أينَ المنى مني؟ وأَيْنَ شبابي؟ |
ثَكِلَ الهوى، وثُكِلْتُ في أَحْبابي |
بالأمس أَنْفَقْتُ الشَبابَ مُوَزَّعاً |
ما بين أحلامٍ.. وبينَ رِغابِ |
وَفَتَحْتُ قلبي للحبيبِ مدينةً |
وَنَسَجْتُ ثوبَ العشقِ من أَهْدَابي |
حتى أَفَقْتُ على تُراب ممالكي |
فإذا دخاني واللهيب: ثِيابي! |
أَرْثي صباحاتي.. فأَيَّةُ طعنةٍ |
مجنونةٍ تَقْتاتُ من أعصابي! |
أَرَقٌ وَمَسْغَبَةٌ وقيحُ تَشَرُّدٍ |
عمري، فما عرفَ النعيمَ كتابي! |
وَرَحَلْتُ: في كوزي دموعُ أَحِبَّتي |
وعلى الهوادجِ لوعتي وعذابي |
كَفَني على كتفي، وتلك سفينتي |
مثقوبةٌ.. هلاَّ قرأت خطابي؟ |
حَتَّامَ أَبْعَثُ للعراقِ رسائلي |
إنْ كان أهلي تحتَ سَقْفِ حِرابِ؟ |
قلبي على بغدادَ عاشقتي التي |
رَضَعَتْ دمي وَتَطَيَّبَتْ برضابي |
وعلى عشيرٍ طال عنه تَغَرُّبي |
وعلى سؤالٍ ماتَ دون جَوابِ |
رحماكِ يا بغداد، أَيُّ معذبٍ |
قلبي؟ فهل ألقاكِ بعد غِيابِ؟ |
أحدو بقافلتي إليكِ فما أرى |
غير الأسى، وأنا الضَياعُ شِعابي |
عَزَّ الذليلُ وَذُلَّ ذات كرامةٍ |
وَسَما لئيمُ الأَصْلِ والأنسابِ |
سَقَطَتْ يدي مني عَشِيَّةَ أَوْثَقُوا |
شَرَفَ العراقِ لفاجرٍ مرتابِ |
فَفَقَأْتُ أَحْدَاقِي عَساني لا أرى |
سَقْطَ الرجالِ يسودُ فوقَ رُقابِ!! |
رُحْماكِ يا بغداد، أَيُّ أنوثةٍ |
تبقى وأَنْتِ خليعةُ الأثوابِ! |
المارقُ التتريُّ ما عَرَفَ الهوى |
يوماً، ولم يُؤْمِنْ بصدقِ مَثابِ |
الحزنُ يا بغدادُ يشربُ من دمي |
فَذَوَيْتُ حتى قد فَقَدْتُ صَوابي |
ما زلتُ يا بغدادُ رُغْمَ كهولتي |
أصبو، وبيْ جوعٌ لبعضِ تَصابي |
ما للهوى يكبو؟ وما لمؤَرِّقي |
ينأى؟ فَهَل نَسِيَ الحبيبُ عِتابي؟ |
الدارُ داري، كيف أُحْرَمُ دِفْئَها |
فالسجنُ لي، والبيتُ للأَغرابِ! |
* * * |
يا دارُ كيف الحالُ بعد غيابي؟ |
وهل احْتَفَتْ بالقَبْرِ "أُمُّ ربابِ"
(1)
|
أينَ الثغور الطَيِّباتُ بلثمِها؟ |
أين العيونُ حدائقي وهِضابي؟ |
وأَخٌّ يقاسِمُني رغيف مَجاعَتي |
وسياطَ جلاَّدي وَنَزْفَ خِضَابي؟ |
وشقيقةٌ كانَتْ إذا سَكَنَ الدُّجَى |
جَلَسَتْ إلى مِحرابِها بكتابِ؟ |
وضَّاءةٌ، يغفو على أَحْداقِها |
حَقْلانِ من ضوءٍ ومن أَعْشابِ؟ |
ودعاءُ أمٍّ في الصباحِ، تَضُمُّني |
كالطفلِ خشيةَ طاعنٍ وثَّابِ |
هَتَكَ الهوى سِرِّي وكِبْرَ رجولتي |
لولاهُ ما عَرَفَ العواذِلُ ما بِيْ! |
* * * |
أَدْمَنْتُ حُبَّكَ يا عراقُ فَهاجَني |
شوقي، ولكنَّ السنين خوابي! |
واليومَ لا أمسي ولا بُقْيا غَدي |
إلاَّ بقايا من رمادِ خَرابِ! |
حَطَّمْتُ كأسي فوقَ مائدةِ المُنَى |
وَرَتَجْتُ في وَجُهِ الصبابةِ بابي |
لكنني دَنِفٌ وفي عرف الهوى |
أَنْ يلتقي الأحبابُ بالأَحبابِ! |
عشرون عاماً ما التَقَيْتُكَ مرةً |
إلاَّ وحزنُكَ يا عراقُ روابي! |
عشرون عاماً والمُخَلَّعُ يرتعي |
وَبَنوهُ، بالأَنْعامِ والأطيابِ |
الناكرون الجارَ حقَّ جِوارِهِ |
والمُطعِمون شَقيقَنا لمَصابِ! |
* * * |
شَوْقي إلى نَهرَيكِ يا مُدُنَ الهوى |
ولكأسِ عاشقتي ببردِ رضابِ |
وَلِجارَةٍ ما بَكَّرَتْ بتحيةٍ |
إلاَّ وخالَطها حَياءُ تَصابي |
وَلِرَنَّةِ الخلخالِ من قَرَوِيَّةٍ |
رَقَصَ الرصيفُ لخطْوِها المنسابِ |
للعطرِ من تحتِ العباءةِ يَزْدَهي |
نبعاً، وللأزهارِ والأَعْنابِ |
لِضَجيجِ أَطفال الزُّقاقِ تواثَبوا |
عند الغروبِ بلعبةِ "الحَطَّابِ" |
ولعازفٍ "بالناي" يصدح مُنْشِداً: |
رحماكَ يا ليلَ الهوى بِمُصابِ |
وَلِشَهْقَةِ الفنجانِ في جَلَساتِنا |
و"الجالِغِيّ" و"شاكر السيَّابِ" |
وَلِخُبْزِ أمي في المساءِ وقهوةٍ |
عربيةٍ بالهَيْلِ للأَصحابِ! |
فأنا ابنُ طينِكَ يا عراقُ فَهاتِني |
من حقلِكَ الميمونِ بعضَ ترابِ |
وأنا ابنُ مائِكَ يا "فراتُ" فَرَوِّني |
من ضِفَّتيكَ – ولو بكأسِ سرابِ!! |
آهٍ على وطني الذي فارَقْتُهُ |
قَسْراً وبيْ جُرحان يا أَحْبابي! |
"القائدُ القوميُّ"؟ محضُ دُعابةٍ |
والقائمون عليه محضُ كِلابِ |
أَنْجَدْتُ يا بغدادُ حينَ تَعَذَّرَتْ |
سُبُلي إليكِ، وقد خشيتُ إيابي |
فوجدتُ في أرضِ "الأمينِ" أَحِبَّةً |
وَوَجَدْتُ ليْ أهلاً ودفءَ روابي |
وَمُطَيِّبينَ لألفِ جرحٍ نازفٍ |
ٍبيْ، والتقيتُ الصحبَ بعدَ غياب |
ووريقَ ظِلٍّ بعد طولِ تَشَرُّدٍ |
ورغيفَ إِكْرامٍ وَصَفْوَ شَرابِ |
لكنني ما خنتُ حُبَّكِ مَرَّةً |
تَبْقينَ يا بغدادُ ماءَ سحابي |
وَلَرُبَّ نأْيٍ يا عراقُ يُذِيقُنا |
طَعْمَ العِناقِ وَلَهْفَةَ الأَبْوابِ |
أنا والعراقُ مناجِلٌ وسنابلٌ |
فهو الرُّحى، أَمَّا الطحينُ؟ شبابي! |