شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أقصوصة حجازية
عامر.. ذو عيد غير سعيد (1)
نشأ عامر مثل بقلة الأرض يتيم الأبوين، ولو التفت لنفسه لحظة لما أحس بوجودها، إنه عمل كأي عمل في الحياة، على أنه بلغ العاشرة من سنيه واستدار فوجد له نفساً وحياة ومطالب في العيش الموقوت ولكن من أمه ومن أبوه؟ إن جيرانه وعمه الوحيد يعلمون ذلك، وقد كد ذهنه وأتعب دماغه وكان أشبه بناطح صخرة ثم يئس وأبلس وكف عن البحث، وإن يكن على يقين حازم من أنه لا يوجد إنسان بلا أب ولا أم؟ وكان عمه عزباً ولعلّه كان حصوراً أو عقيماً، فاستخدمه لديه على فظاظة وغلظة.. فأما ضربه إياه فكان مثل المطر، وأما شتمه وتقريعه فكان مثل السيل المنهمر. ولبث عامر على ذلك حيناً من الدهر وهو كلما التمس رأسه وجده صخرة ملساء، وإذا تحرى عن قلبه ألفاه "سفنجة" تمتص الهموم والأكدار والأحزان ولا يظهر كل ذلك عليها.
إن عامراً مهما كان ذكياً خفيفاً مباشراً غير ذي موضوع كما يقولون، وإذا كان لم يأل جهداً في خدمة عمه بكل نشاط، فإنه لم يجد ندحة عن ذلك، وفضلاً عن تفاهة أكله فإنه لا يحمل على جسمه إلاّ ملابس مهلهلة قذرة!
لكنا نعرف بعض الشيء عن أهله فقد كان أصيلاً ذا عرق كريم على أنه ككل صبي ذو دعابة وفيه تلعابة.
وكان عمه رقيق الحال أو هو أقل من ذلك جداً، فبدا له أن يعمل في مكان آخر ولكن ماذا يصنع بعامر؟ ورأى أن يستخدمه عند أناس أغنياء لمدة معينة وقد فعل ذلك وقبض الأجرة!
إن مخدومي عامر كانوا مرفهين جداً كأي سلالة أشرقت بأسنان من ذهب، وكانوا من تيه الغنى بمكان عظيم، وكان ابنهم "زكي" -وهو وحيدهم- على درجة من البلادة والغفلة إلى حد مؤسف.
واصطحب اثناهما على بون شاسع في الرقة والذكاء والتوفز، فإن على عامر أن يخدم زكياً وأن يباشر له شؤونه ويطيع أوامره.
وطفقا كذلك ملياً وقد أقبل عيد الفطر ولم يبق عليه إلاّ أيام معدودة. إن هناك غرفة خاصة بزكي مخدوم عامر، لا يدخلها حزن ولا يغدر بصاحبها الزمان كما قال الشاعر (2) ! ورغماً عن أن اثنيهما انسجما مع بعض، فإن الفرق بين الغنى والفقر لا بد له أن تبلغ عنقه ويثأر محظه.
- يا عامر، هات تلك الدمية. فيأتي بها مسرعاً، أوه كلا هات الأخرى، لا ائتني بكأس من الماء.. اسمع إني سأغير حلتي أعطني تلك الحلة المعلقة على المشجب، ما هذا يا عامر؟ كن خفيفاً هل أنت بليد إلى هذا الحد!؟
ولبث عامر يصول مع سيدنا زكي في ميدان ليس فيه مصال، ويقول له ولات حين مقال.. ولم يزل عامر في أسماله الممزقة إلى قبل ليلة العيد بليلة واحدة، دخل أثناءها وحده إلى غرفة الوجيه زكي، فوجد حلة العيد الخاصة به معلقة على مشجب بالحائط.
قال له عقله: البسها واخطر بها أمام المرآة لحظة مستمتعاً، ثم اخلعها وردها مكانها، وقد فعل على أنه بينما هو يصول ويجول، ويرى نفسه في تلك الحلة على نمط إنسان جديد، والمرآة أمامه كأنها تقول له: ازدر ما شئت إذ وقعت الواقعة التي ليس لها من دون الله واقعة.
فقد دخل سيدنا زكي مع مربيته الشوهاء، وصاحوا على عامر: حرامي.. حرامي.. لص.. خسيس. وجرد من تلك الحلة -ليلة العيد- وطرد إلى الخارج.. أين يذهب عامر المسكين؟ خرج عامر وهو يرتعد لا يدري إلى أين يذهب.. فإن عمه مسافر، وليس له مأوى.. فنام بأسماله في قارعة الطريق، وأصبح العيد ولبس الموسرون كل جديد، وخرجوا في الأزقة والشوارع يختالون مثل الطواويس، ألوان زاهية، وسطعة ولمعة وحواصل منفوخة. أما عامر فكان مثل العصفور منتوف الريش موقوص الظهر.
على أني لست أدري كيف عثر به زكي في رهط من إخوانه الأغنياء وهو نائم بائس على جانب الطريق فوكزه برجله إلى أن صحا من نومه، والتفت الوجيه زكي إلى لداته، وقال: انظروا.. إنه لص.. لص.. طردناه البارحة من دارنا، وكاد أن يسرق حلتي، ثم بصق على وجهه، وضحك الآخرون، وأردفوا ببصق آخر.. وبكى عامر، واختلطت الدموع بالبصاق، وانهل من فمه لعاب الأسى، فإنك لترى في وجهه صورة مصغرة من "بركة" مترجرجة انعكست عليها أشعة الشمس، فهي ما تزال مصطفقة متوجة تخايل العيون.. على أنها تكرب النفس وتقبض القلب.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :248  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 134 من 182
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج