شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الروائي الغربي وسبل الارتقاء بالأدب إلى المرحلة العالمية والإنسانية ..!
استأثر خبر تبرع المبدع، وأحد أكثر الكتّاب والروائيين العالميين انتشارًا تيري براتشيت (Terry Pratchett) بمبلغ (500.000) خمسمائة ألف جنيه إسترليني للمؤسسات المتخصصة في مكافحة مرض ألزهايمر، بعناوين بعض الأعمدة الصحافية، وكان الكاتب الذي وصفت صحيفة الديلي ميل (Daily mail) في عددها الصادر يوم 14 مارس 2008م مبادرته الذاتية بأنها ضرب من الجرأة أو الغرابة، قد اكتشف وهو في سن التاسعة والخمسين إصابته بهذا المرض الذي يعاني منه في بريطانيا وحدها (700) ألف شخص، وهو الأمر الذي يضع كثيرًا من ضغوط الحياة على أسر المصابين بهذا الداء، وبسبب هذه الزيادة في المصابين بهذا المرض المعيق، فإن مجمل ما تنفقه المؤسسات الصحية على كل مريض سنويًا هو (11) جنيهًا إسترلينيًا مقابل (289) تنفق على داء السرطان الأكثر فتكًا في العصر الحديث.
قد يستغرب الفرد العادي في مجتمعنا بأن يقوم كاتب أو مبدع بتبرع سخي مثل هذا، مع أنه كان بإمكانه أن ينفق جزءًا من ثروته التي جمعها مما يعود عليه من كتاباته الفنتازية (Fantasy) على شأنه الخاص، ولكنه قرر كأديب ومبدع أن يكون له دور اجتماعي، ليس فقط بهذا التبرع، ولكن أيضاً من خلال محاضرات تركز على خطورة هذا الداء، وهذا ما دفعه إلى المشاركة في المؤتمر السنوي المتخصص لمرضى ألزهايمر، وهي الجهة التي قامت باستلام مشاركته المالية، ولكن الغرابة تزول أو تتلاشى عندما نعلم أن الأديب والمبدع في الغرب لا يعيش غالبًا في برج عاجي بعيدًا عن مشاكل مجتمعه، واحتياجات أو عوز الآخرين، وإضافة إلى أن الأدب في الغرب ابتعد عن النخبوية، واقترب أكثر من الحاجات والقضايا العادية للإنسان، وهذا يدخل في مفهوم الثقافة العامة: بينما ظل المبدع العربي في كثير من الأحيان يتوهم أنه صاحب خصوصية وتفرد، ولا بأس من شعور كهذا إذا لم ينتج عنه تضخم في الذات، واستعلاء في السلوك، وعدم اكتراث بما يجري حوله من قضايا إنسانية في المحك الأكبر على رهافة حس المبدع أو الأديب، واقترابه من نفوس الآخرين.
ولعل في تجربة هذا الروائي العالمي (Pratchett)، الذي اقترب من مجتمعه وأفراده العاديين والذين شكلوا جزءًا من شخصيات رواياته العالمية، لعل في تجربته ما يصلح مثلاً ونموذجًا لبعض كتابنا وأدبائنا ومبدعينا في العالم العربي، فلقد ذكر المحرر العلمي والطبي جيني هوب (Jenny Hope) أن براتشيت (Pratchett) قد استلم ما يقرب من (60.000) ستين ألف رسالة كمشاركة وجدانية من قرائه والمعجبين بكتاباته بعد أن تسرب خبر إصابته بمرض ألزهايمر، وأنه قد منع من قيادة سيارته، والتي كان يجد متعة خاصة في التنقل بها بين أحياء بلدته، وأناس مجتمعه الطيبين الذين أحبهم وتعلق بهم، وجلس معهم على الأرض دون أن يشعرهم بفارق بينه وبينهم.
ونسمع في بعض المجتمعات العربية أن الكاتب أو الأديب لا يسمح باقتراب عامة الناس من حوله، أو أنه يصدمهم أحيانًا برفضه حتى بالإجابة عن أسئلتهم واستفساراتهم، ولعل السؤال الذي يفرض نفسه: هل الأديب والمبدع في عالمنا العربي يعيش فقط لنفسه وميوله الخاصة؟ وهل للثقافة التي يتلقاها الناس أثر في مثل هذه السلوكيات ذات الصبغة الفردية المحضة؟ وكيف يمكن لهذا الأديب والمبدع بسمات كهذه أن يشارك في بناء مجتمعه ثقافيًا وفكريًا والارتقاء به نحو عوالم الخير والفضيلة بمعناهما الواسع والشامل؟!.
ولابد أن القارئ للأدب العربي القديم يدرك أن هذا الأدب يعبر عن اندماج كاتب تلك الحقبة في قضايا مجتمعه، دارسًا للأسباب التي تقف وراء بروزها، ومستشرقًا للآفاق التي يمكن لأدبه أن يبلغها، أو يعبّر عنها، أو يجسّدها في أي شكل من أشكال الأدب التي شكلت الإطار العام للأدب العربي في حقبته القوية والمتألقة، ولن نعدم أمثلة: من أدب ابن المقفع في أدبه الكبير والصغير، والجاحظ في بيانه، وأبي فرج الأصفهاني في أغانيه: بل إن بعض المشتغلين بالفلسفة كانوا يتناولون قضايا تمسّ وجدانات مريديهم أو قرائهم كما نجده عند ابن رشد في فصل المقال، وعند أبي حامد الغزالي في (المنقذ من الضلال)، وهو الكتاب الذي دوّن فيه الإمام الغزالي كثيرًا من دقائق النفس البشرية، وما يعتريها من شكوك من خلال حديثه عن رحلته المتأرجحة بين العقل والقلب، دون أن يشعر بحرج أو خوف في تناول سيرته الذاتية بكثير من الصدق والشفافية، مدللاً على ما يذهب إليه من آراء، تاركًا في الوقت نفسه مساحة كبيرة لقارئه ليعرض الأمر على عقله ووجدانه، إن صدق الكاتب أو الأديب أو الفيلسوف العربي في حقبة ازدهار الفكر العربي هو الذي دفع بالآخرين من ذوي الثقافات المختلفة للاشتغال بإبداعات ذلك الفكر، والذي شكل انعطافة كبيرة في المسيرة الحضارية العالمية، وان اهتمام المؤسسات الغربية وجامعاتها بمفكرين وفلاسفة عرب ومسلمين من أمثال: الباقلاني، وابن رشد، والغزالي، والحارث المحاسبي، وابن حزم، وأسامة بن منقد، وابن شهيد، وأبي حيان التوحيدي، وابن الطفيل، هذا الاهتمام المتوارث هو نتيجة لثراء هذا الفكر وقدرته على الاستفادة من تراث الأمم الأخرى، ثم دمجه في الإطار الشامل لمعطيات العقل الإسلامي الذي دفعته آيات الكتاب الحكيم للتفكر والتأمل والتدبر في عوالم الكون المختلفة، بل إن آيات القرآن الكريم قد حررت العقلية العربية والمسلمة من كل شكل من أشكال القهر والتسلط والأحادية، ولكن التفسير الأحادي، أو الرؤية التي تقف عند ظواهر النصوص، بعيدًا عن سياقاتها الصحيحة ومقاصدها السامية، هو الذي قاد إلى هذه النكسة التي شهدها الفكر العربي، وانحساره في دوائر محددة وضيقة، وأن انفتاح هذا الفكر على العالمية ليتطلب تقديم الأولويات على سواها، ومنح الكاتب أو المفكر مساحة الحرية البعيدة عن التجديف، وجلد الذات، أو كراهيتها واحتقارها.
أعود لما بدأت به في مفتتح هذه المقالة: وهو قضية اندماج الروائي العالمي الشهير (Pratchett) ليس في عالمه الفنتازي (الخيالي)، وقدرته على تجسيد مشاعر وأحاسيس شخوصه في إبداعاته الروائية المتنوعة، ولكنه استطاع أيضًا من خلال إيمانه بتشابه التجارب الإنسانية أن يحقق المعادلة الصعبة: وهو انخراطه في الشأن العام، والذي يهمّ الفرد العادي في مجتمعه: ولهذا استحق (براتشيت) أن تصفه وتنعته بعض الملاحق الأدبية المتخصصة على خلفية التضحيات التي قدمها لمجتمعه بأنه الأديب الموهوب، والكاتب الشجاع، وقليل من مجايلي (Pratchett) من استطاع أن يتقلد وسامًا أدبيًا كبيرًا، ليس في صورة من صور التكريم المادي، بل في ذلك الحبّ الذي منحه إياه قراؤه والمعجبون به، وفي تلك المقالات التي أمطرته ثناء صادقًا، لأنه أقام جسرًا قويًا ومتماسكًا بين الأدب ومعاناة الآخرين وهمومهم، وردم بذلك تلك الفجوة التي ليس من السهل على كل مبدع أن يصل بين أطرافها المتناثرة على ضفاف الحياة وشواطئها المترامية، وكان التخلص من الأثرة، والابتعاد عن الإفراط في حب الذات، أو رؤيتها بعين التعظيم هو الأداة الفاعلة في تحقيق مثل هذه المعادلة الصعبة.
 
طباعة
 القراءات :198  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 26 من 100
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.