شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مذبحة الأبرياء
قصتنا هذه الأمسية: (مذبحة الأبرياء) للروائي البلجيكي المحامي موريس مترلنك. ولد مترلنك عام 1862 وتوفي عام 1949م. يعد مترلنك في طليعة أدباء بلجيكا تأثراً بالأدب الفرنسي.. ورائعة هذه الليلة (مذبحة الأبرياء) في قمة القصة القصيرة البلجيكية.
الراوي: وفي ليلة من ليالي ديسمبر سمع بعض الفلاحين السامرين في أحد مقاهي ((نازرت)) صوت راعٍ غلام يصرخ:
الراعي: أغيثونا.. أغيثونا.. أدركونا..
الراوي: وخرج الفلاحون على صوته وبدؤوا يسألونه عما به فأجابهم:
الراعي: لقد هاجمنا الأسبان وأحرقوا مزرعتنا وشنقوا والدتي وربطوا إخواتي التسع على جذوع الأشجار.
الراوي: وأمطره الفلاحون بوابل من أسئلتهم المتنوعة فقال لهم:
الراعي: إن جنود الإسبان من الخيالة يتمنطقون الدروع والسيوف وقد ساقوا مواشي عمي بطرس وهم الآن يدخلون بها منطقة الأحراش.
الراوي: وأوقد النساء المشاعل وخرجن إلى الساحة حيث اجتمع الرجال للتشاور فيما يجب وأسرع أحدهم فاستدعى صاحب المزرعة التي يشتغل بها الراعي فحضر على عجل ثم ارتقى أحد أبراج القرية للاستطلاع، وحين عاد سأله أحدهم عما رأى فأجاب:
صاحب المزرعة: لقد رأيت سحابة حمراء تغطي مزرعتي وفيما عدا ذلك فالجو صحو والسماء صافية الأنجم..
الراوي: وتداول الفلاحون فيما بينهم واستقر رأيهم على أن يختبئوا في الحرج الذي سيمر به الأسبان ويهاجمونهم إن كانوا قلة ويستردوا المواشي والأسلاب التي نهبوها وتسلح الفلاحون بفؤوسهم ورُفُشهم ومناجلهم ثم ساروا إلى أحد المرتفعات في الحرج واختبأوا بجانب الطاحونة الموجودة هناك وبعثوا بأحدهم إلى صاحب المطحنة للاستطلاع من موقعها العالي وحين عاد هذا أخبرهم أن عدد الأسبان أربعة وهم في الطريق إليهم.. فقال كبير الفلاحين..
كبير الفلاحين: أيها الرفاق! عندما يصل فرسان الأسبان الأربعة إلى قرب المطحنة سنباغتهم من جميع الجهات.. فلا تدعوا لأحدهم فرصة للهرب.
الراوي: وهاجم الفلاحون فرسان الأسبان الأربعة وقتلوهم مع خيلهم واستاقوا المواشي والأسلاب وعادوا بها إلى القرية حيث كان بانتظارهم صاحب المزرعة والنسوة، فأقاموا الأفراح بين ترانيم الصبية والنسوة وشاركتهم الكلاب - بنباحها وتناسوا في غمرة فرحتهم المرأة المصلوبة والبنات الموثوقات بالأشجار حتى ذكرهم ولد المرأة المقتولة قائلاً:
أحد الرعاة: أنسيتم والدتي المشنوقة وأخواتي المربوطات إلى جذع الأشجار..
كبير الفلاحين: ليذهب صاحب المزرعة ومعه أقرباء المرأة المصلوبة وبعض الرجال لنقل القتيلة وفك البنات وإسعافهن وجلبهن إلى القرية.
الراوي: وسارت هذه الجماعة إلى المزرعة التي وجدوها ما تزال تحترق وحلُّوا وثاق البنات المربوطات وأنزلوا المصلوبة وعادوا إلى القرية حيث دفنوا القتيلة في اليوم التالي.. ومرّ أسبوع من دون أي شيء يذكر وإذا بفصيلة من الجنود الأسبان المدججين بالسلاح تصل فجأة إلى القرية بقيادة ضابط عجوز فساد الذعر.. وترقب أهل القرية الفجيعة، وكان مع كل فارس إسباني جندي من المشاة، وانتشر الجميع يطلبون الدفء والطعام.. وبعد أن نالوا منهما مطلبهم قال لهم قائدهم:
القائد: والآن اجمعوا لي أطفال القرية وأي شخص لا يسلمكم طفله، هاتوه إلي معه بالقوة وأجمعوا مواشي القرية جميعها أيضاً..
الراوي: وانتشر الجنود في أنحاء القرية يجوسون خلالها وهرع الفلاحون إلى عمدتهم للتفاهم مع القائد الأسباني.. وسار العمدة إليه وحوله جماعة من الفلاحين يرتجفون هلعاً وبرداً، وكان أحد الجنود قد اختطف أحد الأطفال قسراً من والديه ولم يستطع العمدة التفاهم مع القائد الأسباني لأنه كان يجهل لغة البلد..
وأمام الملأ من الجنود والفلاحين إحتز الجندي رأس الطفل ورمى بجثته على الأرض فصرخت والدته:
الأم: قطعت يداك أيها السفاح الآثم.. لتنزل لعنة السماوات عليك وعلى قومك..
آه.. يا ولدي.. آه يا ولدي.. آه.. آه..
الراوي: وحملت المسكينة ولدها وركضت وهي تتعثر به فوق أكداس الثلوج..
أما والد الطفل فدخل في معركة مع القائد وأحد الجنود وتجرأ بعض فتيان القرية فحصبوا الأسبان بالحجارة وجذوع الشجر.. ولكن الفرسان شرعوا رماحهم وسيوفهم وهاجموهم فهربوا مع النسوة وتفرقوا شذر مذر وانكمش عمدة القرية ومن معه من الخوف وصرخ الضابط العجوز في جنوده:
الضابط: ماذا تنتظرون.. هيا نفذوا الأوامر..
الراوي: وانطلق الجنود يهاجمون الدور ويختطفون ما فيها من أطفال.. فجمعوا ثلاثة منهم وعادوا بهم إلى قائدهم ورموا بهم تحت قدميه.. فانفلت أحد الأطفال وأسرع راكضاً إلى القرية، فتبعه أحد الجنود وقتله بسيفه وأتبع رفقاه الطفلين الآخرين به.. وارتفعت أصوات أهالي الأطفال بالنحيب والبكاء ومعهم بقية أهل القرية.. وركع العمدة تحت قدمي الضابط وقال:
العمدة: رحماك أيها الضابط الكبير.. اقتلنا نحن وخل هؤلاء الأطفال ما ذنبهم أرجوك الشفقة.. أرجوك.. أرجوك يا سيدي..
الراوي: ولم يلن قلب الضابط المتحجر.. بل أمر مشاة جنوده وفرسانه بتنفيذ الأوامر فانطلقوا يبحثون عن الأطفال الذين أسرع آباؤهم بتخبئتهم في المغاور والأماكن المجهولة.. ولكن بكاء هؤلاء الأطفال من الرعب كان يدل على أماكنهم فيمسكون بهم ويرمون بهم تحت أقدام الضابط الذي كان يأمر بذبحهم في الحال على مرأى من آبائهم وأمهاتهم.
ورأى أحد الجنود بيتاً كبيراً مطلية جداره بزرقة فصرخ في رفاقه..
الجندي: هيا إليه.. أيها الرفاق.. فإن فيه صيداً ثميناً.
الراوي: وحاول الجنود فتح البوابة - ولكنهم لم يستطيعوا - فتسلقوا ودخلوا إلى الدار من إحدى النوافذ - فوجدوا جمعاً من الرجال والنساء والأطفال كانوا حول مائدة طعام كبيرة فاختبأوا حينما سمعوا بما يجري في القرية - فصار الجنود يسحبون الأطفال من بين المختبئين الذين دبّ فيهم الحماس حينما رأوا أطفالهم يختطفون، فهبوا وجرت بينهم وبين الجنود معركة قتل فيها بعض الجنود وقتل كثير من الرجال والنساء واستنجد الجنود بإخوانهم فأنجدوهم فاستمر القتل واستطاع الجنود أخذ الأطفال واسر بقية المقاومين وسوقهم إلى مركز القائد حيث أعدم الأطفال وصلب المقاومون على جذوع الأشجار..
وتنادى سكان القرية وألهبت نفوسهم وأذكتها أصوات النساء ومناظر الدماء المهراقة فوزعوا أنفسهم إلى جماعات وصرخ أحدهم قائلاً:
أحد الفلاحين: أيها الرفاق.. نحن سائرون إلى الموت فيجب ألا نموت إلا بعد أن ننتقم لأنفسنا.
الراوي: وهاجمهم الجنود - فصار الفلاحون يستدرجونهم إلى الأزقة الضيقة حيث يضربونهم بما لديهم من فؤوس ومجارف، والنساء يرمين بالحجارة والقدور والأدوات الثقيلة من النوافذ وفوق الأسطح على رؤوس الجنود حتى استمر القتل بين الطرفين واضطر قسم من الجنود إلى الهرب إلى حيث يقيم القائد العجوز الذي ما أن رآهم حتى صرخ فيهم:
القائد: أتهربون.. سحقاً وتباً لكم.. هيا ارجعوا وهاجموا..
الراوي: ثم هجم القائد عليهم فكروا ثانية على الفلاحين العزل وأمعنوا فيهم قتلاً وذبحاً.. وانسحب الفلاحون إلى الأماكن العالية وتحصنوا فيها وصاروا يضربون الجنود بكل ما يجدونه بين أيديهم.. ووجد القائد العجوز أن جنوده سيقضي عليهم لا محالة إذا ما استمرت حال المقاومة على شدتها هذه - فأمر جنوده بالانسحاب بعد أن ذبحوا أكثر أطفال القرية.
وبعد انسحابهم صرخ كبير الفلاحين قائلاً:
كبير الفلاحين: إليَّ أيها القوم.. أسرعوا.. أسرعوا.. إلي.. إلي..
الراوي: وتجمعت فلول الفلاحين والفلاحات وبقية من سلموا فقال لهم:
كبير الفلاحين: أنترك الجنود ينسحبون من دون أن نجهز عليهم وننتقم على الأقل للأطفال الأبرياء.
أحد الفلاحين: ما الرأي يا أنطونيو؟
كبير الفلاحين: لا شك أن الجنود سيهجعون في الحرج القريب من القرية لأنهم لن يستطيعوا مواصلة السفر فوق طبقات الثلج الكثيفة.
أحد الفلاحين: حسناً وماذا بعد ذلك؟
كبير الفلاحين: اجمعوا ما لديكم من فؤوس ومجارف وهراوات ورفوش واحملوا معكم صفائح من النفط والجاز وسنشعل النار في الحرج - فمن يسلم من الحريق لن يسلم من فؤوسنا ومجارفنا..
أحد الفلاحين: فكرة هائلة..
كبير الفلاحين: تجمعوا في حذر وبدون ضجة وأنا بانتظاركم هنا.
الراوي: وتفرق الفلاحون كل يجمع ما عنده من سلاح ونفط وجاز..
ثم تجمعوا لدى كبير الفلاحين وساروا صوب الحرج.. فوجدوا جنود الأسبان قد نزلوا فيه وأوقدوا نيراناً لهم يصطلون بها - فرشّ الفلاحون النفط والجاز حول الحرج في حذر وسرعة - ثم أشعلوا فيها النيران.
ولما رأى قائد الأسبان العجوز النار صرخ قائلاً:
القائد: إلى خيلكم أيها الجنود.. هيا.. اهربوا.. قبل أن تأكلكم النيران..
الراوي: ولكن النيران كانت كثيفة بحيث لم يستطع الكثير من جنود الأسبان الخروج - فماتوا حرقاً أو خنقاً من الدخان ومن حاول الهرب منهم لم يسلم من فؤوس الفلاحين..
وكان على رأس الهاربين القائد العجوز الذي ما أن رآه الفلاحون حتى انهالوا عليه بفؤوسهم ومجارفهم وهو يئن ويصرخ..
القائد: ارحموني.. ارحموا شيبتي وكهولتي..
كبير الفلاحين: لا رحمنا الله أن رحمناك أيها المجرم.. أيها السفاح.. يا مصاص الدماء خذ.. خذ.. هذه هي الرحمة التي تستحقها يا أيها اللعين.
الراوي: وينهال عليه كبير الفلاحين بفأسه وتتبعه فؤوس ومجارف وهراوات والقائد يتوجع ويصرخ حتى لفظ أنفاسه.
كبير الفلاحين: هيا جروه.. واسحلوه ثم اصلبوه في ساحة القرية لعلّنا نتعزى بمرآه فيما أصابنا على يده وجنوده من ويلات.
الفلاحون: مرحى أنطونيو.. مرحى أنطونيو.. لقد ثأرت لقتلانا وضحايانا.. بورك فيك.. بورك فيك..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :778  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 18 من 65
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.