شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(8)
- لا يتذكّر الفتى متى رأى (كشلة) في الحارة، ويمكن أن ذلك حدث بين عامين 1386هـ-1387هـ، فلقد تعوّدت قدماه على الحي ودروبه خلال تلك الأيّام الخوالي من الزمن المفعم بالبراءة والعفويّة والبساطة.
- كشلَّة لم يكن من سكان (الحارة)، إلا أنّ رفاقه يحسبونه كذلك ولابد أنّ ذلك نابع من حبّهم لهذا الفتى ونمط حياته الفريد.
- وكان يشاركهم هذا الحبّ إخواننا من أبناء (الرباط) هناك يا صديقي كان يرتلّ القرآن، وتقرأ الصلوات، وتعبق ممرّات وقف (عزت باشا) برائحة الندّ والبخور، ويرتفع صوت الرّجل الصّالح إبراهيم ولي يمدح الحبيب المُصطفى صلّى الله عليه وسلّم.
محمّد بشر .. وليس كالبشر
بل هو ياقوتة .. والناس كالحجر
- عجبت من قوم جفاة تحدّثهم عن شخصيّة المُصطفى صلّى الله عليه وسلّم فإذا هم يقولون لك في شيء من التعالي المرفوض، إنّه بشر مثلنا، نعم إنّه بشر، ولكن هل نسوا أنّ الله خصّه بالرّسالة ولم يخصّنا بشيء من ذلك، وأنّ الله في كتابه العزيز وجّه الخطاب إليه بنعوت النّبوة والرّسالة وفي هذا توجيه لنا في كيفيّة مخاطبته عليه صلاة الله وسلامه، وأنّ سوء الأدب معه في الخطاب والتنقيص من منزلته لا يقلّ سوءًا عن المغالاة فيه.
- (كشلَّة) لعب الكرة في مطلع حياته، فتفوّق فيها على أنداده، فأطلقوا عليه هذا اللقب، وهو يعني في لغة قومه الطيّبين (الفالح) الذي لا يدانيه أحد في الفن الذي يسعى لاكتساب أدواته، ثمّ انصرف الفتى إلى شيء آخر كان يولع به شباب تلك الحقبة ألا وهو رياضة (القشاع) وكان إتقان هذا الفنِّ دليلاً على امتلاك فنِّ الشجاعة والتي كان يحرص شباب تلك الحقبة على تعلّمه من رجال يكبرونهم سنًّا وتجربة. جيل اليوم -يا صديقي- أو بعضه؛ يركب السيارة ثم يفتح (مسجّل) هذه المطية الغربية الصنع ليسمع (مايكل جاكسون) وبعضهم يسعى حثيثًا لتقليد حركاته دون أن يكلّف نفسه عناء تعلّم شيء جدّي في هذه الحياة، فهو مستهلك لآخر صيحات (الديسكو) كما هو مستهلك لـ(ماكدونالدز)، وللجديد من عربات الأمريكيين واليابانيين متوهّمًا أنّ هذا الصنيع هو الأخذ بأسباب الحضارة، وأنّه بالتالي أضحى متحضّرًا ومتمدّنًا.
- (كشلَّة) كان يسير مع الرّفاق، وكان على الذي يريد أن يدور في حلقة اللّعب في (الصيران) أو (بضاعة) و(سور الأهلي) أن يكون قادرًا على أن (يستكف)، أي يرد -مهارة- على الذين يسوون الصفوف بـ(عصيهم الغليظة) من (العناترة) و(المفاليح).
- وترك -يا صديقي- بآخرةٍ كلّ شيء وتوجّه للقراءة، وكان يقرأ كلّ ما يقع تحت يديه، وإنّك لتلمح في الحصوة بالمسجد الطّاهر ذلك الفتى النّحيل الجسم، القصير القامة، والذي يرتدي المتواضع من الثياب وأنّه ليحلو له أن يضع (مرسامًا) على طرف أذنه، جاعلاً (كوفيته) في مؤخرة رأسه، كان هو وزميل له يدعى بـ(أبوبكر سالم) أو (الموجي) من أكثر الشباب جَلَدًا على الدرس والتحصيل، شظف العيش قادهم نحو الصفوف الأولى في (طيبة الثانوية)، وأنّهم ليواصلون آنذاك اللّيل بالنّهار ويتركون بيوتهم، ليقرؤوا على ضوء المصابيح الخافتة في فرش الحجر، وسمعت (الموجي) الذي أصبح فيما بعد قاضيًا في بلده الذي هاجر منه (الجزائر)، سمعته يقول بشيء من الأسى لأحدهم عندما عاتبه على أخذ نفسه بهذه الشدّة في الحياة (الوالد عنده "درزن" غيري، في البيت يكدّ عليهم)، وكان الموجي مثل (كشلَّة) يحصلان على لقمة العيش الحلال من صنعة حمل دوارق الماء المصنوعة من الطين، من سيل الحارة إلى أروقة المسجد، وكان الشباب في رمضان يتسابقون نحو هذا العمل، وفي ليلة العيد يكرمهم (عم مالاة) أو (الشريف حسن) أو المعلم (المنادي) أو (الأفندي) بالقليل من المال لحملهم الماء البارد إلى الحرم، فكانوا آخر من يسعى لشراء مستلزمات العيد من (العينية) وسوق (الحدرة) و(جوة المدينة)، وكانوا راضين بالمكتوب، قانعين بلقمة العيش من عرق الجبين كما يقول المثل.
- كشلَّة أمطره أساتذته بصفات ونعوت يستحقّها لعصاميته وجدّه واجتهاده؛ ومنهم مدرس اللّغة الإنجليزية الشهير بمدرسة (طيبة الثانوية) -في حقبة الثمانينيات والتسعينيات الهجرية- الباكستاني الأصل (المعلّم فتاب) الذي أطلق على صاحبنا لقب (أفلاطون).
- في دكّة (خالي) القريبة من الصُفّة، أو دكّة الآغوات، أخبرني رصيفه في الدرس والاجتهاد (الموجي) بأنّ (كشلَّة) أصابه ما يعرف بمرض (الصفاري) أو (اليرقان)، أسرعت أحثّ الخطى وجدته يجلس بجانب صديق الجميع -الإنسان المهذب- محمّد علي إبراهيم، صعقت لنحول جسمه وتغيّر لونه، وظنّنت أنّ (كشلَّة) سوف يفارقنا إلى الدار الآخرة ولكن:
عناية الله أغنت عن مضاعفة
من الدروع وعن عالٍ من الأُطُمِ
 
يتعافى صديقنا من مرضه، ثمّ يسافر إلى جامعة القاهرة في مصر ليدرس العلوم السياسية، وهناك (كشلَّة) بزّ أقرانه وتخرّج من تلك الجامعة العريقة، ثمّ يقوده الطموح -الذي لا حدود له- فينزح إلى بلاد (العم سام) -أمريكا- ليحصل على درجة عليا في التخصّص الذي كرّس له حياته وهو (فنّ السياسة)، ليعود بعدها إلى (تُشاد)، ويحصل بعد مسيرة طويلة من الكفاح على درجة سفير، ولكنّ الحنين أخذه إلى مسقط رأسه حيث جاور أهله في (طيبة الطيبة) لعقود عديدة من الزمن.
 
طباعة
 القراءات :217  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 11 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الدكتور واسيني الأعرج

الروائي الجزائري الفرنسي المعروف الذي يعمل حالياً أستاذ كرسي في جامعة الجزائر المركزية وجامعة السوربون في باريس، له 21 رواية، قادماً خصيصاً من باريس للاثنينية.