شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أدبيات الاختلاف الفكري بين الشرق والغرب
أكتبُ هذه السطور بعد مشاهدتي لحلقة من حلقات برنامج فضائي معروف، يمارس فيه مقدمه دورًا سيئًا هو أقرب إلى التحريض منه إلى أي شيء آخر، كما يفعل أولئك المسؤولون عن حلبة مصارعة الثيران، وفي كل مرة أشاهد هذا البرنامج الذي يتوهّم القائمون على إعداده أنهم يقدّمون من خلاله إنجازًا فكريًّا، أو فعلاً حضاريًّا، يزداد إيماني بأنهم من حيث يعلمون أو لا يعلمون يكشفون عن عورات مَن ينتسبون إلى الثقافة العربية، وبالتالي فإن ما يفصلهم عن العالم الآخر، وأقصد الغربي تحديدًا، هو مسافات تُقدّر بملايين السنين الضوئية.
ولعلّي أثبت هنا بعضًا من الألفاظ والعبارات التي وردت على لسان المتحاورين، وبتحريض ذكي من مقدّم البرنامج الذي يسبق اسمه حرف "الدال"! وكم بيننا مَن يحمل هذا اللقب، وهو أبعد ما يكون في سلوكياته عن دلالاته العلمية الحقيقية، وقليل في عالمنا العربي مَن يحافظون على قدسية هذا الحرف -إن جاز التعبير- . وعت ذاكرتي من تلك الألفاظ الموغلة في القباحة والسوء مثل: يا قليل الأدب، يا سافل، يا منحط، من أي زريبة "المكان المخصص لتربية الحيوانات" أتيت؟ أين تعلمت؟ أنتم المرتزقة، همجيون! وقد يسمع هذه الألفاظ الكبار في السن فيدركون سوءها وقبحها، ولكن ماذا لو التقطتها آذان الصغار ثم حاولوا رمي نظرائهم بها في أي مناسبة اجتماعية أو عائلية؟ تُرى مَن المسؤول عن إبراز هذا السلوك غير الحضاري في مجتمعاتنا؟ وماذا يعني أن يقف مقدّم البرنامج بعد انتهاء هذه الحلقة من تياره المعكوس، وبعد أن روى ظمأه الدائم لمثل هذه المسرحيات البهلوانية، ماذا يعني أن يطلب من المتحاورين أو المتخاصمين أن يتصافحا، فيمد أحدهما يده إلى الآخر فتمتد -بعيدًا- في الفضاء لترسم علامة استفهام كبيرة حول وضعنا الحضاري والفكري الموغل في السوء.
تذكرتُ أمثلة أخرى هربت إليها من هذا الواقع المؤلم، ويؤسفني القول إن تلك الأمثلة هي من واقع الآخر المختلف عنا حضاريًّا وفكريًّا، وفي مقدمة هذه الأمثلة أنه كان يوجد منظّر عمالي بريطاني معروف اسمه "إيريك هيفر" Eric Heffer، وهو من طبقة عادية في المجتمع الإنجليزي، وكان يفتخر في جلسات مجلس العموم بأنه “ابن النجّار” الذي تعلّم وألّف الكتب، ثم ناضل حتى وصل إلى نائب في مجلس العموم، ورفض أن يتسلّم حقيبة وزارية خشية أن يتعارض ذلك مع مبادئه الخاصة، وفي كل مرة كان"هيفر" يواجه المحافظين بهذه الحقيقة كانت "مارجريت تاتشر"، تقف في أدب وتقول إنها هي الأخرى ابنة البقّال، وكان إدوارد هيث Edward Heath يعقّب -وبصوت ينساب في هدوء- أنه هو الآخر ابن النجّار الذي استطاع أن يصعد إلى المنصب الذي كان لا يشغله قبله من المحافظين إلاَّ أبناء الطبقة الأرستقراطية.
أُصيب "هيفر" في عام 1990م، بمرض السرطان، وقال له الطبيب: إنه ربما أمامه عام واحد ليعيش، فعكف على تأليف كتابين أحدهما عن: “المسيحية” ودورها في المجتمع، وفي هذا الأمر دلالة أخرى فهو محسوب على اليسار المتشدد في المؤسسة العمالية، ولكنّ انتماءه الاشتراكي لم يمنعه من المحافظة على عقيدته، وفي هذا درس للماركسيين العرب الذين يتنصّلون من عقائدهم وسلوكياتهم، وهمًا منهم أن هذا هو التمثيل الحقيقي لهذا المصطلح الأيدلوجي، بينما الأمر في الغرب يأخذ مناحي عديدة ليس بالضرورة منها التخلّي عن الدِّين والعقيدة.
في يناير عام 1991م، وأثناء اندلاع حرب الخليج، تقاطر النوّاب على مجلس العموم للتصويت على دخول بلدهم الحرب من عدمه، أصرَّ هيفر على حضور هذه الجلسة، رغم مرضه الشديد، وبعد التصويت دخل (هيفر) المجلس وهو يتكئ على رفيقه توني بين Tony Benn ويصف (بين) في مذكراته مشهد تقاطر أعضاء المجلس إلى مقعد (هيفر) ليسلّموا عليه بحرارة متذكّرين مداخلاته القوية والمهذبة في المجلس، وبينما كان (هيفر) يُصافحهم وهو لا يقوى على الوقوف على قدميه من شدة المرض: يذكر (بين) أنّه شخصيًّا كان يبكي كالطّفل الصغير، وأن الدمع من كثرته تجمّع حول صفحات خدّه، ثم جاء دور رئيس الوزراء المحافظ آنذاك (جون ميجور) فتقدّم إلى مقعد (هيفر) وانحنى على قدميه متحدثًا إليه، فانطلقت موجة من التصفيق الحاد تجاوبًا مع هذا السلوك الحضاري، ويعلّق (بين) في مذكراته قائلاً، أنه لم يسمع على مدى أربعين عامًا في حياته تصفيقًا في المجلس المعروف بتقاليده العريقة في الحوار والتعددية الفكرية والثقافية:انظر الجزء الثاني من مذكرات (توني بين) بعنوان (FREE, AT LAST, 2003).
وعندما رحل (هيفر) في شهر مايو من ذلك العام 1991م شوهدت مارجريت تاتشر وكانت قد قدمت استقالتها من منصب رئاسة الوزراء، وهي تركض يوم الأحد لحضور مناسبة تأبين مناوئها في المجلس (هيفر)، فلمّا سُئلت عمّا يجمعها بهذا الخصم السياسي والفكري أجابت بأنه الالتقاء حول دور الكنيسة في المجتمع البريطاني، وهي التي تصف كذلك خصمها الآخر (مايكل فووت) بأنه إنسان على درجة كبيرة من الثقافة والحضور، وأنه شخص موهوب في الحديث والنقاش. فلقد كان صحافيًّا كبيرًا، ومنظّرًا عمّاليًّا، وقف حياته على الدفاع عن حقوق الطبقة العاملة، ووقف يومًا أحد رموز الأدب والفكر والتاريخ والسياسة في المجتمع البريطاني، المفكر (دينيس هييلي) Denis Healy بعد أن سمع نبأ وفاة خصمه إيان ميكلاود Iain Macleod إثر نوبة قلبية ليقول، والدمع ينسكب من عينيه: إن موته كان خسارة للمجتمع بكامله وبكل فئاته، ولا يستطيع أي فرد أن ينحرف بعباراته عن سياق التهذيب والأدب، ولقد كان أسلافنا في خلافاتهم يلتزمون بكل سمات التسامح والمودة واحترام آدمية الإنسان، ولكن يبدو أن بعضًا من الخلف نسيَ هذه التقاليد التي حضّت على التمثّل بها مقاصد الشرع الحنيف، والدِّين الخاتم.
 
طباعة
 القراءات :229  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 30 من 100
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.