شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
صلاح الدِّين الأيوبي
الأستاذ أحمَد عبد الجواد الدومي
ما أشبه الليلة بالبارحة!
إن الجريمة هي نفس الجريمة.. مارسها أتباع الصليب بالأمس.. وفي عصرنا هذا.. يمارسها اليهود!
بالأمس احتل الصليبيون أرض الشام وفلسطين.. وما أكثر ما عاثوا فيها فساداً وما أكثر ما أحدثوا فيها من ألوان التخريب!
واليوم: ها هم اليهود يكررون "المأساة".. بنفس الوحشية.. ويعيد التاريخ نفسه كما يقولون!
ولعلّ في قصة "صلاح الدين" البطل الذي قهر الصليبيين، واسترد "بيت المقدس" بعد كفاح طويل، لعلّ في قصة هذا القائد العظيم -وقد حارب في ظروف تشبه ظروفنا- أبلغ درس يمكن أن يستفيد منه مسلمو اليوم.. وهم يعدون أنفسهم لمعركة آتية بإذن الله.. إنه درس البطولة والفداء.. وما ينبغي لهما من إخلاص حقيقي وقوة إيمان بالله.. إلى جانب براعة القيادة ووحدة الصف.. وحسن الإعداد.
إنها قصة قائد مسلم عظيم ملأ الدنيا.. وشغل الناس!
قائد عظيم.. لم تكن عبقريته الحربية هي وحدها مضرب المثل.. وإنما كانت أخلاقه ومثاليته وحسن معاملته لأعدائه.. من أهم مميزات عظمته وشخصيته.. ومن أجل ذلك شهد له أعداؤه، واعترفوا بعبقريته، وأشادوا به.. وأثنوا عليه!
وفي هذا الكتاب -وهو من الكتب التي ظهرت مؤخراً عن السلطان صلاح الدين- موجز لسيرته.. اكتفينا منه -في هذا العرض- بالجوانب الخاصة بجهاده الحربي الخالد، وما سجله في حروبه مع الصليبيين من بطولة وشجاعة وبراعة ودهاء.
يقول المؤلف في تمهيده للكتاب:
كان صلاح الدين فاتحاً للبلاد بسيفه.. وفاتحاً للقلوب بعدله.. وفاتحاً للعقول بعلمه.. وفتى شهماً من مهده إلى لحده.
وبذلك كان صاحب سلطان.. وداعياً من دعاة الإيمان.. وبناء مجد وحضارة وعمران.. وهذا كله جعله يمتد في التاريخ يوماً بعد يوم.. وقرناً بعد قرن.. وجيلاً بعد جيل.
* * *
... والحديث عن صلاح الدين فيه دعوة إلى البطولة.. وحث على الكفاح.. وفيه نار ونور.. نار تحرق.. ونور يضيئ.. لأنه كان مشبوب الأوار بالليل والنهار.
والحمد لله، كل عربي اليوم أعد نفسه للجهاد والكفاح.. وهيأ مشاعره للتضحية وحمل السلاح في سبيل حياة عزيزة لا سادة فيها يطغون.. ولا عبيد على أرضها يستذلون.
* * *
ثم يقول: وزاد هذا البطل الفاتح نصاعة وجمالاً إنه كان مصقولاً بطابع الإسلام الصحيح، طوافاً حول دائرته، لا يميل عنه يمنة ولا يسرة.. ولا يزيغ عن حده قليلاً أو كثيراً.. ولهذا كان فتى خلاقاً للمعاني.. مقيماً لدعائم الإسلام.. بانياً للإمبراطورية العربية على أعظم أساس، وأقوى لبنات..
لقد اتصل صلاح الدين بالسماء وجعل العقيدة هي المحور الذي يدور حوله.. وآمن بالله، فآمنت له القلوب.. واستقرت على عرش حبه أفئدة الملايين.. تعلم من عقيدته ألا يطأطئ رأسه في هزيمة، ولا يزهو في نصر!!
وتعلم من عقيدته أن العظمة في البساطة، فعاش أغلب حياته في زيه البسيط، ولباسه الخشن.. وخيمته ذات الأوتار المشدودة!
ولهذا كان أنشودة كل جيل.. وخير مثل للشباب.. وأعظم قدوة لأي زعيم، وأحسن أسوة لمن أحب أن يكون في الخالدين..
وكأن شوقي كان يعنيه إذ يقول:
خيرت فاخترت المبيت على الطوى
لم تبن جاهاً أو تلم ثراء
إن البطولة أن تموت من الظما
ليس البطولة أن تعب الماء!
لقد قاسى صلاح ما قاسى.. ظمئ وأصحر.. ونام على الطوى.. وعاش الأيام والليالي بين الوغى حتى انتصر.
وسنقتفي اليوم أثره.. ونتبع سيره، فالمعركة التي حارب من أجلها هي معركتنا، والانتصارات التي وصل إليها هي التي سنصل إليها بعون الله!
* * *
كان الشرق قبل عهد صلاح الدين مقسماً إلى إمبراطورية عربية.. وإلى إمبراطورية بيزنطية.. ولقد قامت هذه الإمبراطورية على أنقاض الإمبراطورية البيزنطية.. ذلك حين انتزع العرب المسلمون من البيزنطيين دمشق وفلسطين ثم زحفوا بعد ذلك إلى القسطنطينية لينتزعوها.. ومنذ ذلك الحين والبيزنطيون مع العرب في حالة باردة حيناً.. وساخنة في أغلب الأحايين.. وفي عهد الدولة العباسية الأخير استطاع البيزنطيون أن يقفوا على أقدامهم ويرفعوا رؤوسهم واستطاع أحد ملوكهم أن يطرد العرب من كريت بعد عهد طويل وتمكن البيزنطيون -فيما بعد- من احتلال فلسطين ودمشق مرة ثانية، ولكن الدولة الفاطمية والسلاجقة بذلوا جهداً كبيراً في استرجاع هذه البلاد العربية من جديد..
وكانت موقعة "منازجرد" عام 1077 أهم موقعة تاريخية انتصر فيها العرب على هذه الإمبراطورية البيزنطية التي آن لها أن تتداعى.. وحق لها أن تتقلص بعد هذه الهزيمة المنكرة!
ولكن كانت هذه الهزائم كلها سبباً قوياً لأن تتحالف الإمبراطورية البيزنطية مع الدول الإفرنجية حين ذاك.. على التآمر ضد العرب وخنقهم وكتم أنفاسهم.
وصفق الإمبراطور البيزنطي لإتمام هذا الحلف تصفيقاً حاراً.. كما فرح له الأوروبيون فرحة عظمى!
فمنذ كثير من السنين كان الفريقان يشتاقان إلى الانقضاض على هذه الأمة العربية الحية النابضة.. وعلى هذا الوطن الغني الثري..
وأخذ كل من الإفرنج والبيزنطيين يمني نفسه بأمان عذاب.. إن الكتلة العربية المحصورة في هذه الرقعة من الأرض سيقضون عليها في القريب العاجل، وبذلك يخلو الجو لهم، يمرحون فيه ويلعبون كيفما يشاؤون..
والواقع أن حالة الإمبراطورية العربية حينئذ كانت لا تبشر بخير كثير.. فهي منقسمة فيما بينها إلى خلافة عباسية شاخت وكبرت.. وكان مقرها بغداد.. وإلى خلافة فاطمية ضعفت وهزلت وكان مقرها مصر..
* * *
ولقد هب أشراف الدولتين ورهبانهم على بكرة أبيهم، وكان بينهم وبين الشرق العربي ثأر كامن، وحقد دفين.. فلما سنحت لهم الفرصة أرادوا الانقضاض، والتهام الأخضر واليابس!
وكم كانت فرحتهم بهذه الحروب.. ليفتحوا بلاد الشرق، ويستعبدوها ويجعلوها مناطق نفوذ لهم، وأسواقاً تجارية لبضائعهم، ولكي ينشئوا مملكة لاتينية ضخمة في ربوعه..
ولقد نجحت هذه الحملات الأوروبية البيزنطية حيناً من الدهر، وأصبحت فلسطين ومدن الشام ولبنان مستعمرات إفرنجية، وعكفت المصانع الأوروبية على إنتاج العتاد والذخيرة، وتمكن السياح الغزاة من معرفة أسرار العرب.. فعرفوا الكثير عن صناعة الحرير، وعن الزعفران، والصباغة، والمعادن، والأحجار الكريمة. وامتد نطاق التجارة إلى القارة الأوروبية كلها..
ولا نبالغ إذا قلنا إن استغلال الغرب للشرق في هذه الفترة كان له الفضل الأكبر في دفع الغرب إلى عالم متحضر، اجتماعياً وصناعياً..
وساعد الحظ الغرب.. فوهنت الدولة البيزنطية.. وبذلك مكّن الغرب أنيابه وأطماعه.. وسيطر على موارد الشرق، واغتصب حقوقه..
ولكن الأقدار السعيدة ساقت إلى الشرق كله.. وإلى أرض العروبة.. وليداً كبر، وشب.. فحول مجرى التاريخ، وأرجع الغرب إلى بلاده.. واستل الشرق من يده بقوة السلاح، وقوة الإرادة، وقوة الشعوب، وإعانة الله..
هذا الوليد البطل هو: صلاح الدين.
صد العدوان عن مكة والمدينة
ما أشد ما لقى المسلمون من الصليبية الغازية! وما أسوأ ما كانوا ينوون للعالم العربي والإسلامي من شرور ومصائب!
لقد دبروا في أنفسهم أمراً: إن صلاح الدين قد استولى على صحراء سيناء، وفتح أيلة.. ووضع فيها حامية عظيمة، واستولى على العريش.. فلماذا لا ينغص الإفرنج صلاح الدين ويكدرونه ويستولون على أيلة؟ ثم ينفرون إلى مكة والمدينة، قلب العالم الإسلامي، ومهبط الوحي، ومكان المقدسات؟
فإذا ما استولى الإفرنج على هذين الحرمين الآمنين العظيمين.. فقد تمكنوا من القضاء على العالم الإسلامي، وطعنه في الصميم، وينتهي ذلك بقطع الصلات الحسية بين العالم الإسلامي وبين قبلته المعمورة، سواء كانت هذه الصلة عن طريق البر أو البحر..
وعندما يصلون إلى هذه الغاية يعملون على تحقيق غاية أخرى في منتهى الأهمية، وهي السيطرة على التجارة عن طريق البحر الأحمر، وذلك باحتلال "أيلة" من الشمال، وعدن من الجنوب، وهاتان غايتان واسعتا الفائدة..
وشدت الحملة الإفرنجية رحالها فعلاً وتوجهت إلى "أيلة" وحاصرتها ومنعت عنها وصول الماء إليها من الطريق، وكاد إخواننا العرب يهلكون في هذا البلد العربي.. ولكن الله سبحانه وهو الرحيم بعباده أنزل عليهم مطراً مدراراً أرواهم وأحيا زرعهم وأمدهم بالحياة، فاستبسلوا أمام العدو، ولم يقبلوا التسليم.. فواصلت الحملة سيرها في البحر.. حتى باغتت أهل "عدن".
وفتح أهل عدن المساكين عيونهم يوماً فإذا بهم محاصرون من عدو غاشم، وحملة ظالمة لم يعرفوا لها سبباً.. ولم يدركوا لها غرضاً بادئ الأمر..
ولكن ما قامت به الحملة من سلب ونهب.. جعلت أهل عدن يفهمون أن الأرض مملوءة بالشر.. وأن هناك أمماً غربية تعيش على الظلم.. والسفك.. والاغتصاب.
* * *
وقصدت الحملة المدينة المنورة عن طريق الصحراء.
ولعلّ القارئ يتساءل الآن في حيرة ودهشة: كيف يسكت صلاح الدين، ويقف مكتوف اليدين أمام هذه المآسي كلها؟
وأبادر بالجواب، فأعلن أن هذه الحملات كان فيها عنصر المفاجأة والسرعة.. ومع ذلك فلم يسكت صلاح الدين لحظة واحدة دون أن يدبر أمراً، أو يجهز فيها جيشاً.
لقد كان صلاح الدين في الشام حينذاك فأصدر أوامره بتجهيز الأسطول وترتيب قيادته، وإبحاره فوراً لصد هذا العدوان الآثم.. وهذه الحملة الغادرة.. كما أمر بترتيب جيش على وجه السرعة ليقتفي أثر الجيش الإفرنجي في الصحراء.
وكان للبريد الجوي في هذه الأيام أثره السريع، وتأثيره العظيم، فاستقبل الشعب هذه الأوامر بما يناسبها من أهمية وتقدير، ومن الذي يبلغه أن الصليبيين على مسافة قريبة من المدينة ثم يهنأ له طعام أو شراب بعد ذلك؟
إن احتلال شبر واحد في الوطن العربي أمر يفزع له الخاطر.. فكيف إذا كان المقصود بالحرب هي المدينة التي يحل فيها نبي الإسلام، ورسول الإنسانية والسلام؟
* * *
وحمى الله مكة والمدينة وصحراء سيناء وعدن وغيرها من الإفرنج بفضله وتوفيق صلاح الدين وجيش صلاح الدين ومحافظته في عزة وقوة على تحرير الوطن العربي من أي عدو غاصب، أو أمة محتلة!
لماذا كانت الحروب الصليبية؟
لماذا كانت هذه الحروب المسماة بالحروب الصليبية؟
بين الغرب والشرق عداء مستحكم، ليس اليوم فقط، وإنما هو من قرون مضت.. وكان هذا العداء يصل إلى حد الجنون في كثير من الأحايين، وما كانت هذه الحروب إلاّ نزعة من نزعات ذلك الجنون المستعر أرادت للشرق الذل والهوان والتأخر والانقراض..
فأي وسيلة تسلك العقول الغربية للوصول إلى هذه الغاية المسمومة؟ عبأت جميع القوى، وأذاعت بجميع اللغات، ودعت في شدة وإلحاح إلى أن القدس يجب أن يكون في أيديهم، وأن أمة الشرق يجب أن تزول من الوجود.. لماذا؟! لأنهم أشاعوا كذباً وزوراً أن قبر "المسيح" قد أهانه المسلمون.. فقد وقف البابا "أوريانوس" في مدينة "كليرمونت" بفرنسا عام 1095 يعلن أنه يجب على الغرب أن يهب على بكرة أبيه لا ليأخذ الثأر من الإهانات التي لحقت بهم في الشرق فحسب.. بل لرد تلك الإهانات التي ألحقوها بالرب هناك!
وبهذا المنطق الدعي الكذاب ألهب البابا المشاعر وجمع الأمم.. ولو تساءلنا: أي إهانات ألحقها المسلمون لا نجد لهذا الكلام ظلاً من واقع، أو جانباً من حقيقة..
وإذن.. فلا مناص من إبراز الحقيقة السافرة من شن هذه الحروب.. وذلك ما أعلنه البابا نفسه في آخر خطابه.. عندما قال: "وليست حروبنا هذه لاكتساب مدينة واحدة هي مدينة القدس.. بل لامتلاك أقاليم آسيا بجملتها.. لأنها غنية بخزائنها التي لا تحصى".. ثم وجه الخطاب إلى من حوله قائلاً: "فاتخذوا من بيت المقدس حجة!! واستخلصوا الأرض من أيدي الكفار؟! أي "المسلمين!" وامتلكوها أنتم خالصة لكم من دون المسلمين.. فهذه الأرض، كما قالت التوراة "تفيض لبناً وعسلاً""!
واشتعلت الأمم المسيحية بهذه الأفكار الوحشية وقررت في نفسها أمراً.
* * *
ومما شجع أهل الغرب على هذه الحروب في تلك الأيام ما رأوه من تفكك المجتمع العربي حينذاك..
فلم تكن هناك فرصة أسنح من هذه الفرصة.. ولا ظروف أكثر مواتاة من هذه الظروف!
ولم تكن الحملات الاستعمارية في عهد صلاح الدين هي الأولى من نوعها كما أنها لم تكن الأخيرة كذلك فقد سبقتها من قبل حملة صليبية من الدرجة الأولى.. تكوّنت من كتائب شعبية بقيادة "بطرس الناسك" وقد اخترقت أوروبا الوسطى زاحفة نحو هدفها المرسوم.
ولما وصلوا إلى القسطنطينية أرغمهم الإمبراطور البيزنطي على تحويل اتجاههم.. فعبروا البوسفور.. وواصلوا المسير حتى وصلوا إلى إنطاكية ثم احتلوا بيت المقدس، وكوَّنوا هناك عدة إمارات لاتينية:
1- إمارة الرها.
2- إمارة إنطاكية.
3- مملكة بيت المقدس.
4- إمارة طرابلس.
وكانت هذه الحملات من الفرنسيين.. والإنجليز.. والألمان.. والنمساويين، والبولونيين.. واقترفوا في طريقهم من حملات الإرهاب والعسف ما شاء لهم استبدادهم وهواهم.. وحاصروا القدس من جهاتها الأربع، وكان عددهم ثلاثمائة ألف.. وكان في القدس أحد الولاة الفاطميين، ولم تكن البلاد قادرة على صد تيار الحملة الغاشمة، فتغلبت ودخلت الأرض المقدسة.
وهناك حكموا على كل مسلم بالموت وارتكبوا من المنكرات أفظع ما يرتكبه فاتح مستبد، وغاز وحشي.
هذه هي قصة الحروب الصليبية، ولها قصص أخرى.. واعتداءات أخرى من يوم صلاح الدين إلى يومنا هذا.
اجتماع الكواكب
أشاع الفلكيون أن ساعة الحرب قد اقتربت بين الجيوش العربية وبين الجيوش الإفرنجية الغاصبة.. وبنوا هذه الإشاعات على أن الكواكب السيارة الخمسة اجتمعت في برج الميزان مع الشمس والقمر، ومعنى هذا في نظرهم أن حرباً ستحدث.. وأن ريحاً عظيمة ستهب.. وأحدثت هذه الإشاعات رعباً وفزعاً وخوفاً ووجلاً..
وتجرأ أحد الفلكيين، ودخل على صلاح الدين، وقال له: "ستفتح القدس وتذهب عينك.." ولكن صلاح الدين فاجأه بهذه القولة التاريخية:
"رضيت أن أفتحه وأعمى!!".
لذلك لم تهز صلاح الدين هذه الفقاعة التنجيمية.. ولم يبالغ صلاح الدين حين رضي بالعمى، في سبيل الفتح.. إن هذا الرضا لم يكن أفلاطونياً.. بل كان تعبيراً صادقاً عن حقيقة نفسه، وهواه القلبي!
لقد كانت بينه وبين الأعداء هدنة فلينتظر ما تأتي به الأقدار، فجاءته الأقدار بما يهوى ويحب..
قرر "أرناط" أحد الزعماء الإفرنج أن ينقض الهدنة، ويتحدى كلمة العرب والإسلام، فاستولى على قوافل الحجاج ومواكبهم، وأخذ كل ما فيها من رجال ومتاع، متحدياً بذلك الشعور العام للعروبة جمعاء، وبالغ أرناط في تحديه.. ورفض احتجاج صلاح الدين، ولم يأبه له.. وقال: "من اليوم لن أدع قافلة من قوافل الحجاج إلاّ نهبتها..".
وعاش صلاح الدين مع هؤلاء الأسرى يئن لأنينهم، ويبكي لبكائهم، ولم يسعه إلاّ أن يقسم "ليقتلن أرناط إذا ما وقع في يده يوماً ما.." وقد كان!
قبل المعركة
وقد كان الجو مهيأ كل التهيؤ لتحقيق أماني صلاح الدين.. وللاشتباك في حرب فاصلة.. واكتملت الهيئة الحربية للإفرنج في عكا.. واجتمع "ريموند" والملك جي وحزبه بعد فرقة بينهما، وبعد خلافات كثيرة متشعبة استبعد أرناط بأن يهاجم الإفرنج صلاح الدين.. فالمفاجأة عنصر قوي أصيل في الحرب.. والنار لا يضرها كثرة الحطب، على حد تعبير أرناط.. وكأنما كان يسعى إلى حتفه بظلفه.
وتحركت الجيوش الصليبية الاستعمارية.. أما صلاح الدين فقد أعد عدته وجهز جيشه واستقبل أسطوله واجتمع مع قيادته العامة، وهيئة أركان حربه في حزم وبساطة.
ووضعوا الخطط التفصيلية، وأخذوا يرقبون حركات العدو.. وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ... (آل عمران: 13) وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (البقرة: 105).
يوم حطين
تجمعت الجيوش العربية الإسلامية استعداداً للجهاد، ورغبة في النصر أو الاستشهاد.. وفي طريق التجمع حدثت مناوشات جزئية جعلت المسلمين يأملون النصر.. وجعلت الجيوش الصليبية تزداد اهتماماً وتقديراً للموقف.
وقررت هيئة أركان حرب صلاح الدين خوض المعركة فاستعرض صلاح الدين جيشه، ونظمه تنظيماً حربياً عظيماً، وأوقف كل فرقة في المكان الذي يناسبها، ثم انتظر حتى صلى الجمعة ليزداد مدده المادي بالإمدادات الروحية السماوية.. وتحركت الجيوش صباح السبت 18 ربيع الآخر سنة 583هـ/27 يونيه 1187م وعبرت نهر الأردن جنوبي بحيرة طبرية.
وكان الجيش الاستعماري الإفرنجي معسكراً في صفوريا، وكان صلاح الدين يريد أن يزحزحه من مكانه لتكون المعركة مكشوفة، واستطاع صلاح الدين بمناوشاته ومكائده الحربية أن يصل إلى ما يريد.
إن "طبرية" هي الاحتكاك المباشر في الموضوع.. وهي "الزناد" التي تكمن فيها النار كما يقولون.. فليتجه صلاح الدين إليها.. وما هي إلاّ جولة أو جولتان حتى وقعت "طبرية" في يد الجيوش العربية الإسلامية، وهنا اختل توازن الإفرنج، فقرروا الهجوم.. ولما قربوا من "صلاح الدين" نظر إليهم في ابتسام وهدوء.. وقال: "جاء طلبنا!" وكانت كلمة الإفرنج مجمعة على أمرين:
1- الحيلولة بين جيش صلاح الدين وبقية جيوشه الموزعة في المنطقة..
2- محاولة الحجز بينه وبين الماء لأن المعركة في أرض قفراء..
وإذا كان المثل يقول: "من حفر حفرة وقع فيها" فقد وقع الإفرنج في شر أعمالهم، وصدق الله العظيم: وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ (فاطر: 43). إن صلاح الدين كان يحتاط للأمر حيطة عظيمة.. فكيف تغيب عنه مواقع الخطر؟ وكيف يهمل موارد المياه؟
حاول الإفرنج في هجومهم هذا أن ينفذوا الخطط التي رسموها لأنفسهم، ويقطعوا الطريق على السلطان وجيشه، ويستولوا على ينابيع الماء.. فكان من أمرهم أنهم كلما تقدموا خطوة وقعوا تحت نيران "صلاح الدين".. فلم يثبتوا.. وأحاطت بهم الفرق الصلاحية وأخذت تسوقهم إلى حيث المعتقلات.. وحظائر الأسرى.
وأمر قواد المسلمين جنودهم بالعودة إلى خيامهم حتى يصبحوا.. ولكن الروح المعنوية في جيش الإفرنج كانت تولي الأدبار إذ قضى القوم ليلتهم هذه في ظلام حالك ملؤه اليأس والقنوط.
أما حال المسلمين عندئذ.. فقد يلمسها الباحث "إذ قضوا هذه الليلة والأمل يشجعهم على منازلة الإفرنج، واعتقاد الانتصار يقوي عزائمهم.. ويبعثهم على التهليل والتكبير.. والاستعانة بالله على الجهاد.
أصبح الصباح، وانتشرت حرارة الشمس المحرقة، فأعانت المسلمين على الفتك بهؤلاء العطاش.. وهجم السلطان على الإفرنج هجوماً عنيفاً، فرق ركبانهم عن مشاتهم.. وتقهقرت فلولهم إلى التلال.. تلال "حطين".. من شدة ما لاقوا من التعب والعطش الشديدين.. وأرادوا أن ينصبوا خيامهم فلم يمكنهم المسلمون من ذلك.. وكل ما قاموا به هو نصب خيمة للملك.. وفي مكان هذه الخيمة حصلت الموقعة الفاصلة.. فقد هجم المسلمون على الإفرنج الملتفين حول ملكهم.. والذين استبسلوا فتمكنوا من رد المسلمين مرتين.. إلاّ أنهم عجزوا في المرة الثالثة عن المقاومة فما لبثت خيمة الملك أن تداعت.. فانقض المسلمون عليها وأخذوا ما كان فيها..
انتهت معركة "حطين" وكان النصر فيها حاسماً لصلاح الدين.. فقد هزم فيها الإفرنج هزيمة منكرة مادياً ومعنوياً!!
لقد خاض جيش الإسلام والعروبة المعركة وهو أحسن ما يكون نظاماً وأقوى ما يكون عدة.. وأمهر ما يكون قيادة.. وكان اختيار أرض المعركة موفقاً من الناحية الحربية غاية التوفيق.. ومن الناحية المعنوية كانت هزيمتهم شنيعة.. إذ فقدوا جميع مراكزهم التي استولوا عليها.. وجميع القادة والملوك.
فتح بيت المقدس
كان لانتصار صلاح الدين على الإفرنج في حطين دوي هائل في أنحاء فلسطين كلها.. ولم يقنع صلاح الدين بهذا الانتصار الرائع.. فقد كان همه تطهير فلسطين كلها وكل شبر فيها من الغزاة.
وما أجمل ما كنت تنظر إلى الجيش الفاتح: جيش العروبة والإسلام.. وهو يسير إلى الحرب بالرأس المنتصر، والفكر الراجح.. والقدم الثابت.. يفتح حصناً بعد حصن.. وبلداً بعد بلد.. وقلعة بعد قلعة..
وما أجمل ما كنت ترى ملوك الإفرنج مصفدين في السلاسل.. مقيدين في الأغلال.. يسيرهم صلاح الدين معه ليستعين بهم على أن يكون الفتح من غير إراقة دماء.. ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
لقد جاء الإفرنج واحتلوا هذه البقعة الطاهرة العزيزة الغالية.. وقد ساعدهم على ذلك تفكك الدول الإسلامية حينذاك.. وإذن فقد آن للجيش العربي المسلم أن ينال مناه، وأن يسترد الحقوق وأن يدخل بيت المقدس، ويقيم فيه شعائر الله.
ولكن.. كيف الدخول؟
إن صلاح الدين يريد ألاّ يمس مدينة القدس بسوء.. إنه يعرف قيمتها التاريخية.. إنه يدرك مدى ما لها من ذكريات غاليات.. في قلوب المسلمين والمسيحيين جميعاً..
ما أسمى ما كان ينويه صلاح الدين.. لقد كتب إلى الإفرنج: "إني أعتقد أن في القدس بيت الله المقدس وليس في عزمي أن أتعرض لبيت الله بأذى الحصار، أو ضرر الهجوم..
وكان يرمي من وراء ذلك أن يتم الفتح كما تم في عهد الفاروق عمر بن الخطاب.. ولكن أبى الإفرنج أن يسالموا، إنهم لا يعترفون بالمقدسات وإن تظاهروا أنهم حماتها.. وأنهم وفدوا لنصرتها.
واضطر صلاح الدين إلى الهجوم الحربي، وهو في غاية الأسى.. بعد أن عرض عليهم كل طرق السلم فأبوا..
مكث صلاح الدين خمسة أيام يفكر ويقدر.. كيف يبدأ الهجوم؟ خصوصاً وقد بلغه أن الإفرنج عمقوا الخنادق ونصبوا المنجنيقات.. وحصنوا السور.. واستعدوا للمعركة الفاصلة.. واستقر رأي صلاح الدين أن ينصب منجنيقاً في الناحية الشمالية.. ولكنه آثر الانتظار.. إنه لم يسترح ضميره للبدء بالقتال.. وإذا بالفرنجة يسمحون للفرصة أن تسنح.. ها هي دورية منهم خرجت من مدينة القدس.. لتتحدى شعور المسلمين وتستفزهم.. كان هذا بدء المعركة..
قاومت فرقة من جيش صلاح الدين هذه الدورية وأرغمتها على الدخول إلى المدينة.. وذاق المسلمون لذة الانتصار! فأبوا الرجوع عن أماكنهم.. وصدرت أوامر القيادة بالاستماتة في القتال.. ودب في الإفرنج الفزع.. وسرت في جيش صلاح الدين القوة..
كل طائفة استبسلت.. رماة المنجنيق صوبوا قاذفاتهم داخل المدينة.. فدائيون آخرون يردمون الخنادق.. فرقة ثالثة تثقب السور.. بقية الجيش تقاتل على قدم وساق.. جماعة تشعل ناراً وهمية ليمتلئ الجو دخاناً.. صلاح الدين يدير المعركة بقلب الأسد.. وحيلة الأريب.. وعلت السيوف وانخفضت.. وثار النقع.. وامتلأ الجو دخاناً وغباراً.. ورأى الإفرنج أنهم ليسوا أمام قوة عادية.. فقرروا التسليم.. وأرسلوا إلى صلاح الدين وطلبوا منه الأمان!!
ومرة أخرى يخرج القائد الخائن "بنيان" إلى صلاح الدين يطلب الأمان على شروط.. فيبتسم صلاح الدين: هل لمدينة وقعت في الأسر أن تطلب شروطاً؟ لكن مراوغة الثعالبة من الإفرنج لا تنتهي.
قال "بنيان": "إن لم تجبنا إلى الأمان ضربنا الصخرة.. وقتلنا الأبناء.. وقتلنا أسرى المسلمين.. فأعطاهم الأمان على أن يخرجوا من الديار في مدى أربعين يوماً.. وعلى أن يدفع الرجل منهم عشرة دنانير.. والمرأة خمسة.. والولد اثنين.. ومن لم يستطع فهو أسير..
وكان دخول بيت المقدس في ليلة 27 رجب وهي ليلة المعراج عند أغلب العلماء.. وكانت هذه مصادفة من الأقدار.. وكم للأقدار من مصادفات عظيمات!!
ولنا أن نزهو ونفخر عندما نقرأ هذا التاريخ أو نسطره.. ولكن صلاح الدين لم يزه.. ولم يفتخر.. بل سجد لله شكراً.. هو ومن معه.. يعترفون أمام الله سبحانه بالفضل.. ويقرون له بالحمد والثناء..
* * *
وجلس صلاح الدين في خيمته ذات الأوتار المشدودة.. وأمر بالمسجد الأقصى أن يرجع إليه منبره العظيم.. وأن تقام الشعائر الدينية في البلاد.. وأن تقام الصلوات شكراً لله.. وأن يكتب إلى جميع البلاد الإسلامية أن بيت المقدس رجع إلى أهله وأن الفرنجة قد ارتدوا على أعقابهم خائبين!!
وحق للمسلمين أن يفرحوا ويبتهجوا.. وحق لصلاح الدين أن يبكي من شدة البهجة.. وحق للتهليل والتكبير أن يعلوا في الآفاق..
وقد كان صلاح الدين مجموعة من السجايا الحميدة.. كان للرعية أباً رحيماً.. ووالداً إنساناً.. وحاكماً حكيماً.. شديداً في الحق.. صلباً على الإفرنج.. وكان في الجهاد مثابراً لا يقعده عن ذلك مرض.. ولا يلهيه عنه أهل ولا ولد!
شهد له الأعداء قبل الأصدقاء..
ذلك هو صلاح الدين.. الذي انتقل إلى رحمة ربه عام 589هـ/1193م.
لقد رسم لنفسه أن يكون عظيماً.. وأرادت له الأقدار أن يكون عظيماً.. فعاش عظيماً ومات عظيماً!!
ولكن العظمة في صلاح الدين كانت من لون جديد.. فلم يحاول أن يفرض نفسه على التاريخ.. ولم يحاول أن يكون عظيماً بالقهر والجبروت.. ولم يحاول أن يكون عظيماً في ناحية ما.. تاركاً بقية النواحي تحتاج إلى الكمال والبناء.. لم تكن عظمته شيئاً من ذلك كله.. بل كانت أسمى من هذا كله..
لقد كانت مزاياه في سعة قلبه.. وفيض حنانه.. وإشراق روحه، وصلابة عزمه.. وحسن معاملته.. وكبر تواضعه!!
انظر صلاح الدين الفاتح لفلسطين كلها في مدى شهرين.. هذا البطل الفاتح الكبير يسمع نساء يبكين أزواجهن وأولادهن.. فيبكي معهن ويشهق.. لقد كان هؤلاء النسوة من نساء الأعداء.. ولكن الرحمة حين تنفذ إلى القلب لا تعرف في قاموسها قريباً ولا بعيداً، إنها تتسع حتى تعم الإنسانية كلها.. ولم يرض صلاح الدين لنفسه في هذا المقام أن يبكي فقط.. بل أسرع بالأمر إلى هؤلاء الأزواج والأولاد أن يتبعوا نساءهم وأمهاتهم.. وكانت هذه الدموع سبباً في إطلاق ما يزيد على المئات من الأسرى الإفرنج..
إن صلاح الدين بكى قبل أن يفرح، ذلك لأنه كان لا يرى الفرحة بالنصر في أقواس وأعلام.. إنما كان يرى الفرح الأكبر في سجدة شكر لله!! يعبر فيها عن سره ونجواه.. ومن الفرحة بالنصر أن يبكي للأسرى.. ويعطف على المساكين!
ولقد كان عنصر التدين في صلاح الدين عميقاً إلى حد كبير.. حتى لقد بلغ به أن يأخذ على نفسه ألاّ تكون تحركات جيشه إلاّ في أيام الجمع وعقب الصلوات..
ولقد كانت هذه التحركات مباركة عليه فعلاً.. فقد حدث أن استولى على ست قلاع من أحسن القلاع في ست جمع متوالية!!
وكان من أمانيه الدينية: تكوين جبهة إسلامية متحدة.. وفي سبيل ذلك عقد الحلف الإسلامي.. واجتمع بسفراء البلاد وأمراء الشرق جميعاً.. وشاء الله أن يكون صلاح الدين زعيم هذه الجبهة من مصرها إلى سودانها.. إلى شامها وفلسطينها، حتى كتب لأخيه يطمئنه على سلامة الأمور في هذه البلاد وإذعانها لصلاح الدين فقال له: لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِيمًا، إِلاَّ قِيلاً سَلاَمًا سَلاَمًا.. (الواقعة: 24-25)!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :779  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 34 من 49
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج