شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
القلق داء… ودواء…
إن في الإنسان عدواً كامناً في نفسه يعكر عليه صفوه ويسلبه راحته ويقف حجر عثرة في سبيل هنائه وسعادته ألا وهو (القلق).
إن الإنسان الذي تمكن بعقله وذكائه من الوصول إلى كثير من أسرار الكون وسخر قواها في سبيل خدمته ورفاهيته، ما زال عاجزاً عن تفهم كنه هذا العقل والوقوف على بواطنه وأسراره. والعقل للإنسان كربان السفينة يديرها دائماً إلى بر السلامة والأمان، فلو غفل عنها لارتطمت السفينة على شعاب الصخور أو ذهبت بها الأعاصير والأنواء إلى الغرق والفناء؛ وكذلك العقل إذا غفل عن قيادة صاحبه لتأثر بالانفعالات النفسية التي قد تؤدي به إلى كثير من الأمراض، ومن أكبر تلك الانفعالات النفسية ((القلق)).
وينشأ القلق بسبب صدمة لموت حبيب أو وقوع كارثة أو مرض مخوف، أو إفلاس، هذا إذا أنزلت به مثل هذه النوائب بالفعل؛ وقد ينشأ القلق من توقع وقوع مصيبة لما تقع ويقدر وقوعها، وقد ينشأ القلق من التوافه التي ليس لها وزن بالمرة فإذا كان هناك عقل واع يتلقى الصدمات بالصبر والسلوان ويترك التفكير في ما يقدر وقوعه ويطرد الأوهام وصغائر الأمور وسلم أموره لله وحده ويعلم أنه مسير لا مخير، فقد أمن لنفسه الصحة والعافية؛ أما إذا لم يردعه عقله وتمشى مع خياله وأوهامه، فإنه يفقد هناءه وسعادته وربما أدى به إلى أمراض خطيرة لا قبل له بتحملها والتخلص منها.
ويقرر أطباء علم النفس والأعصاب أن جميع الانفعالات النفسية لها أثر خطير على الصحة وتؤثر في الوظائف الفسيولوجية للجسم، وأنه يوجد في كل جسم ضعف في ناحية من نواحي تكوينه فتتأثر تلك الناحية قبل غيرها فيصاب الإنسان بالأرق أو فقدان الشهية أو قرحة بالمعدة أو التهاب الأثنا عشري أو السكر أو ضغط الدم وأخيراً قد يسلمه القلق والتفكير إلى الخبل والجنون..
ولقائل أن يقول إن سبل المعيشة اليوم قد تعددت مسؤولياتها وكثرت تبعاتها وهي لا تعفي أي إنسان من المهم والقلق والخوف من المستقبل.. وهذا صحيح إلى حد ما، ولكن يلزم الإنسان أن يتغلب بعقله ويصد كل ما يخيفه ويقلقه وينغص عليه هناءه.
ويقول أطباء علم النفس والأعصاب:
إن التفكير المعقول يعالج بالأسباب والنتائج والتفكير اللامعقول يفضي إلى التوتر والانهيار، وعلى الإنسان أن يواجه أسوأ الفروض في محنته ويرضى مما ليس منه بد، فعليك والحالة هذه أن تسأل نفسك وهو أسوأ ما يمكن أن يحدث لك وهي نفسك لقبول أسوأ الاحتمالات، ثم اشرع في إنقاذ ما يمكن إنقاذه ثم لترض بالأمر الواقع رضاءً بالقضاء والقدر، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (البقرة: 156 ـ 157).
يقول أفلاطون: إن أكثر أخطاء الأطباء أنهم يحاولون علاج الجسد دون العقل في حين أن العقل والجسد وجهان لشيء واحد فلا ينبغي أن يعالج أحد الوجهين دون الآخر فيلزمنا أن نثق بالله وحده ونتكل عليه في كل الأمور ونؤمن بقوله تعالى: قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (التوبة: 51) ولننظر إلى الجانب البهيج من الحياة فنضحك لها ولنترك النظر إلى الجانب القاتم منها فنبكي وحدنا. يقول الفيلسوف الإغريقي هرقليط من قبل خمسة آلاف من السنين: (كل شيء يتغير إلا قانون التغير فإنك لا تهبط نهراً بعينه مرتين فالنهر يتغير كل ثانية وكذلك الرجل الذي يهبط، إلى الحياة فالحياة في تغير دائم والشيء الأكيد في هذه الحياة هو اللحظة التي نعيش فيها فلماذا نشوه جمال حياتنا بحمل هموم المستقبل الذي يخضع لقانون التغير).
وجاء القرآن الكريم فأجمل كل هذه القالة في جملتين فقط كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (الرحمن: 29)..
يقول الأستاذ بودلي في كتابه (رياح الصحراء والرسول) ما خلاصته:
(إنه في عام 1938 يمم شطر افريقيا الشمالية الغربية (1) حيث عاش مع الأعراب المسلمين في الصحراء وقضى سبعة أعوام بينهم أتقن خلالها لغة البلاد وارتدى زيهم وأكل طعامهم وعاش في الخيام وتعمق في دراسة الإسلام وألف كتاباً عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم عنوانه (الرسول) وكانت تلك الأعوام أمتع الأعوام وأمتع سني حياته وأحفلها بالسلام والاطمئنان).
* * *
ومحل الشاهد قوله: (تعلمت من عرب الصحراء كيف أتغلب على القلق فهم (مسلمون) يؤمنون بالقضاء والقدر وهذا الإيمان ساعدهم على العيش في أمان واطمئنان إنهم يؤمنون بأن ما قدر يكون وأن الفرد لن يصيبه إلا ما كتب الله عليه) ويقول: إن الأعوام التي قضاها في جنة الله (الصحراء) أقنعته بأن الملتاثين والمرضى النفسيين والسكريين الذين تحفل بهم أوروبا وأمريكا إن هم إلا ضحايا المدنية التي تتخذ السرعة أساساً لها، ولقد دلت الاحصائيات في أمريكا أخيراً بأن ثُلث مليون أمريكي قتلوا في الحرب العالمية الثانية بينما قضى بداء القلب الذي نشأ من القلق مليون شخص، وهناك علاج وظيفي يقول به علماء النفس وهو أن ينهمك الإنسان في عمل ما فإذا لم يكن لديه عمل وظيفي فعليه الاشتغال بالألعاب الرياضية كالصيد أو الرسم أو التجذيف أو لعب الكرة، فإن انشغاله بالعمل لا يسمح له بالتفكير في قلقه وأحزانه. يقولون إن تشرشل سئل في إبان الحرب العالمية عندما كان يشتغل ثماني عشرة ساعة هل هو قلق من جراء المسؤوليات الضخمة الملقاة على عاتقه؟ فأجاب: (إني مشغول جداً إلى حد أنه ليس لدي، الوقت الكافي للقلق). ويقول برناردشو الكاتب والفيلسوف الإنكليزي: إن الإحساس بالتعاسة هو أن يتوفر لديك الوقت لتتساءل أسعيد أنت أم لا؟ ويقول الدكتور كارل منجز الطبيب النفسي: (إن القلق يجعل من أصلب الرجال عوداً مريضاً واهناً). ويقول الدكتور ألكسيس كاريل: (إن رجال الأعمال الذين لا يعرفون كيف يكافحون القلق يموتون مبكرين).
* * *
أصبتُ في أواخر السنة الماضية بشيء من القلق والضيق النفسي وكنت أزمعت أن أمضي أوقاتي ما بين الصلوات في الحرم النبوي وتلاوة القرآن والمطالعة والتحرير؛ وبالفعل هيأت كتباً لهذا الغرض، وما إن مر شهران على، حتى أحسست بضيق وقلق يساورني كلما خلوت بنفسي وتراءت لي الأحلام المزعجة والرؤى الخبيثة وأحسست بدنو الأجل حيث جاوزت الستين من العمر وأصبحت لدي حساسية مرهفة بحيث أتأثر من وقع الجرس أو دق مسمار وفي بعض الأحيان أبكي، لأتفه الأسباب، فكنت أسري عني بتلاوة القرآن أجزاءً عن ظهر قلب وأتجلد بالصبر والسكوت حتى لا تدرك أم عزيز (قرينتي) ما يعتورني من القلق والضيق ولكنها اكتشفت أخيراً ما ألم بي فطفقت تسليني وتذكرني ما قاسيناه من الشدائد حينما كنا في ضنك من العيش وأفراد عائلتنا يزيدون على الاثني عشر شخصاً فكنا هانئين واليوم بفضل الله كبر الأولاد وتزوج من تزوج من الأخوات وأكثر الأولاد. وبقي منهم أقل من النصف في طريق إتمام دراستهم، ولدينا من المال ما يستوعب مصرفنا والحمد لله، فكنت أسمع منها كالمتبلد ثم أرجع لنفسي فأقرر بصحة ما تقوله لا سيما ما قاسته هي من أهوال شتى الأمراض فأجريت لها أربع عمليات في البطن كلها خطيرة فكانت تتحملها بصبر ورباطة جأش وأنا ألم أكن منهمكاً في عدة أعمال ذات مسؤولية قبيل عشر سنوات؟ فبينما أنا كنت أدير معمل النسيج بالمدينة كنت أقف لدى المحاكم لمباشرة قضايا المالية وغيرها، في الوقت نفسه اتخذت الفلاحة مهنة أتسلى بها في أوقات الفراغ وكثيراً ما كنت أمشي في حر الظهيرة إلى بستان النصيري راجلاً فتشفق علي أم عزيز فكنت أرى ذلك الشقاء سعادة وهناء ولم يسعني بعد هذا إلا الاعتراف بأني بطر وأشر بنعمة الله سبحانه فأظل أبكي على السعادة التي أراها شقاء وتعاسة وكم كنت أترنم بقول ابن نباتة:
يا مشتكي الهم دعه وانتظر فرجاً
ودار وقتك من حين إلى حين
ولا تعاند إذا أصبحت في كدر
فإنما أنت من ماء ومن طين
وأردد قول الشاعر:
ما مضى فات والمؤمل غيب
ولك الساعة التي أنت فيها
وكم تعوذت في تلاوتي ودعائي بأدعية واردة فكان يخفف عني بعض الشيء غير أن اليأس والخوف كان يتغلب علي ويقلقني في الوقت الذي يسرني الشعر الرومانطيقي كدالية المتنبي:
عيد بأية حال عدت يا عيد
وخاصة قوله:
يا ساقيي أخمر في كؤوسكما
أم في كؤوسكما هم وتسهيد؟
أصخرة أنا ما لي لا تحركني
هذي المدام ولا تلك الأغاريد
إذا وجدت كميت اللون صافية
وجدتها وحبيب القلب مفقود
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبه
أني بما أنا باك منه محسود
وكانت أحسن الساعات تلك الأمسيات التي أروح فيها مع جاري الحبيب القاضي فضيلة عبد المجيد حسن في سيارته إلى ضواحي المدينة فنقضي ما يقرب من ساعتين في احتساء الشاي والمسامرة، فكان يسليني ويصف لي آيات لإعادة الطمأنينة والسكينة، وهناك بعض القريبات زعمت أني مصاب بعين وأحضرت لي بعض التعاويذ فاشترطت أن تكون من القرآن فكانت سورة الفاتحة مكتوبة على صحون الصيني وموضوع العين والحسد والسحر ثابت بالقرآن في سورتي (الفلق) و ((الناس)) كما أن القلق والوسوسة ثابتان في سورة الناس أيضاً.
لا أطيل عليك قارئي العزيز، فإن حالتي لم تعد لحالتها الطبيعية فعرضت نفسي على الأطباء فاكتشفوا ضعفاً في الأعصاب ووصفوا لي دواء مقوياً فقط، وأخيراً نصبت من نفسي خصماً أستجوبه ما هي أسباب هذا القلق والضيق فكانت الإجابة كما يلي:
1 ـ أيها الكهل، إنك مع قرينتك أصبحت سجيناً في شقة بعد أن كنت كثيراً بعيالك في بيت مستقل.
2 ـ ألم تتجاوز أيها الشيخ الستين من العمر فتتصور شبح الموت يدنو إليك.
3 ـ إنك وكيل قصار وغيب من ذوي القربى، فماذا عملت لأجل مصلحتهم؟.
4 ـ ماذا قدمت لآخرتك من أعمال صالحة وأنت مثقل بالذنوب والآثام؟.
5 ـ إن هذه الصلوات والتسابيح والتلاوة إن هي إلا كالروتين كالآلة الصماء بدون خشوع أو حضور قلب ولذا فأنت قلق حزين.
صح أن هذه الأفكار كانت تسبب لي القلق فعملت جاهداً في ما يمكن لي عمله وذلك بأن قررت السفر إلى الأولاد والرجوع بولدنا الصغير عبد السلام وترك أخيه الأوسط (طالب بكلية الهندسة) ضمن البعثة السعودية؛ أما كريمتاي فسوف أزفهما لزوجيهما ما دام قد جرى عقدهما في العام الماضي؛ أما ما يساورني من قرب الأجل فإن الآجال معدودة (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) وسأعمل لمصلحة القُصَّار والغبَّب بما فيه مصلحتهم، وبالفعل وفقت لإنماء مال القُصَّر 25% ودار وقف الغيب أبدلتها بعقار يغل ثلاثة أضعاف غلته الحالية (2) .
أما ما قدمته من صالح الأعمال، فالله به عليم وسوف أقدم النور أمامي بقدر إمكاني واعتمادي على رحمة ربي التي وسعت كل شيء؛ أما موضوع العبادات فهي فتنة عامة وإن كان المسلمون إلى خير.. ويوم نعمل بالحديث: الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك فسوف ندخل الجنة سلاماً بسلام.
وها أنا جئت للقاهرة وكان من أثر القلق أن ترك عندي ضغطاً في الدم وضعفاً في الأعصاب فعولجت ولله الحمد وأنا في طريقي للعودة إلى الوطن مصحوباً بابني الصغير، ولا أنسى ما لمصر من الذكريات الطيبة وما لعلمائها من الفضل في تثقيف أولادي الخمسة ونهلهم من مناهل العلم في مدارسها وجامعاتها الكبرى.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :809  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 46 من 113
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج