شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(9)
- لا يتذكّر الفتى كيف قادته قدماه إلى هذا المكان النّائي عن الحي الذي يعيش فيه؛ ولكن يعلم أنّ هناك شوقًا دفينًا في نفسه أو بين أضلعه يدفعه إلى هذا الترحال الدّائم في أحياء وأزقة المدينة العتيقة.
- وقف يتأمّل معالم هذا المكان.. والذي يطلقون عليه اسم (الرستمية) عقود بالية ومتآكلة تحيط بذلك المبنى، وبرحة تمتلئ في وقت الضحى وقبل غروب الشمس بتلك الجموع من الشيوخ والشباب الذين يرفعون أصواتهم مسلّمين على صاحب المقام البهي وتردّد أصوات الزائرين والقادمين كلماتهم وتتجاوب مع ابتهالاتهم الصادقة وإذا ما عمرت جيوبهم بشيء من المال انطلقوا صوب البرحة فهناك مقهى (المعلم طيفور) شربة الماء لها طعمها الخاص، وبرّاد الشاي (تفوح) منه رائحة (العطرة) أو (النمام) أو (النّعناع) المغربي مخلوطًا بـ(وريقات) الورد.
- وجوه القوم ينضح منها الرّضا بحياة هادئة، وبالٍ مطمئن، وحديث يتخلّله شيء من المزاح، فهذا الشاب (مستور) الذي يعتمر كوفية بلدية (منشّاة) وأقام عليها عمامة أشبه بتلك التي يضعها أولاد الحارة فوق رؤوسهم عندما يدخلون حلقة اللّعب في (المزمار)، هذا المستور يداعب المعلم (طيفور) الوحيد بين روّاد المكان الذي يضع النارجيلة أمامه، ويمسك بـ(الملقاط) بين الحين والآخر ليخرج فحمة انطفأت ويضع عوضًا عنها (ولعة) متّقدة، ولكن أذنه مع الشاب (مستور) ليسأله مستنكرًا ماذا تقول (يا واد)؟ نعم: يا معلّم أسلوبكم أنتم الكبار في السنّ واحد ما يتغيّر.. أنا يا (واد) كنت صاحب أبيك!! (أبوي) من زمن (راح) في التراب. والله يرحمه.. ويقهقه الجميع.
هناك غير بعيد يجلس رجل يلبس نظارة لا يكاد يمسكها على العينين إلا ذلك الخيط الرّفيع الذي يصل بينها وبين الأذن. هذا الرجل الضئيل يرفع صوته قليلاً ليسأل الفتى الغريب عن حارته، يردّ الفتى في حياء (أنا ولد فلان) وحارتي (العنبرية) يا عم. ويأتي جواب الرجل الذي ترتجف شفتاه عند الحديث. (بالمناسبة.. أنا أعرف (يا واد) جدك.. كان من الحرم إلى البيت، ومن البيت إلى الحرم، يفتح دكان (التمر) في الصباح ويقفله قبل الظهر. ثم يرفع بصره إلى السماء مردّدًا الله يرحمك (يا علي)، ثمّ يلتفت للمعلّم طيفور، تدري يا معلم أن (البلاجي) ليلة البارحة، (شال) الزومان سيل الدم ولا تندم، لمّا نزل يلعب عبده علي مع (عبد المطلوب) ولكن الحمودة و(المراد) وقفوا (البلاجي) عند جده ومرت بسلام. الجماعة ضيوف في حارتنا وكلّ شيء له قانونه وحده.. غرزة (طيفور) ونزل (الرستمية) الذي يعيش فيه المعلّم (حسب الله) وحفّار القبور (سعد) وشخص غريب اسمه (حسن البيشي)، أصبحت هذه الأماكن جزءًا من حياة الفتى، وكان يتسلّل إليها عصر كلّ يوم ليسمع أحاديث القوم ويرى سحنات وجوههم البريئة، وليذهب في الليل إلى دارهم ليحدّث أمّه بما رأى وسمع بعيدًا عن علم كلّ الأوامر الصارمة، وأصبح طليقًا في ما يحبّ ويعشق من تلك الأماكن النائية في قاموس الأمس، وعندما يريد فتى الأمس أن يحدّث ابنه الصّغير عن تلك الأمكنة المدهشة ببساطتها وبراءتها، يجد نفسه يجهش بالبكاء؛ لقد مات المكان كما مات أهله من (قبل) ولكنّه لا يزال يعتقد أنّ بعد ذلك الموت حياة.
من خارج الرستمية تتسلّل قدما الفتى إلى داخلها ليجد هناك فناء مكشوفًا تتناثر على جوانبه غرف صغيرة من اللَّبِن والحجر، وهي تشبه تلك الغرف التي تتكوّن منها الأربطة الموجودة في الحارة. ولابد لمن يدخلها من سكانها أن يحني قامته حتى لا يرتطم رأسه بحائط المبنى، ولقد تعوّد ساكنوها على مثل هذه الحركة والتي تبدو صعبة على الآخرين وكان الفتى واحدًا من هؤلاء الذي شكّلت هذه الأحوال -للمرة الأولى- مشهدًا لم يألفه ولكنّه ما لبث أن تعوّد عليه وأضحى ما هو غريب من الأمر عاديًا ومألوفًا ومقبولاً.
المعلم طيفور يحلو له أن يقضي -أحيانًا- وقت ما بعد صلاة العصر مع هؤلاء القوم الذين يسكنون هذا المكان والذين تتشابه سحناتهم إلى حدٍّ بعيد مع اختلاف واضح في أحوالهم وتصرّفاتهم، ولقد لاحظ الفتى أنّ المعلّم طيفور والذي يعدّ مسؤولاً عن هذا المكان لاعتبارات عدّة يدخل على القوم شامخًا وقد شدّ على وسطه ذلك الحزام البلدي الغليظ ويرمي (السليمي) على كتفه بحيث يكون الجزء المتدلي على الظّهر هو الأطول. أمّا الثوب الذي تكون فتحاته قد حيكت من (القيطان) فيفترض أن يكون قصيرًا بحيث يكشف عن فتحة الإزار المتقنة في حياكتها، وكان البعض من السيّدات الفضليات وربّات البيوت يقضين وقتًا طويلاً في صناعتها.
هذا الرجل أو المعلّم، كما يحلو للرّفاق مناداته، يأخذ بيده رشفة من فنجان الشاي ويمسك (لَيْ) شيشة الحمي باليد الأخرى، ورفع مرّة بصره إلى الفتى وسأله سؤالاً مقتضبًا: فين ولد سيّدي ما يجينا من زمان؟ وأدرك الفتى أنّ المعلّم يسأل عن ذلك الصديق الذي كان يلازمه الجلوس في الحارة، ويجيب الفتى في شيء من الحرج (صديقي مشغول بالدراسة يا عم)، وما لفت نظر الفتى هو الأدب في السؤال وعبارة (ولد سيدي) ولكن من خالط أتباع أو (معاتيق) الآغوات يعلم أنّ ذلك جزء من شخصياتهم المطبوعة بذلك الأدب الرفيع في الحديث.
(السحلبجي عبدالرحيم) من أهل الرستمية لا يتحدّث مع أحد, ولكنّه يتمتم بكلمات غير مفهومة، وقد أمسك بثوب يصلح أطرافه بيديه، (عبدالمؤمن) من رباط (فناجة) قال للفتى مرّة: إن (عبد الرحيم) هذا كان يشتغل بصنعة الخياطة ثمّ أصابه (حالٌ) فظلّت حياته تتراوح بين (الحارة) و(المسجد) وحاول الفتى أن يقتحم حياة هذا الرجل فأخفق.
المعلّم (الطيرة) مشغول بإعداد الشاي، ويبتسم في بعض وجوه رواد (الغرزة) وهو يقول: (الحمد لله الأحباب تجمّعوا بعد الفرقة) وأدرك الفتى وجهة الكلام ومقصده عند (طيفور) في الحارة و(العم الطيرة) في فناء برحة البقيع التي كلّ ما هبّت النسمات نديّة من (الطيبية) والأخوين و(أم هاني)، على (ربوة) أهل البيت فيها حملت معها عبقًا زكيًّا يُحيي نفوسًا وبالوجد الصادق يفرح قلوبًا، فترى يا صديقي ما الذي حلّ بالربوة وكيف استبدلنا بخضرة النخيل بـ(حمرة) الورد، بـ(بياض) الفلّ والياسمين، كيف استبدلنا بذلك اسمنتًا وخرسانة وحديدًا؟ كيف استحالت حياتنا بهذا غلظة وجفوة وسوءًا؟ يا صديقي (يا زين) يا من سمع معي هتاف (الطوف) نديًا، يا من شهد بصحبتي الفجر بين القبة والمقام بهيًا، يا صديقي.. يا (كشلة) ترى أين دورق ماء عذب كنت تحمل (شكته) بيد، وتحمل بيد أخرى كتابًا تقرأه، كيف أكتب قصّة الطيّبين من أمثالك بين الصُفّة ودكان (البر) وتمنّيت صادقًا أن تضمّك الربوة بين ثراها فإذا الأقدار تشاء أن يكون مثواك بعيدًا، وربَّ بعيد منك (يا سيّدي) وهو قريب.
 
طباعة
 القراءات :213  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 12 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج