شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بذور فلسفية (5) (1)
أول ثائر فاشل في الدنيا
في تلك الأيام السجسج، وعلى تلك الهضبة الحمراء المتموجة التي أصبحت أرضاً بعد انفصالها من السموات والتي كانت لا تسطع فيها شمس ولا يبزغ فيها قمر.. والتي قال الله فيهما: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا (2) ، وفي هاتيك الأزمنة -وحسب- هل كانت أياماً، أم ليالي، أم كانت بين بين، حدث أن الله سبحانه خلق الملائكة من نور والشياطين من نار، ثم كان آخرهم في الخلق (الأب التليد آدم)، وكان خلقه من طين مسنون!
لكن ما الذي جعل الشيطان يعرف أن هناك فرقاً واضحاً صارخاً ما بين من يخلق من نار أو من نور أو من طين في آخر الخلقة المخلوقة بإذن الله..؟ وكيف أدرك -قبحه الله- أن هناك تفاوتاً بين النار والنور والطين، وأن هناك تسلسلاً بين أعلاها وأوسطها وأسفلها؟.. وكان -مع ذلك- مشغولاً بالعبادة، -كما يقال- على أنه كان دؤوباً يعمل فكره ويطيل تأمله، وكان إلى ذلك منظم الذهن لا يعتوره أي شتات..
قال الله سبحانه للملائكة والشيطان في الجملة: اسْجُدُواْ لآدَمَ (3) ، فسجدوا كلهم إلاّ الشيطان، فقد شدد من انتصابه وأتلع رقبته، ورفض السجود، مستخدماً هنا قياسه الفاسد الذي يقول: أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (4) .
ونحن الآن بعد آلاف السنين أو ملايينها لا ينقضي تعجبنا من موقف هذا الشيطان الرجيم، كيف استطاع أن يبت في لفظة واحدة، ويرجح أفضلية النار على الطين بدون أدنى تردد، بينما العناصر التي بدأ بها الخلق في ذلك الحين لم تتجاوز الثلاثة فيما حدَّثتنا به الكتب الدينية، والروايات المأثورة، وهي على التوالي: النور، والنار، والطين؛ وكانت هذه الأسماء على قلتها مجهولة المسميات، أو غامضة على الأقل في مدارك مخلوقات ذلك الزمان، فإن العناصر في حينها لم تتحدد بعد، ولم تظهر سمات التميز بينها، ولم تستقل بخصائصها، بعضها عن بعض، فكيف وبأي وسيلة وعلى أي مثال استطاع الشيطان أن يقارن بينها، ويوازن بين مكوناتها، ويذهب في ذلك إلى حد تفضيل بعضها على بعض؟ وما هي الملكة العجيبة النادرة -في عهدها- التي جعلته ينفرد بالتأمل والنظر.. وبالتالي يرفع راية العصيان والثورة في وجه الله العظيم القادر المتعالي؟ هل كان يدرك -ولو بدائياً- أن النور هو الذي يضيء ولا يحرق، وأن النار هي هذه التي تضيء وتحرق معاً، وأن الطين هو هذا الشيء اللزج المتألف من غثاء الأرض؟
إذاً، فقد كان الشيطان -عليه اللعنة- يتمتع بذهن قاموسي غريب المثال في زمنه.. ومع كل ذلك فقد فشلت ثورته وطرد من رحمة الله، وتوعد هو ومن اتبعه بالعذاب الخالد، ولم يكسب من ثورته العارمة إلاّ أنه تحدى الله سبحانه في أن ينظره إلى يوم القيامة، فقبل الله تحديه (5) وأنظره ليظل في صراع دائم مع عباد الله، ذلك هو الصراع الخالد التالد بين الخير والشر على ممر الأزمان، وصدق أبو نواس إن كان هو الذي قال:
عجبت من إبليسَ في خبثه
وقبح ما أضمر في نيَّتهْ
تاه على آدمَ في سجدةٍ
وعاد قوَّاداً لذريتهْ (6)
نعوذ بالله من غضب الله.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :233  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 24 من 182
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج