شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
34- الرِّواية...
[يُكشف الستارُ عن غرفة واسعة مؤثثة على الطريقة اليمنية المعروفة، وتضم الأصدقاء التسعة. والشيخ الفيلسوف "علي" يخاطبهم بقوله]:
نحن قد جئنا إلى هذا الفناءِ
حيثُ نحيا، في صفاء وهناءِ
وتركنا الناس في دنياهُمُ
بين كد، وخصام، وعَناءِ
فلنعش نائين عنهم ساعَةً
دون زُورٍ، وخداع، أو هُراءِ
وليقل كل فتى ما يرتئي
دون أن يرهب سلطان الجزاءِ
فَهُنَا حرية الرأي، ولن
يخضع الرأيُ لنير الأقوياءِ
أيها القوم، إلى كم نحن في
هذه الدنيا على غير السواءِ
كلنا يهتفُ بالحق كما
يهتف الصب بحِبٍّ عنه نائي
وأرانا في اختلافٍ دائمٍ
وصراع، ونزاع، وشقاءِ
ولكلٍ منهجٌ يسلكه
مُستنيراً، بشعاع من ذكاءِ
ولكل غاية يسعى لها
ويُناجيها بألحانِ الرَّجاءِ
خَبِّروني لِمَن الحقُّ؟ ومَنْ
منكم أحرى وأجدَى بالثَّنَاءِ
ومَنِ العاقل؟ هل ذو فِطنةٍ
نَهْجُه في العيش نهج الحكماءِ
أم جهولٌ مسرفٌ في أمره
ضلَّ لا يدري ظلاماً من ضياءِ؟
أم غوى، ربُّه شهوتُهُ
تاه في عالم خمر ونساءِ؟
أم غشومٌ قد تعدَّى وطغى
مُستهيناً بحقوقِ الضعفاءِ
أم ضعيفٌ مستضامٌ مالَهُ
من مَلاذٍ غير رَحْمن السَّماءِ
كيف جئنَا؟ وإلى أيْنَ؟ وما
شأننا قَبْلُ! ومن بعد الفناءِ
وكان ينشد الشيخ الفيلسوف "علي" هذه الأبيات في هدوء ووقار، ثم سكت واقترب من الشاعر "أحمد" خطوتين وقال:
أنت يا شاعر نَبْضٌ
من شُعاع الأنبياءْ
لك رُوحٌ قُدُسيٌّ
يرتقي أيَّان شاءْ
لا يصدُّنَّك سِتْرٌ
أو بناءٌ، أو فضاءْ
ولك العينُ التي
تهتك أستارَ الخفاءْ
* * *
هَاتِ حَدِّثْنَا عن الكو
نِ وألغازِ البقاءْ
وعنِ الأرض وسرِّ
الخَلْقِ فيهم، والفناءْ
وعن الناس، نَشَاوَى،
وحيارَى أشقياءْ
وتمر فترةُ صمت قصيرة، ويتجه الجميع نحو الشاعر متطلعين، فينشدهم بصوت حائر:
هكذا صوَّر لي الشـ
ـعرُ وجوداً زاهرا
رَبَّةُ الحكمةِ تشدو
فيه لحناً ساحرا
يَنْشرُ الفَنَّ على الأُفقِ
جمالاً باهرا
ويُذيبُ الحُسْنَ والفتنة
بحراً زاخرا
يتعالى الموجُ كالنُّو
رِ شُعاعاً طاهرا
يَنْثَنِي طوراً إلى
القَعْرِ ويعلو آخِرا
ويذوبُ الكونُ فيه
يتلاشى حائرا
ليس يدْري لِمَ؟ أو
كيفَ أتى؟ أو أينَ ولَّى؟
* * *
قد سألتُ الناسَ عن..
أصلي ومن أين أتيتْ
وسألتُ النَّجْمَ من أيِّ
مكان قد هَويْتْ؟
وسألتُ الروض هَل يبقى
طَريّاً ما حَوَيْتْ!
وسألت البيدَ، هل أرتـ
ـاحُ لَوْ فيها ثويتْ؟
وسألتُ البحر، هل عمقُك
يرْضِي من طويْتْ!
كلُّها صدَّرت، لم تبدِ
جَواباً فانثَنَيْتْ!
حائراً أبكي، وأستفـ
ـهم صوتي أين ولَّى؟
* * *
قد تولى زمن كنتُ
به طفلاً صغيرا
أنظر الدنيا بشوشاً
لا أرى فيها نكيرا
راضياً بالعيش، لا أقلو
غنيّاً أو فقيرا
وأحبُّ الناس أصنافاً
عظيماً وحقيرا
أسفي لما أتى اليوم
عبوساً قَمطَرِيرا
فعرفتُ الخيرَ، والشرَّ
نعيماً وسعيرا
وعرفت الشاةَ لَمَّا
صادَها الذئبُ وولَّى؟
* * *
ليت شعري، هل يضمُّ
الشاةَ والذِّئبَ مكانْ
يلتقي فيه جليلٌ
مُسْتَعِزٌّ ومُهانْ
وظلوم لا يبالي
ليس يدري ما الحنانْ؟
وذليل عاش مقتولَ
المُنَى دامي الجنانْ
ولهيف، وغشوم
ومَدين، ومُدانْ
كيف يأتي ذلك اليوم؟
وفي أيِّ زمانْ
أيكون الكون كوناً
أم سرابٌ قد تولَّى!
* * *
هل سيلقى العبدُ من
مالِكه ما كان يلْقَى؟
ويرى المأمورُ من سَيدِه
جَوْراً وسحْقا
أم جزاءً عادلاً يُنْصِف
من يَضْنَى ويَشْقَى؟
أم هي الأوهام نَبْنِيها
عُلالاتٍ لنَبْقَى؟
ليت شعري لِمَنِ الفَوزُ
غداً حظّاً وحقّاً؟
ألِمَغبونٍ ضعيفٍ
أم لجبَّارٍ تَرَقَّى؟
أم لمن عاش كئيبَ
القلبِ هيمانَ.. وولَّى؟
* * *
الذي يعلم لا يدري
مِن المعلومِ شَيَّا
وترى الجاهلَ كالعالمِ
مَحْروماً شقِيَّا
كلُّهم يَجْهل ما كانَ
وما يأتِي سَويَّا
كم تولَّى الأرضَ جَبَّار
بِهَا عاثَ عَتِيَّا
ولكم تعرفُ مَجْنوناً
وصبّاً، وغَويّا
أَفَتَدْري أنت من ولَّى
إلى أين تولَّى؟
* * *
أأنا الشاعر؟ أم شعريَ
صوتٌ وصدَى!
كان يطوي الأفق
لا يعرف أمساً أو غدا
صارخاً في عالم الأرواح
من غير مَدى
حينما أُخرجتُ أستهدي
من النور الهُدى
ذاب في قلبي، وفي
روحي، شُعاعاً ونَدى
آه لَوْ لَمْ يَسْقِني
كأسَ الأماني سرمدا
ما الذي كان سيبقى
من كياني لو تولَّى؟
ويصمت قليلاً ثم ينشد:
حياتي كلها
بؤسٌ، وأحزانُ
وآهاتٌ وآلا
م، وأشجانُ
* * *
رَأيْت الناسَ لا
يُصْغُونُ للشَّاكي
رأيْتُ الدهر لا
يحنو على الباكي
* * *
وكل فتى ورغبـ
ـتُه قَرِينانِ
تساوى البر والفاجر، والمَجْنِيُّ والجاني
* * *
هو الكون أكا
ذيبٌ، وأوهامُ
أباطيلٌ مُزَ
وَّرَةٌ وأحلامُ
* * *
عرفتُ الناس،
كلّهُم مساكينُ
هُمُ في هُوَّةِ
البؤسِ مساجينُ
* * *
ومالي في الورى
هَمٌّ سوى سِرِّي
ولا خلُّ ولا كأس ولا وطنٌ سوى شعري
* * *
ولن أمْقُتَ مخلوقاً،
ولن أكره إنسانا
ولن أعشق إلاَّ الحسْـ
ـنَ إسْراراً، وإعلانا
وهنا يسكت الشاعر، ويخاطبه "الفيلسوف":
لَمْ تزدنا أيُّها الشا
عر إلاَّ مشكلاتْ
لِمَ، لَمْ تكشِفْ لنا
بالشعر أسرار الحياةْ
فيجيب الشاعر:
أين أينَ السرّ مِنِّي
أنا لا أدري فدعني؟؟
أنا حسبي من حياتي
ووجودي أن أغنِّي
ويمتلك الوجوم والحيرة المجلس لحظة وجيزة، فإذا بصوتٍ عال ينبعث من أقصى المجلس هو صوت "فؤاد" الملحد الشاب قائلاً:
ضَلَّ من قال بأنّ
الكون قد أنشاه فَرْدُ
قادرُ إن رام أو
قدَّر شيئاً لا يُرَدُّ (1)
أنا لا يُعرف لي
بدْءٌ، ولا يُعْرف قَصْدُ
أنا حُرُّ في الملذّات،
وللأطماع عبْدُ
أنا لا يرهبني جورٌ،
ولا هجرٌ وصَدُّ
وأنا الخير الذي يُطـ
ـلبُ، والشر المعَدُّ
كيفما شئتُ فإني
كائنٌ، والجدُّ جَدُّ
قد تساوى الخلقُ، إنسـ
ـانٌ له عقلٌ وقِرْدٌ
كل ما في الكون
يفنى ومحالٌ يُسْتَرَدُّ
ليس في الأكوان أسرا
رٌ، ولا نحسٌ ولسعدُ
السَّنا نورٌ يُرَجَّى
هديه، والصَّخدُ صَخْدُ
ما لنا قبلٌ، وما
للأرض فيما بَعْدُ، بعدُ
غلبَ الغَوغاء
وهمٌ، وخرافات وخُلدُ
يُفزع المأفون، إن
غادر هذي الأرض لحدُ!
سيرى فيه كما
قالوا، بلايا لا تُعَدُّ
وتهاويل، وأشبا
حاً، وآلاماً تَهُدُّ
ويرى الجنَّة
والنَّار ويحيا، ويُرَدُّ
تلك أوهام أناس
بالخرافات استبدُّوا
ولم يكن يصل "فؤاد" في بيانه إلى هذا الحدّ، حتى ينتفض "محمَّد" المؤمن المتدين ويثور كالبركان، ويرسل عينيه نحو السماء كأنما يستنجد بقوةٍ أعدَّها لمثل هذه المواقف ويقول:
أين أنت اليوم يا ربـي؛ بماذا ستجيبُ؟
أينَ قُوَّاتك؟ أين النارُ والموت الرهيبُ؟
فلقد ساءَ مقالاً
فيك كَفَّارٌ كذوبُ
زعم الحشرَ مُحالاً
وبأنّا لا نَؤوبُ
أفلا يعرف، أنَّ الرُّ
وحَ حيٌّ لا يذوبُ
في رحاب لا تراها العـ
ـين موجودٌ مَثُوبُ
باسمٌ إن أحسنَ الصُّنـ
ـعَ، وإلاَّ فكئيبُ
ثم يلتفت إلى "علي" الفيلسوف قائلاً:
أيها الفيلسوف قد هالني ما
قال هذا المضلِّل المغرورُ
أنتَ تَدري بأن ما قال هُجْراً
وضلالاً، فأنت ندبٌ خَبِيرٌ
ألنا مرجعٌ نَؤوبُ إليه؟
ألنا خالقٌ مجيدٌ قديرُ
أصحيحٌ ما قاله الرُّسْلُ؟ أمْ مَا
قالَ هذا إفكٌ مبينٌ وزورُ؟
قلْ، أبِنْ، أيُّها الصديق فقد
هاج فؤادي، والغيظُ فيه يفوزُ
وأنا المؤمنُ الموجِّدُ والدَّيـ
ـنُ لقلبي إرادةٌ، وشعورُ
كيف أَسْطِيع أن أرى من يَسـ
ـبُّ الدِّينَ؟ والدينُ للخليقةِ نورُ
فيبتسم الفيلسوف ابتسامة خاطفة ويقول:
أيها الصاحبُ مهلاً
لا تَثُر لا تتعجلْ
اسمعِ الدعوى وفنِّد
ها فنوناً، وتمهَّلْ
لا ينال الفضلَ إلاَّ
من على الحكمةِ عوّلْ
دعه يهذي ما علينَا
إن تحدَّى أو تَقَوَّلْ
حَسْبُه ربك وادْفَعْ
بالَّتي، والحَقُّ أَمْثَلْ
إن هذا سوف يفنى
ويرى الهول المؤجَّلْ
هات حدثنا عن الدِّين
وقل ما شِئْتْ واسْأَلْ
يَتَلاشى غضبُ المؤمن ويتنفسُ الصعداء ويقول:
صدق الله وخَابَتْ
تُرَّهات الملحدينْ
إنما روحِيَ في
جسمِيَ مسجونٌ غبينْ
سوف أفنى وأوارى
بين طيَّات السنينْ
فإذا ما صُرعَ الكو
نُ وغالتْهُ المنونْ
وأراد اللهُ أمراً
بالورى سوف يكونْ
فسأحيا.. ويعودُ
الروحُ للجسم المهينْ
* * *
أنا لا أرضى سوى
الإيمان خِلاًّ وحبيبا
هو أن أدْلجْتُ نورٌ
يُؤْنِسُ اللَّيلَ الرَّهيبَا
وإذا أوذيتُ سَلوى
تمسحُ القلب الكئيبا
وإذا أرهقني الدَّا
ءُ العَيَا كَان الطَّبيبا
وبه أعرف ما كا
نَ مِنَ الأمرِ غريبا
وبه أرجو من اللهِ
غدا؛ عيشاً رَغيبا
وأرى..
ولكن الشيطان لا يسمح بالاسترسال، إذ يصيح فيه الإِباحي "يحيى":
ما ترى؟ يا أيها الشيخُ
فقد طال الكلامُ
هذه الأرض لك اليو
مَ وفيها ما يُرامُ
ولماذا تترك الدُّنيا؟
أيجديك الحِمَامُ!
إنه الموت، وما الموتُ
هُجوعٌ أو منامُ
إنه سكتة دَهْرٍ
إنه الصمتُ العُقامُ
* * *
أنا حسبي، أنَّ آمال
فؤادي لا تضامُ
لا أرجِّي الغد، فَالكَوْ
نُ اتصالٌ وانفصامُ
فتمتع لا يَصُدَّ
نْكَ حلالٌ أو حرامُ
كل شيء ما خلا اللذ
ةِ إفكٌ وأثامُ
إنها دنياي، خمرٌ
ونشيدٌ وغرامُ
وتهاويل سرور
وملذاتٌ تُسامُ
فإذا أسفر يَوْمي
عن غدٍ وهو جهامُ
لم أُودعْها حَزِيناً
فل قد طابَ المقامُ
كيف لا أشْقى صبابا
تي؟ وفي قَلْبي هُيامُ
كيف لا أهفو إلى الكأ
س؟ وفي صدري أوامُ
وإذا كنتَ تُرَجِّي
لذةً حين تَنَامُ
فهو حُلمٌ وخيالٌ
لَمْ يصدِّقْه الهمامُ
الدعاوي فارغاتٌ
ما لها عندي مقامُ
ويُصوِّب نظره الزاهد "محبوب" ويخاطبه ساخراً:
أيها الزاهد الَّذي
هام بالضَّائعِ المُحَالْ
وتقضَّى زمانه
في همومٍ، وفي جدالْ
يَمْقُتُ الناسَ والحياةَ
ويدعُو إلى الوَبَالْ
وإلى الفقر والضَّنَى
وإلى البؤس والنكالْ
* * *
أنت في كهفكَ الكئيبِ
ترى غير ما نَرَى
صَدَمَتْكَ الحياةُ
حتَّى تنكَّرتَ للورى
لو عرفت الحياةَ لم
تُنفدِ العُمَر في الهُرا
ولما عشت ساخطاً
تحسب البشْر منكرا
* * *
عش خليًّا عن الهمو
م بعيداً عن النِّضالْ
لا تكن ملحداً ولا
واهماً يعبدُ الخيالْ
واشرب الراح واتَّخذْ
لك ربّاً من الجمالْ
وتمتعْ، فإنما
عُرْضَةٌ أنتَ للزوالْ
وما يكاد "الإباحي" يصمت حتى تُصَوَّب الأنظار نحو الزاهد مستفهمة، فيندهشون حين لا يظفرون منه إلاَّ بالصمت، وحين يرونه مطرقاً مفكراً كأنما يتأمل أمراً رهيباً ويقطع الصمت الشيخ الفيلسوف قائلاً:
أيها الزاهد ماذا قد دهاكَ؟
أيُّ خطبٍ يا صديقي قد عراكا؟
قد سمعنا عجباً من مُتْرَفٍ
تَخِذ اللذة ربّاً، ومَلاكا
أنتَ نحريرٌ، ومن حاورتَه
قد رمى الزهدَ، وبالجهل رماكا
فتكلمْ وَادْلِ بالرأي فما
للتقى من ناصر فَذٍّ سواكا
هنا يتحرك لسان "محبوب" الزاهد بعد أن تشرغ عيناه بالدمع ويقول:
آه، ما أجهل عُبَّاد الحياهْ
هَمُّهم في هذه الدنيا السَّفاهْ
جهلوا اللب، وعاشوا هَمَلاً
ضُيَّعاً شيمة من ضَلَّ وتَاهْ
لو دروا ما يكتم الغيبُ لَما
رشفوا الخَمْرَ، ولا ريقَ الشفاهْ
إنما الدنيا التي غَنُّوا بها
حلمُ الخابط في وادي كراهْ
* * *
أنا إن عشت حزيناً، فأنا
من يرى لذته عين أساهْ
أنظر الدنيا بعينيْ حاذقٍ
عرف الناس وأوْهام الحياهْ
لست بالزاري، ولا مَنْ دأْبه
دَأْبُ من يَقْفو بلا علمٍ هواهْ
ليس نصحي أسهماً، لكنه
حَزَنٌ مرّ، وآلامٌ، وآهْ
أندب الإِنسان في أوزاره
وأبكِّي معشر القوم الطغاهْ
وأحب الخير روحاً، وسناً
وعطاءً، وجهاداً، وصلاهْ
لا فجوراً، ومجوناً، ومُنَى
شهواتٍ، وضَلالاً، وسفاهْ
أنا لا أعبد ديناراً ولا
أبتغي مجداً، ولا أطلب جاهْ
أنا حسبي جرعة أشفي بها
ظمئي أو كِسْرَة مما أراه
ثم التفت إلى "يحيى" الإباحي وقال:
أنت يا جاهل مغـ
ـرور بدنيا زائفهْ
إنما الشهوة يا
مغرورُ نارٌ لاهفَهْ
ما الذي أعددتَ للقبرِ وَيَومِ الآزِفَهْ؟
وخيال يتلاشى
وظُنونٌ تالفهْ
أمذاب الكأس؟ أم
دمعة عين ذارفهْ؟
أحطام الحب؟ أم
نغمة لهو عازفهْ!
أأماني الصبِّ؟ أم بسمة وصلٍ خاطفهْ
سوف يُودي بكَ يومٌ
ما له من عاطفهْ
سوفَ تَلْقَى أيها الزنـديقُ منه عاصِفَهْ
تنسف اللذةَ والعمرَ غَضُوباً قاصفهْ
وَيَتَأَثر السامعون ببيان "الزاهد"، فَتُقَطَّبُ الوجوه، وتحملق العيون، ويكاد المجلس أن يرفض لولا أن "علي" الفيلسوف يقول:
قف تمهل أيها الزا
هدُ قد آن السكوتُ
كلنا يعرف، أن الكـ
ـون هذا سيموتُ
وبأن العمر كالفكرة
تأتِي وتَفُوتُ
يشغل الناسَ جميعاً
في الورى ماءٌ وقوتُ
* * *
أفلا تدرون أنّا
قد صَحِبنا آمرا
يحكم الناس، مطاعَ القـ
ـولِ فيهمْ قَاهرا
فاسألوه: كيف يحــــيا حَاكِماً مستأثِرا
أله حسٌّ؟ ألا يحمـ
ـل قلباً طاهرا؟
فَيَلْتفت الأصدقاء نحو "قاسم"، ويصرخ فيه الشاعر"أحمد" قائلاً:
أنت يا صاحب محرو
مٌ ملذات الحياهْ
أنت لا تحمل إلاَّ
جَشَع القومِ الطغاهْ
تطلب الجاهَ ولا تعـ
ـبدُ في الدنيا سواهْ
أين أنتَ اليومَ من صـ
ـبٍّ يرى الحُبَّ مناهْ
وإباحيٍّ تقضَّى
عُمْرُه فيما اشتهاهْ
وقنوعٍ يزدري الدنيا
ولا يعصي الإِلهْ
وكفورٍ ملحدٍ يتبع
في الدنيا هواهْ
كلهم أجمل نفساً
منك، يا رأس العصاهْ
يستمع السياسي "قاسم" لبيان الشاعر فلا يثور ولا يحنق، ولكنه يقول بهدوء:
دعوا الضجيجَ والهرا
ء والسبابَ المؤلما
فقد أتينا ها هُنا
جمهرة لنفهما
نُحَلِّل الكونَ الفسيحَ والنهى والأمما
ونسلك الحق، ولا
نبغي سواه سلَّما
* * *
أنا السياسي الذي
بِمَجْدِه تَنَعَّمَا
أنا الذي طاول، لما
كسب النصرَ السَّما
أنظِّمُ الحياة كالشـ
ـاعر يبني الكَلِمَا
أُعاقبُ العَاصي وأو
لي من أطاعَ النِّعَمَا
وأجعل الناس لقا
نون الحياةِ خدما
وقد أثور كالجحيم
مُسْتَهيناً بالدما
وقد أمزِّق السلا
م هادماً محطما
وأملأُ القلوبَ إن
شئتُ أسىً وأَلما
وأجعل الوجود في
عين الأنامِ مظلما
نعم.. ولا أرحم طفـ
ـلاً، أو عجوزاً هرما
إذا علمت.. أن ظلـ
ـمي واعتدائي أحزما
* * *
خلقت قانوناً يُنـ
ـير للأنَام الأمَمَا
خلقت كي يسعد بي
شعبي، وأحرس الحمى
ويقترب من الشاعر الثائر قائلاً:
ظلمتني يا شاعري
ظلْمَ غضوبٍ ثائرِ
ماذا جنيت يا صديـ
ـقي فجرحت خاطري؟
أحسناتي كلها
يا شاعري جَرائري؟
أنا الذي أحمي حما
ك من عدوٍّ غادرِ
أدفع عنكَ صولةَ الـ
ـبَاغي وظلم الجائرِ
أسهر كي تنام.. فار
فق بالنصيرِ الساهرِ
لولاي ما كنت هنا
تحيا حياةَ شاعرِ
مفنداً لي بالسبا
ب جارحاً مشاعري
ولا عرفتَ في الوجود
غير نِيْر القاهرِ
أيُّهما أجدى أبِنْ
واحكم بحكم طاهرِ
أقسوةُ النظام، أمْ
فوضى فسادٍ غامرِ
* * *
أنا السياسي نظا
مي حكمةُ المقادرِ
ما بين رحمة البيا
ن وفرند الباتِرِ
أحيا وأبني للورى
حياة عيش زاهرِ
ويرى الجندي "حمود" بجانبه فيقول:
قم، وتحدثْ أيها القمقام
فأنت أنت الرجل الهمامِ
أنت حسامٌ في الحروب باترٌ
وأنت في يوم الوغى ضرغامِ
فيتأثر "حمود" بهذا الإطراء، وتنتفخ أوداجه ويصرخ منشداً:
أنا.. ما أنا؟ أنا ثورة البركان
ليثُ الوغى، ومحطم الشجعانِ
قلبي مجال الحادثات، وهمتي
جبلٌ، وعزمي قُدَّ من صَوَّانِ
تتزلزل الدنيا، وركني ثابت
سامٍ يطاول شامخَ البنيانِ
في ذمة التاريخ ما أُوليه مِنْ
مجدٍ، ومن نبل، ومن إيمانِ
تُبْنَى الممالكُ من دمي ومشاعري
وتُشاد من روحي ومن وجداني
لولاي لم يرفع لها علمٌ ولم
تَشْعر بغير الذل والخسرانِ
عمري كفاح كله، وكوارث
بين الخُطوب السودِ، والنيرانِ
لا أرهب الموت الزؤام، ومرحباً
بالموت أستفدي به أوطاني
الموت أشهى من بقاءٍ موسم
بالذل تحت كلاكِلِ العدوانِ
* * *
تعساً لقوم ضيعوا أعمارهم
في اللهو والأحلام والألحانِ
المجد "للجندي" وليس لغيره
مجدٌ، ولا شأن مدى الأزمان
كم بين من يفنى بجانب عِرْسِهِ
وفتى يسف الموت في الميدانِ؟
ويصمت الجندي ويحاول زعيمه السياسي أن يتكلم، ولكن الشاعر لا يترك له الفرصة، إذ يصرخ في وجه الجندي البطل:
خُدِعْتَ بالأوهامِ
يا حاملَ الحُسامِ
ماذا ستجني إن رما
كَ الدهرُ بالحمامِ؟
أنتَ سِلاح البَطْشِ
أنت قوةُ الإِجرامِ
تَعْبَثُ بالحياةِ؛
والآمال، والأحلامِ
وتسفك الدماء كـي تفوز بالوسامِ
وتذبح الإنسانَ ذبـ
ـحَ الشاءِ والأغنامِ
كيما تزيد الظلمَ إقـ
ـدَاماً على إقدامِ
تموت في المَيْدان يا
للجَوْرِ والأثامِ؟؟
وقد أبدت أنفساً
بالنار والحسامِ
هل أنت إنسان أما
أنت من الأنامِ.؟
ثم يتصفح أوجه القوم كأنما يبحث عن ضائع، حتى يرى "حسن" الفلاح فيشير نَحوه قائلاً:
هذا هو الفلاح ربُّ
الحَقل والأغنامِ
ركن الحياةِ، بطل الإِ
يمان والسَّلامِ
ويقترب الفلاح الرث الثياب الخشن الملمس، من الشاعر "أحمد" منشداً بصوت مُتهدِّج:
إني أَنا الفلاح أحيا
مثل ما تحيا الطيورْ
لا أعبد الدنيا ولا
على بني الدنيا أجورْ
ولا أعيش بالخيال
أو ببهتان وزورْ
لا الشعر يُطْرِبني، ولا
أَهوى الخلاعةَ والفجورْ
والفن: إن الفن أغنامي
وحقلي، والزهورْ
والمجدُ، مجدي عزلتي
وسذاجة القلب الطهورْ
والدين؟ لست بساخر
لبقٍ، وما أنا بالكفورْ
الله لي أملٌ، وسلطانٌ
ومعبودٌ ونور
عمري كفاح خالد
تحت المناجم والصخور
* * *
بين المزارع، والمرابع
في المساء وفي البكورْ
عزمي، رفيقي، لا أثُورُ
على الحياةِ ولا أخورْ
أحمي السنابل والبلابل
والفواكه والطيورْ
وأصارع الريح العنيفةَ
والدياجي والدهورْ
ولقد أُقضِّي الوقتَ في
صمتٍ رهيبٍ كالقبورْ
صَمتُ السذَاجةِ، والطها
رةِ والبراءةِ، والشعورْ
وأنا المبرَّأ من عيوب
النَّاس في كلِّ العصورْ
ما يكاد "حسن" الفلاح يسكت، حتى يسود المجلس صمت مخيف، وحيرة رهيبة، وكأن كل أحد يستعرض ما سمعه وما قاله، ويُسائل نفسه ماذا استفاد ومَاذا استزاد؟ الحيرة هي هي، والشكُّ لا يزال، ثم يتبدد الصمت بصوت الشاعر منشداً:
أيها الفيلسوف قد عِيل صبري
لست أدري؟ وكيف بالله أدري
أنا قد جئت حائراً وسأبقى
حائراً لم أقف على أي سرِّ
قد سلكنا البيانَ شتى، وهِمْنا
وضربنا في كل واد وبحرِ
ما جنينا يا أيها الصَّحب غير
الشكِ شيئاً وذاكَ أعظمُ خُسْرِ
فأَبِنْ لي يا "فيلسوف" ومن
غَيْرُك يُشْفي قلبي، ويشرح صدري
ويتجمهر الجميع حول الشيخ الفيلسوف، وبصوت متزن وقور يقول: رحم الله القائل:
لو أنَّ كل نفوس الناس رائيَةٌ
كرأي نفسي تَنَاهَتْ عن خطاياها
وعطَّلوا هذه الدنيا فما ولدوا
ولا اقْتَنَوْا، واستراحوا من رزاياها
أتريدونَ بياناً بعد هذا؟
فيجيب القوم: نعم..
فيفكر لحظة ثم يقول بصوت باك:
كلما فكرتُ في هذي الحياه
أُبْتُ بالهمِّ، وبالحزنِ الشَّديدْ
ما الذي يَجْنِي المعنَّى من هواهْ؟
أين مَثْوَى البؤسِ والفكرِ الشريدْ
* * *
ما مصير الناس في هذا الوجودْ؟
أين يمضي بالورى ركبُ السنينْ؟
آه هل للكون هذا من حدودْ؟
آه مَنْ يدري مصير العالمينْ!
* * *
قد بكينا وضحكنا، لَمْ نجدْ
فرحاً يبقى، ولا حزناً يدومْ
الشَّقَا غاية مغرور سعدْ
والفنا ساحل مكدود يعومْ
* * *
إنَّ عُرْساً أنت فيه باسمٌ
مأتم يُصْمِيكَ بالحزنِ غدا
فرحة القلب عناءٌ واهم
كل شيء ما عدا الموتِ سُدى
* * *
أنت للبؤسِ وللحزنِ خلقتَ
أنت حوضٌ مفعَمٌ بالألمِ
سترى الأحزانَ أيَّان ذهبتَ
إنما الراحةُ بابَ العَدَمِ
* * *
فاقطع الشوطَ رضياً هادئاً
إنما عمرك ملهاةُ القَدَرْ
كيفما كنت حديثاً طارئاً
أو قديماً إنما أنتَ بَشَرْ
* * *
كان خيراً لكَ لو لم تولَد
أو هجرتَ الأرض في عهدِ الصبا
آه ماذَا سَتُرَجّي في غد
وبماذا ستردّ العطَبا؟
* * *
ابنة الأيكِ التي تسمعها
سوفَ تَفْنَى بين أنيابِ الأبدْ
جرعةً واحدةً تجرعها
تَنْفعُ الروح، وتودِي بالجَسَدْ
* * *
طَالِبُ الحِكْمةِ يفني حائراً
تائهاً بين رشادٍ وضلالْ
أجهد الفكرَ، وأضني الناظِرا
ثم ولَّى، وتلاشى في الرمالْ
* * *
آه يا للموت ما أروعه
يسحق الكونَ هباءً يَنْتَثِرْ
فَمُهُ المَقْرُومُ ما أوسعَهْ
وحشاه كاللهيبِ المستعر
* * *
نحن نحو القبر في الدنيا نسيرْ
يتلاشى الجسم، والروحُ يطير
نُسلم الجسمَ إلى الدُّودِ الحقيرْ
ويهيم الروحُ في بحر الأثير
ويصمت قليلاً، ويُشدَهُ شُدُوهاً غريباً، ثم يرسل أنَّةً حزينة، وتمر كفه المرتعشة على جبينِه، وينشد بصوت أقرب إلى الشهيق منه إلى الترجيع:
ضلَلتُم يا أيُّها الناسُ
وغرَّكُمْ وَهْمٌ وبَرْقٌ خَلُوبْ
العلم لا يجدي ولا يأسو
والجهلُ ينبوعُ الأسى والكروبْ
والأمل المرجوّ واليأسُ
ونزوةُ العقلِ، ونجوى القلوبْ
والحب والخَمْرةُ والكأسُ
يسحقُها الغَيْبُ الرَّهيب الغشوبْ
* * *
يهماءُ لا يُرْجى لها آخر
وما لها عندكُم أوَّلْ
رهيبةٌ إعصارها ثائِرُ
والريحُ في أنحائِها تُعْولْ
والليلُ نَهَّاءٌ بها آمرُ
والوحشُ من وَحْشتِها يَثْمَلْ
ضلَلْتُم فيها، فلا ناظرُ
يرى ولا نورٌ بها مشعلْ
* * *
إن ضجَّ غِرٌّ خانَهُ صوتُهُ
وراعه رَجْعُ صداه الكَئِيبْ
أو أنَّ محزونٌ فأنّاتُهُ
مَنْكُوبَةٌ، ما إن لها من مجيبْ
راحةُ من ضاقَ بها موتُهُ
وظن من يأمل فيها يخيبْ
وحَظُّ من يعبدُها قوتُهُ
وجُهد من ثار عليها النحيبْ
* * *
فيا لَهُ من مسرح رائِع
ويا لها من قصةٍ مؤلِمَهْ
ويا له من مبدعٍ بارعِ
بديعة آياتُهُ محكمهْ
* * *
ويأخذُ عصاه، ويلتحف رداءه، ويتَّجه نحو الباب منشداً:
تفرَّقوا عني فقلبي حزينْ
ومدمعي جارٍ، وفكري شريدْ
خلُّوا سبيلي، فأنا كالسجين
وأفرجوا عنِّي.. فهمِّي شديدْ
ويمضي في سبيله، ويتفرق القوم، وَكُلٌّ ينشد:
قد عرفنا كلَّ شيءٍ
نحن في الدنيا هَبَاءْ
مسرحٌ نلعب فيه
سوف يطويه الفناءْ
ويُسدل الستار
تعز: 1364هـ/ 1945م
 
طباعة

تعليق

 القراءات :620  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 58 من 639
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

أحاسيس اللظى

[الجزء الأول: خميس الكويت الدامي: 1990]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج