شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(7)
لا أعرف متى رأيت هذا الرّجل، ولا كيف تمّ اللّقاء، ولا كيف التقت الأرواح في عالم الغيب والأشباح في عالم الحضور.
كثيرًا ما رأيته يمشي.. وهو الذي فقد نعمة البصر صغيرًا وكأنّه ينظر إلى الأشياء ماثلة أمامه، يتمتم - أحيانًا- بكلمات غير مفهومة؛ وكأنّه ساخط على الحياة أو متضجّر منها.. سألته مرّة: أين قومك؟ تنهّد ثمّ أردف يقول: لم يبقَ لي في هذه الدنيا سوى أخت واحدة، وقبل أيّام واريتها الثرى، كان أملها أن تدفن في هذه الأرض المباركة الطيّبة، وفي هذا الجوار الكريم. حاول أن يُنهي الحديث، وقام من مقعده في الصفة -في يوم قائظ من الصيف- يحتمي فيه طُلاب العلم بأروقة المسجد، ونظر إزائي نظرة من يبصر بنور البصيرة ويرى بقلب العارف، ووجّه حديثه بنبرات حادة قائلاً: دعنا نذهب إلى بيت الأستاذ (مهدي) في الحارة، سرتُ أمامه، كنت أحسّ أنّه هو الذي يقودني، فجأة يتوقّف ويسأل: أليس هذا (سبيل الأفندي)؟ أجيب في شيء من التردّد: نعم يا أستاذ، ويطلب منّي أن أحمل له دورقًا من الماء المعطر بالكادي، يرفعه إلى أعلى فإذا بالماء ينسكب في فمه دون أن تسقط قطرة من الماء على ملابسه المنشّاة)، ويتساءل الفتى من أين للرّجل هذه الأناقة في ملابسه وليست هناك سيّدة في البيت ترعاه، لعلّه أدرك أنّه من الصّعب أن يجد المرأة التي رسمها في هذا الذّهن الحاد الذي يحمله، وأدرك الفتى في مسيرة الحياة الطّويلة والشاقة معنى البيت الذي كان يردّده أستاذه البصير:
وإذا كانت النُّفوس كبارًا
تعبت في مرادها الأجسام
في بيت الأستاذ (مهدي) يجلس الرجل متحفّزًا لا يطيق صوتًا، ولا يقوى على سماع ما يكدّر، ثمّ يبدأ في ترتيل القرآن بصوت رخيم، قلّة من أصحاب الأصوات الندية كانوا يرتّلون الآيات الكريمة ترتيله، ويعرف مسارب النّغم ومطالعه، وكنّا ذات يوم نصلّي في الروضة، فإذا بالأستاذ عبدالستار بخاري -حافظ القرآن، راوية للشعر، مجيد للحديث وأنيس في المجلس- كان الإمام كما يسمّونه يرفع الأذان وكان قد تجاوز السّتين من العمر؛ ولكنّ الزمن لم ينلْ من صفاء روحه، وخشوع صوته، وكانت النّاس تقف عند أبواب المنائر لتصيخ السّمع، لأصوات حسين وعبدالستّار بخاري، ومحمود نعمان، وهذا الأخير هو الذي أسّس قاعدة راسخة للأذان أجد اليوم ملامحها في صوت عبدالعزيز بخاري وأنداد له، أستاذي (حسين الخطيب -رحمه الله- يعجبه صوت الريّس عبدالستّار التفت إليّ ليقول: انظر إلى هذا الخشوع الذي ينساب من صوت هذا الرجل، في يوم من الأيام التي كنت أزوره فيها في منزله بقباء طلب منّي أن أخرج له من مكتبته كتابًا فضللت طريقي إلى السِّفر، قام من مقعده غاضبًا ليقول مازحًا: شباب آخر زمن، ولمس رفوف المكتبة ثمّ أخرج الكتاب، لم يضيِّع وقتًا أو يهدر زمنًا، ورفع سبابته في وجهي، وطلب منّي بحدّة محبّبة إلى نفس الفتى، (افتح صفحة كذا)! (اقرأ هذا كتاب الرعاية لحقوق الله) للعارف بالله الحارثي المحاسبي، وعندما أتممت القراءة في كتاب تستدر فصوله الدمع حزنًا على معصية يرتكبها العبد في دنياه ورغبة في رحمة واسعة من الله، التفت إليّ ليقول: صاحبنا فلان قد صفت روحه بالذكر واطمأنت بالصلاة على الحبيب صلّى الله عليه وسلّم.
لقد قرأت السيرة النبوية على أستاذي الخطيب بين أروقة المسجد الطاهر، ووقفت معه على مكتبات عبدالمحسن والنمكاني في باب السلام ليرشدني لقراءة كتب العقّاد، ومحمّد محمّد حسين، فكان واحدًا من الذين حرّضوني على فعل القراءة، ثمّ درّسني في (أُحد) الثانوية في مرحلة هامّة وصعبة من مراحل حياتي، فكان له من الجميل الذي أدين به له كما أدين لجملة من أساتذتي في طيبة الطيبة وأستاذي الحبيب ناجي حسن عبدالقادر الأنصاري يعلم ما تحمله النّفس من شجن، وما يعتريها من حزن على رجال عرفتهم وفقدتهم بعد أن ألفتهم وأنست بهم. اليوم يضمّ الثرى في بقيع المدينة جسد هذا الإنسان كما ضمّ من قبل أنفاسًا وأجسادًا وسوف أسكب الدمع عليهم حروفًا أقتطعها من نفسي، وأظلّ أحنّ لـ(أيام و ليالٍ) قضيتها بين بابي السّلام والرحمة وآخر في رحاب مكّة بين الشامية وباب الباسطية ومردّدًا مع الشاعر الجاهلي الجرهمي المكي:
كأن لم يكن بين الحجُون إلى الصّفا
أنيس، ولم يَسْمر بمكَّة سامِرُ
 
 
طباعة
 القراءات :227  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 10 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.