شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الصحة والمرض (2) (1)
يصعب على الإنسان أن يصف المرض وصفاً حقيقياً، وهو لم يكابد المرض، كما يصعب على الأعمى أن يصف شيئاً منظوراً، وقد تعطلت عنده حاسة النظر.
ومنذ أن قذف بي على هذا الكوكب، أي منذ أكثر من أربعين عاماً، وأنا والأمراض كالماء والخمر كما يقول أبو فراس الحمداني عن نفسه وقومه.
وقد ذهبت إلى لبنان في مطلع هذا العام مستشفياً من أمراض، فعدت منه بأمراض أخرى، والأخرى هنا تذكرني ببيت شعر لحافظ إبراهيم يقول فيه:
أضرت به الأولى فهام بأختها
فإن ساءت الأخرى فويلاه منهما (2)
سُئل أحد الطفيليين عن الشيء الذي لا يفارقه أبداً، فقال: الرغيف! وسئل آخر نفس السؤال فقال: الدائن، أما أنا.. فلا الرغيف، ولا الدائن بالرغم من أنهما ملازمان.. لكنه المرض!
وما مرض جسدي إلاّ وهو متصل -فيما أعتقد- أوثق اتصال بمرض نفسي، ويعلم الله عالم الخبء في السموات والأرض أن نفسي لم يبق فيها المرض ما يمكن أن يرفع على رأس إبرة.
ولقد قال إسرائيلي قديم في "التوراة": إن نفسه مريضة حباً فما أخلى قلبه! ولكن نفسي والله مريضة غماً وقرفاً، وقد اخترت كلمة "القرف" العامية على الكلمة الفصحى.. التقزز مثلاً، فإن الأولى أدق في أداء المعنى الذي أريده!
إن عيني لتبصر أشياء لو أبصرها أكبر مجهر في الدنيا لتحطمت عدسته قرفاً!
وإن أذني لتسمع أشياء تؤلم طبلة الأذن وتخرق صماخها!
وإني لأحس بأشياء أهون ما فيها يجعل المرء يتمنى ألف مرة عدم المعرفة بها!
وكل هذه الرسائل تؤدي إلى تدمير النفس، وإتحافها بكل أمراض الإنس والجن. وكنت قلت من قصيدة قديمة:
وكم مبصرٍ في العيش ما قد يسوؤه
فيُغذى به.. والسوءُ غاذٍ معذبُ (3)
قلت ذلك قبل أن يخطر ببالي بيت المتنبي المشهور القائل:
واحتمالُ الأذى، ورؤيةُ جانيـ
ـيه غذاء تَضْوى به الأجسامُ (4)
ومن العسير على أي طبيب مهما تعبقر أو تفوق أن يستطيع علاج جسد يحمل نفساً نخرة مثل نفسي.
وكنت أتردد على طبيب هنا ثم ثنيّت بآخر، ثم عززتهما بثالث، وكانت "الوصفات" تختلف ضروباً وشكولاً، ولقد أذكر أن وصفة منها لا يتجاوز عدد ما فيها خمسة أدوية بلغت قيمتها خمسة وستين ريالاً، وهناك صيدلية واحدة توجد فيها هذه الأدوية "الثمينة" العديمة الجدوى، وقلت لصاحبها: هل أستطيع أن آخذ منكم مفردات أثمان هذه الأدوية فأشاح بيده، وقال: كلا إن قيمتها مجتمعة كما قلنا لك، وعليك أن تأخذها أو تدعها.
ولم يسعني أن أدعها.. ولم أجد أمامي حائطاً قريباً فأنطحه برأسي.. ولا بحراً أجاجاً فأشرب منه، ولو فعلت لظل الأمر هو الأمر، ولن يكون أخوك حيثما كان -إلاّ مكرهاً لا بطلاً!
وستجد إن شاء الله على أغلب الأدوية مكتوباً هكذا: السعر ريال عربي. أما ما تحت القروش والريالات العربية، ففراغ مثل فراغ الشرق الأوسط في رأي الزعيم الغربي للكرة الأرضية على بياض مثل بياض قبور أجداد إيدن وموليه من غير رحمة!
وتلاحقت الوصفات بالعشرات من الريالات، وظل المرض مثل شيخ الطيور، "لبد" الذي طال عليه الأمد.
ولقد لبثت ردحاً طويلاً، ورسني تتداوله أيدي الأطباء بلا فائدة من توالي الفحوص الطبية، ولا عائدة من تكاثر العقاقير والبلاسم. أما الآن فقد قررت أن أتناول رسني بيدي وأطويه على عنقي، وأتذرع بصبر "أيوب" وأتحمل أوجاعي كذلك "الوعل" الذي كلف قرنه ما لا يطيق على رأي "الأعشى".
أما إذا انتابني مرض غاد في ليل كافر فيومئذ سأرسل رسني، ولو بلا رأس كما يقول المتنبي، وساعتها لن يصل إلى الأرض، بل ستلتقطه أيدي الأطباء، التي تلتقط أرسان النجوم لو تساقطت.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :454  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 39 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج