل لمحمد فريد وجدي خطابات يناقشه فيها، ويُفضل المسيح على محمد، ولو كان محمد فريد كأي كاتب عظيم لما كان يعبأ بهذه الخطابات، ففي مرة كنت أزور هذه البلدة، فإذا بهذا الرجل البسيط يقول لي: أنا أراسل فريد وجدي وعندي له عشرين مقالة، عجبت هل يجد فريد وجدي من فراغه ومن روحه ومن إحساسه أن يكتب هذه المقالات التي لو جُمعت لصارت كتاباً؟ أخذت أقرأ وأنا أندهش، ثم ذهبت توّاً إلى الأستاذ فريد وجدي، وقلت له: لقد كنتُ في "إخطاب" وقرأت رسائلك العلمية الضافية، فلماذا لا تنشرها على الناس بدلاً من أن تبعثها بالبريد لشخص واحد؟ قال لي: يا بني، إنه يُناقشني ويفضل المسيحية ويتكلم فيها ويبخس في الإسلام، فلو تركته لاعتقد ذلك، ولو أجبته ونشرت المقال لأوجدت فتنة بين المسيحين والمسلمين، فوقفت في حرج، أأسكت عنه؟ ذلك لا يرضي ضميري، أم أنشر المقالات؟ ذلك لا يرضي ضميري أيضاً فجعلت أرد عليه وجعل يرد علي وقد أكون مريضاً، ولا بد من الرد، لأن الرسالة رسالة الإسلام، هذه الكلمة "لأن الرسالة رسالة الإسلام" جعلتني أتخذه مثلاً أعلى.
- فإذا انتقلنا إلى الأستاذين الكريمين: أحمد أمين وأحمد حسن الزيات، فقد سعدت بمعرفتهما ولكني كنت أخاف لقاء الأستاذ أحمد أمين جداً لأني أشعر حين أقدم عليه كأني أقدم على عرين الأسد، بينما كنت أحب "الزيات" جداً وأقدم عليه فرِحاً مسروراً، أتدرون لماذا؟ لأن الأستاذ أحمد أمين كنت إذا قدمت له مقالاً قال لك: اجلس، ثم جعلك تقرأ المقال أمامه، ثم أخذ يناقشك وكأنك طالب عنده، ثم أخذ يُبكتك على الخطأ، وهذا حق له، وهو بذلك أستاذ مصلح، أما الأستاذ الزيات فأنيس يأخذ المقال ويضعه في الدُّرج، ثم بعد ذلك تُفاجأ بنشر المقال ولا ينظر إليك ولا يوجهك في شيء، لذلك كان مَثل مجلس الأستاذ أحمد أمين كمثل من يأكل "جوز الهند" يتعب في كسره ويحطم نفسه حتى يشرب الماء وهو فيتامين جيد، أما الأستاذ الزيات فكأنه يأكل برتقالاً أو "يوسف أفندي" فيأكله على الجميع ثم بعد ذلك تأتي الفائدة، ولكنه دون فائدة الأستاذ أحمد أمين.
- أذكر لكم شيئاً عجيباً سمعته عنه: كتبت مرة مقالاً عن جرجي زيدان، ثم بعثت به إلى الأستاذ أحمد أمين لينشره فمضى شهر وشهر، وقلت: إن الرجل رفض المقال، وغرق في الطوفان حيث لا يُصاحَبُ غريق لأني كنت في الرابعة في كلية اللغة، فلم أشأ أن أكلمه عنه كيلا يمتحنني، وكيلا يقول لي: أحضر المقال ويناقشني فيه، ثم دخلت وأنا أتجاهل المقال فقال لي: رجب رجب تعال، قلت: نعم، قال: مقالك عن جرجي زيدان أعطيته للمؤرخ عبد الحميد العبّادي عميد كلية الآداب وسيأتي هنا يوم الخميس ليناقشك في بعض مواقفه، أنا فرحت لأني سأشرف بلقاء عبد الحميد العبّادي، وإذا قال لي عبد الحميد العبّادي وأنا طويلب صغير: إن مقالك ضعيف فأنا الكاسب، فرحت كثيراً، وكنت أشوق إلى لقاء عبد الحميد العبّادي، فلما جاء يوم الخميس ذهبت إليه فوجدت الرجل مبتسماً وقوراً وناداني بهمس، وقال: أهذا مقالك؟ قلت: نعم، قال: أرجو أن تُضيف إليه سطراً، قلت: أضيف إليه سطراً؟ أضفه أنت، قال: كيف وهو سيظهر باسمك لا بد أن أناقشك في السطر الذي أضيفه.
- كنت أتكلمُ عن جرجي زيدان كمؤرخ فوازنتُ بينه وبين الأستاذ محمد الخضري فقلت: إن جرجي زيدان كان يُطل على العالم بعدة علوم فلم يتكلم عن الخلفاء فقط، ولا عن القضاء فقط، ولكن تكلم عن مظاهر التمدن، أما محمد الخضري فقد تكلم عن الخلفاء ولم يوفِّ التمدن حقه، فكتاب جرجي زيدان أقوى من كتاب الشيخ الخضري، قال الأستاذ عبد الحميد عبّادي هنا أكتب ما يأتي: هذا السطر الذي حرص أن أكتبه ومنع نشر المقال حتى آتي، قال: أكتب ما يأتي: وليس ذلك لعجز من الخضري ولكن الخضري كان مُقيّداً بمنهج في الجامعة وبمنهج في مدرسة القضاء، فهو يتتبع في التأليف المنهج، ولو تُرك له الخيار لزاد وأفاض، وأما جرجي زيدان فكان مطلقاً، وليس المطلق كالمقيد.
- هذا إنصاف عظيم من هؤلاء الأماثل ومن هؤلاء الأفاضل، جعلني أحترم الكلمة، وجعلني أعلم أني لا أضيف شيئاً إلى غير صاحبه، ماذا كان يهمني لو زاد هذا السطر من عنده، أنا سأوافق عليه، ولكن حرمة الرواد وحُرمة أساتذة الجيل الماضي هي التي شجعت البقية الباقية من هذا الجيل، وللأسف هذه البقية ذهبت سلفاً دون خلف.
- بعد ذلك واصلت السير وتفضل الإخوان فتحدثوا عني، ولكن لا أدري ماذا أقول بعد ذلك، الأستاذ الكبير مصطفى أشار إلى أني شاعر وإلى أن لي قصيدة قلتها في ضوء المقابر وسأقولها الآن، لأن معي الديوان، وهو الذي اختارها، فإذا كانت ضعيفة فسأشكوه، وإذا كانت قوية فالحمد لله.. الأجر له دائماً لأنه رجل فاضل وأسبغ عليَّ وجعل من القط أسداً.. أي والله.
 
- القصيدة التي أشار إليها أخي العزيز الأستاذ الدكتور مصطفى عبد الواحد وهو قمة من قمم مكارم الأخلاق وادّعى أنني كنت أوجهه، أبداً، نحن فرسا رِهان، كان يوجهني كما أوجهه، كنا يدَين تتعاقدان وإن كان هو سبق في التأليف، سبقني لأنه محقق ومؤلف ودارس، حيّاه الله وأنسأَ في عمره ليخدم الناس.
- القصيدة التي قلتها، أنا لا أتعمد أن أقول الشعر، ولكن ظروفاً فُجائية تأتي إليّ فتجعلني أقول، عندنا في المنصورة طريق جميل تذهب إليه شمالاً حيث المطرية، يمتد حول ستين كيلومتراً ففي يوم من الأيام بعد العشاء ركبت السيارة وذهبت في هذا الطريق إلى بلدي، وهي قرية صغيرة تسمى قرية "الكفر الجديد" فبعد أن جاوزت المنصورة بكيلو متر واحد وجدت حديقة عظيمة جداً كانت تُعرف بحديقة آل نور وكلها زهور ورياحين وقد سطع عليها البدر فكساها جلالاً، خُيل إلي أن أشعة السماء قد امتزجت بأشعة الورد وأن هناك خيوطاً تكون سلالم فلو ركبتُ إليها لطرت إلى السماء، فوقفت مدْهوشاً وقلت لسائق السيارة: بربك إني أريد أن أشرب الماء، وما بي شُرب الماء، ولكن رؤية الضياء، فنزلت وأخذت أتملى هذا المنظر الجميل وأنا أرى أن البدر أجملُ مظاهر الطبيعة وأحسن شيء في الوجود.
- ثم بعد ذلك انتقلت إلى قرية أخرى تسمى: "سلامون القماش" ونظرت فوجدت مقبرة هائلة والبدر واقف في أفقها شاحب ضئيل، تغير منظر البدر أمامي بعد أن كان ملِكاً مُتوّجاً أصبح في هذه المقبرة كأنه دامس، ووجهه كاسف، والبدر هو البدر والليلة هي الليلة والساعة هي الساعة، أخذني شعور مُفاجىء بين الانبساط الزائد في النظرة الأولى، والانقباض المستفيض في النظرة الثانية، وقلت هي إذن ليست مسألة بدر ولكنها مسألة الإنسان، الإنسان حين كان سعيداً أشرق البدر وحين كان غير سعيد فقد لحق البدر بالكسوف، ظلت هذه المعاني تختلج في نفسي، وأنا حين تختلج المعاني أخرج ورقة قد تكون "صحيفة" وقد تكون قديمة وأكتب على هامشها، فما وصلت إلى بيتي حتى قلت هذه القصيدة "البدر في سماء مقبرة" فإن تفضلتم بسماعها فلكم الشكر الجزيل والذي اختارها هو أخي الكبير الدكتور مصطفى، لأخرج من عهدتها:
 
"البدر في سماء مقبرة":
أَنِرْ ظلمة الأجداث إن كنت تقدر
فما غيرها ليل يُهاب ويُحذر
أنرها تكن بدراً نهيم بحبه
وإلا فما جدوى لنورك تُذكر
أنرها تخفف سطـوة المـوت فـي الورى
فنُسْكَت من آهاتنا حين تثأر
تُطل عليها من عُلوِّك ساهماً
وفي وجهك الكابي شُحوبٌ مُعبِّر
أترثى لها أن هشهشت لَبِنَاتُها
وحل بواديها البلاء المُقدَّرُ
ضياؤك صَوَّالٌ على كل حِندسٍ
فكيف بميدان الردى بتقهقر
يُحاذر أن يدنو فيُقبر في الثرى
وللحسن هول فاتح حين يُقبرُ
له العذر أن يَرتد لَهفان مُقْفِلا
فكـم مـن ضريـح قـد هَوَى فيـه نَيِّر
حكيت نحور الغيد بشراً وفتنة
وها هي ذي تحف الثرى تتبعثر
لها ألقٌ زاه كنورك ساطع
يشع فيسبي ناظريه ويبهر
فلما دنا منها الحِمَامِ هوى بها
إلى حيث تنشق القلوب وتُفطر
سناك سناها فالذي غال سحرها
يغولك فهو القاهر المُتَجبر
أنرها تقدم للملايين مِنَّة
تُيسر شيئاً بعض ما يتعسَّرُ
ضياؤك إن يأتِ البساتين رائعٌ
كأن كنوزاً منه في الروض تُنثر
يفيض على الأزهار سحراً فتغتدي
عرائس في أفواهها تتبخرُ
وينسج للأغصان أبهى غلالة
من النور تسبي العين أيان تنظر
كأن سيولاً من ضياءٍ تساقطت
غيوثاً بها الأفنان تُروي فتُثمر
يَرُوقك مرأى الروض فـي رونق الضحـى
كمـا راق مـرأى الروض والليل مُقمـر
هـو النور فـوق الزهـر لا حُسْن مِثلـه
كمـا هـو فـوق النهـر يُصـبي ويُسحِرُ
هو النور في ومض العيون ملاحةٌ
وفي أوجه الغادات بِدعٌ مُصورُ
وفي بسمات الفاتنات سُلافة
تُدار على الرآئي مُفيضاً فيكسرُ
أثار ضُرام الشوق في كل مهجة
فأضحت به أحشاؤنا تتفطر
هو النور في كل الأماكن رائع
ولكن لدى الأجداث زيف مُزوّر
ألا ليت من يهوى الحسان وضيئة
يخف لدى الأجداث ليلاً فيصبر
يرى قيمة الضوء الأصيل في حِمىً
يُعافُ به الضوء الأصيل ويُنكر
فيأنف من غُرِّ الثنايا وومضها
ويزْوَرُّ عن لمح العيون وينفِرُ
ويَعلم ألا ضوء إلا ودونه
- وإن خدع الدنيا - حِمَامٌ مظفر
ويعرف أن النور في الروض زائل
إذا عصفت بالروض نكباء صَرْصَرْ
وأن ائتلاق الضوء في النهر خدعة
كما لاح في الصحراء آل مُغرِّرُ
أنر ظلمة الأجداث يـا بـدر نستــرح
فتلك التي نلتاع منها ونضجر
إذا ما تذكرنا الدُجى في لحودنا
ونحن بصفوٍ هانئٍ نتكدَّرُ
أنرها وإلا فابتعد عن سمائها
فتُلقى قياد المستكين وتُعذر
 
- هذه هي القصيدة التي أشار إليها أخي العزيز الدكتور مصطفى عبد الواحد، ولعلكم تعلمون من قراءتها أنني من تلاميذ مدرسة الديوان، فقد بدأت أقرأ شعر شعراء البعث، وحفظت شعر شوقي وحافظ ثم بعد ذلك قرأت شعر العقاد وشكري والمازني، وشعر العقاد أكثر صلابة ولكن فيه الفكرة الرائعة، وشعر شكري يجمع بين الفكرة والعاطفة، وشعر المازني رقيق جميل خلي من صلابة العقاد وجفاف شكري، هؤلاء الذين تأثرت بهم، وإن كنت أذكر فضلاً آخر لشاعر كبير لم أجلس معه غير خمس دقائق أو عشر على الأكثر، هذا الشاعر هو شاعر القطرين الأستاذ خليل مطران، كنت مرة في دار البلاغ مع أستاذي الكبير الدكتور زكي مبارك، فقال لي: من ذا تريد أن تُقابل من الأدباء، قلت: والله علمت أن خليل مطران مريض وأحب أن ألقاه قبل أن يموت، لأنني متأثر بشعره، قال: وماذا يهمك من مطران، أنا أحسن منه، قلت: أعلم هذا ولكني أريد أن أراه، فقال: سنذهب لرؤيته، كان يستشفي في ماء حلوان، وكان في الأيام الأخيرة من عمره، فأخذت قصيدة لي كنت نشرتها في الرسالة تحت عنوان "الصداقة" وكنت معجباً بها كثيراً جداً جداً، مطلعها:
تناءيت عني بعد طول..
 
- وكنت سعيداً بهذه القصيدة جداً جداً، فأحببت أن أقرأها على خليل مطران، وذهبت وأنا أعتقد أنه سيقبلني ويقول لي شعرك عظيم فذهب زكي مبارك معي إلى خليل مطران، ولم يكن يعتقد أن شيخاً مُعمَّماً أزهرياً يُعجب به ويأتي إليه، فلما أسمعته القصيدة قال: يا بني.. إنك تملك النَّول وليس لديك النسيج، قلت: وكيف ذلك؟ قال: جئت بالخواطر العادية التي يقولها الناس، ولكن الشاعر يجب أن يكون فيلسوفاً، يجب أن يفلسف الفكرة، يجب أن يُعمقها، يجب أن يكون لها لديه أبعاد وأطوال، وأنت لم تعد هذا، قلت يا سيدي أنا أقول مثل ما قال محمود غنيم والأسمر قال هم مثلك وأنت مثلهم، وفرحت بهذه الكلمة لأنني ظننت أن البلاء مُشترك وأننا في الشرق، قال: إذا أردت أن تكون عظيماً فلا تكتفي بالخاطر العابر لا بد أن تفلسف القصيدة، ولا بد أن تُفلسف الفكرة، أنت تتحدث عن الصداقة، لا تقل إن صديقك قد تجافى عنك وأنه تناءى عنك، أبداً. قل: لماذا تناءى، اربط الصداقة بالوجود، اجعل الصداقة سراً من أسرار الكون، اجعلها صلة بين العالم الأرضي والعالم السماوي، تعطي القارئ فكرة جديدة، ولذا أنت تملك النَّول وليس عندك النسيج، ولقد كان هذا الدرس عندي أحسن من ألف درس، وخرجت وأنا أقتدي به كل الاقتداء.
 
- أرجو ألا أكون قد أطلت عليكم فيما لا يُفيد، فما هو إلا كلام دون تحضير، شرَّق بي وغرَّب، وعلى الله قصد السبيل، والسلام عليكم ورحمة الله.
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :814  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 164 من 196
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

جرح باتساع الوطن

[نصوص نثرية: 1993]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج