شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بذور فلسفية (6) (1)
جورجياس الجديد
قبل (بوذا) وقبل (كنفوشيوس) بمئات السنين كان يعيش في الصين حكيم غلب أمره واشتهر ذكره في سائر الآفاق المجاورة، وكانت الحكمة كبعض جلده، ولم تكن الفلسفة لتكون بحق إلاّ إذا مرت على لسانه الحي المتسامي.
كانت كل حركاته، وسكناته وكلماته والتفاتاته، نظراته وتأوهاته، كان كل ما يصدر عنه جسمياً، أو روحياً، ومادياً، أو معنوياً، كل ما يقذف به لسانه أو تومئ إليه يده، أو يرنو إليه طرفه، كان كل ذلك يصبح حكمة ذات خلود مقيم، ويعود قدوة لكل لائذ بالصراط المستقيم.. كانت حركته نعمة، وكانت سكنته رحمة، أما ما ينطق به على قلته وتركيزه فقد كان فصل خطاب ودراً فخماً فاخراً لا تزدان بمثله تيجان الذروة من ملوك الأرض.
كان اسمه السامي ذو الذكاء الحامي (ين -صن)، ولم يكن له -حاشاه- بيت وليست له عائلة، لكأنما جاء فرداً إلى الأرض تطويباً لها وإنعاماً عليها.. وإنما كان يقيم باستمرار وعلى الدوام تحت شجرة بلُّوط فخمة وضخمة ذات ظل ظليل في قرية (يا -شاي) بالقرب من عاصمة الصين في عهد المدينة العظمى (لي -سين).. وما من مبالغة إذا قلنا: إن العاصمة الكبيرة تخلو في أكثر الأحايين من سكانها، وتتجه في حج أعظم إلى قرية (يا -شاي) التي يكللها بالوشي ويتوجها بالزخرف أقامه هذا الحكيم العظيم فيها، فإذا هي في أغلب الأيام من كل عام أشبه بالبحر اللجي، لا تكاد تميز عبابه من سحابه.
وأصبحت شجرة البلوط قيمة من الجهات الأربع، لا للصينيين وحدهم، وإنما أيضاً لجيرانهم من الأمم الأخرى التي تكتنفهم، فقد ارتفع صيت ذلك الحكيم العليم ذي المنطق الصائب، فوق كل صواب، والرأي الثاقب القاضي على كل شهاب، وأمسى ذكره الطيب يسري مع كل ريح، ويتناوح في كل أفق فسيح.
ولقد أفاضت كتب التاريخ في نعته، إنه كان ربعة من الرجال، وكان مقدوداً لا إلى الهزال ولا إلى الاكتناز، وكان محياه يشرق بين الابيضاض والاصفرار كما لو كان ورداً مشرباً بورس.
لقد قلت: إنه لا ينطق عند اللزوم إلاّ بكلمة مكونة من مقطعين، ولكنها بالغة الدلالة وأنيقة الأداء، إنه يطلقها كما لو كانت مثلاً شارداً أو حكمة لماحة.
إن الشمس تبعث بالشعاع ذي الألوان، وفي هذا الشعاع المفرد ينداح النهار بكل ما فيه من طول وسعة، لقد كان (ين -صن) كذلك.. إنه ضنين باللسان وبالبيان، فإذا أتحفك بتعبير قصير فلا تبحث عن غيره.. إن في تعبيره القصير -لو علمت- ما لا تستوعبه المجلدات من الشروح والهوامش والحواشي.
في مرة من المرات وهو تحت بلوطته العامرة جالس القرفصاء أتته امرأة صينية، انتحابها يملأ السماء ويتجاوزها إلى أعلى الغماء.. قالت له: يا سيدي يا حكيم الصين وشيخ العالمين، أنت أيها الكوكب الوضاء، الباهر الرواء، يا شمس كل الشموس، ويا أنس كل وجود غير مأنوس، أيتها العبقرية الفتية، الطيّعة العصية، أيها القطب الخالد ذو الطارف والتالد.. لقد لهوت لحظة عند جيراني وعدت وقد أكل الذئب ابني الوحيد الذي لم يبلغ العامين من عمره، فماذا أصنع أيها السيد الجيد؟
لم تطرف عين الحكيم الجليل النبيل، ولا اهتزت له جارحة، كل الناس من كل الأجناس أمامه بالآلاف على استدارة المطاف.. ورمق الأم الثكلى بنصف عين، وبالأخرى أرسلها بين بين، ولم يزد على أن قال: (عو -عي).
فانطلقت الجماهير، وفي مقدمتهم الأم الثكلى، يصيحون في الأسواق والشوارع، ويقلدون لهجة الحكيم ونبرته ويرددون: عو -عي.. عو -عي.. عو.. عي، وأقعوا يعوعون من آخر النهار إلى صبيحة اليوم التالي، وأصبحت شمس الصين، فإذا الذئب الغادر قد قُطع منه الوتين، وإذا هو مجندل تحت أقدام الغادين والرائحين إلى بيت أم الوليد الفقيد.
أي حكيم هذا في تاريخ الصين.. كلا إن أية حكمة أخرى لكبيرة إلاّ على الخاشعين.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :206  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 25 من 182
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج