شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الحَلْقَةُ العِشْرُونَ
حضر الفتى مبكراً إلى الدرس قبل قدوم أستاذه الشيخ ببضع دقائق ومعه سؤال حيره جدًّا.. حاول أن يفتش له عن إجابة وافية من معلوماته المحدودة فلم يجدها.. قدم الشيخ الوقور بهندامه الطويل ووجهه المنير ولحيته البيضاء الطويلة التي تنم على الوقار والصفاء فسلم على فتاه وقال: أراك استعجلت المجيء اليوم يا بني، يبدو أنك تحمل أسئلة محيرة مثل الدرس السابق. قال الفتى: بل سؤال واحد قَضَّ مضجعي وحرمني لذة النوم ليلة البارحة.. قال الشيخ ألهذه الدرجة سؤالك صعب يا بني؟
قال الفتى: نعم أستاذي الشيخ.. قال الشيخ: أسمعني سؤالك فقد شوقتني جدًّا لسماعه.
قال الفتى: يقول الحق في كتابه الكريم قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ (طه: 63) فكيف جاء لفظ هذان مرفوعاً مع أنه اسم إنْ؟ اعتدل الشيخ في جلسته وأصلح من وضع عمامته وقال لفتاه: من القراء من قرأ ـ إنْ ـ مخففة وهنا لا مجال للسؤال.
فـ ((هذان)) مبتدأ وساحران خبر واللام هي اللام المزحلقة من المبتدأ إلى الخبر تفيد تقوية الحكم وتوكيده.. أما من قرأ ـ إنَّ ـ مشددة فالتخريج فيها كالآتي: إنَّ ـ حرف توكيد ونصب ـ ها ـ إسمها.. مبني في محل نصب ـ ذا خبرها مبني في محل رفع والنون للمثنى ومنهم من قال إنْ هنا بمعنى نعم. واستشهدوا بقول الشاعر قالوا اعتلاك الشيب قلت إنَّهْ ـ أي نعم ومنهم من قال إنْ هذان جاءت على لغة بني الحارثة وهم يعاملون المثنى رفعاً ونصباً وجرًّا بالألف.
فيقولون: جاء الولدان.. ورأيت الولدان.. ومررت بالولدان.. وفوق كل ذي علم عليم.
قال الفتى: وإلى أي التخريجات يميل أستاذي الشيخ؟
قال الشيخ: سؤالك محرج جدًّا على كلٍ أميل إلى التخفيف.. وإلى القول الثاني..
أخذ الفتى منكبًّا على كراسته يدوِّن فيها هذه الأوجه الإعرابية ثم رفع رأسه وقال لشيخه: كم أنت عظيم أيها الشيخ!! قال الشيخ: العظمة لله وحده يا بني، فما أنا إلا طالب علم أعب من معينه الذي لا ينضب ما بقيت الحياة فينا.
ثم أخذ الشيخ يستعد لشرح الدرس الجديد فقال: ومن الأسماء المنصوبة خبر كان وأخواتها وهي أفعال ناقصة.. أصبح ـ أضحى ـ ظل ـ بات ـ أمسى ـ ما برح ـ ما انفك ـ ما فتئ ـ ليس ـ ما زال ـ ما دام ـ وكلها تدخل على المبتدأ والخبر فتنسخ الخبر من الرفع إلى النصب وينعت خبرها منصوباً بها.
رفع الفتى إصبعه طالباً من أستاذه الشيخ ذكر أمثلة لكل فعل منها.. قال الشيخ: لا عليك فسوف أفعل ذلك إن شاء الله فلا تعجل يا بني.
كان الهواء رطباً ـ أصبح الماء عذباً ـ أضحى المساء عليلاً ـ ظل الهواء طلقاً ـ بات الأمر واضحاً ـ أمسى العلم مفيداً ـ ما برح الشوق عاصفاً ـ ما انفك الصدق منجياً صاحبه ـ ما فتئ الإسلام مضيئاً ـ صار الماء ثلجاً ـ ليس الكذب محموداً ـ مازال المطر نازلاً ـ لا أغادر الدار مادام الثلج متساقطاً.
وعليك أيها الفتى أن تدرك من البداية أن هذه الأفعال تأتي ناقصة وتأتي تامة. أي تكتفي بفاعل لها فقط ما عدى ثلاثة منها.. لا تأتي إلا ناقصة وهي: ليس ـ مازال ـ ما فتئ. رفع الفتى إِصبعه مشيراً بسؤال عاجل.. أذن له الشيخ بطرح سؤاله. قال الفتى: حبذا لو ذكر لي أستاذي الشيخ أمثلة لهذه الأفعال تامة ـ قال الشيخ إليك أمثلة لمجيء هذه الأفعال تامة مكتفية بفاعل لها فقط نحو ألقاك حين تصبح ـ أي وقت الصباح ـ وأزورك حين يمسي الليل ـ أي وقت امساء الليل ـ أضحى النهار علينا ـ أي جاء وقت الضحى ـ لو ظل الصراع لأدى إلى ما لا تحمد عقباه ـ أي لو بقي ـ باتت الطيور في أقفاصها ـ أي نامت ـ ودخلت ـ أدافع عن ديني ما دامت الروح ـ أي ما بقيت الروح ـ لن أبرح الميدان حتى تنكشف المعركة ـ أي لن أغادر ـ إنفك رسان الفرس ـ أي انحل. ومن أمثلة القرآن الكريم جاء قول الحق سبحانه وتعالى وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ (البقرة: 280) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (الروم: 17) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ (هود: 108) فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي (يوسف: 80).
رفع الفتى إصبعه مستأذناً بإلقاء سؤال له. قال له الشيخ: تفضل بإلقاء ما شئت من الأسئلة يا بني على عجل لأننا تأخرنا هذا المساء. قال الفتى: هل هذه هي كل الأفعال الناقصة يا شيخي العزيز؟ قال الشيخ: ما دمت قد سألتني هذا السؤال فما علي إلا الجلوس بعضاً من الوقت لأقول لك لا ليست هذه هي كل الأفعال الناقصة بل هناك أفعال ناقصة قد تزيد في عددها على عدد كان وأخواتها التي ذكرناها آنفاً.
فمن هذه الأفعال.. آض ـ رجع ـ عاد ـ استحال ـ قعد ـ ارتد ـ تحول ـ غدا ـ راح ـ جاء ـ أخذ.. انكب الفتى على كراسته يدوِّن هذه الأفعال التي ارتجلها شيخه من ذاكرته ولا بد من معرفة سبب مهم جدًّا لعمل هذه الأفعال عمل ـ صار ـ ألا يأتي خبرها جملة فعلية فعلها ماضٍ ـ لأن ذلك يتنافى مع زمن ـ صار ـ إذ يفيد التحول حتى وقت الحديث عنه وإليك أمثلة لهذه الأفعال في جمل مفيدة تقول مثلاً: آض الماء بارداً ـ رجع الليل مظلماً ـ عاد الجو صحواً ـ استحال الجمر رماداً ـ قعد البطل جوالاً في الميدان ـ صار الضوء خافتاً ـ إرتد البصر خاسئاً ـ تحول الضباب مطراً ـ غدا الطريق واضحاً ـ راح الطالب مقدراً مسؤولياته ـ أخذ الجو يبرد.
سأل الشيخ فتاه.. هل في مخيلته أي سؤال حاضر في ذهنه الآن.. قال الفتى: لقد أرهقتك كثيراً هذا المساء أيها الشيخ الجليل.. وراح كل منهما إلى سبيله على أمل اللقاء غداً إن شاء الله.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :679  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 23 من 76
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

محمد سعيد عبد المقصود خوجه

[صفحة في تاريخ الوطن: 2006]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج