شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الدبلوماسية عبر العصور
تأليف: هارولد نيكولسون
لعلّ أقرب تعريف بسيط للدبلوماسية أنها أسلوب من السلوك المتميز مهمته تنظيم العلاقات بين الأمم والشعوب.
ولقد مر بالدبلوماسية عبر العصور المتعاقبة تاريخ حافل طويل.
وكأي شيء من الأشياء، أو كأي لون من ألوان السلوك البشري، فالديبلوماسية رغم ما يحيط بها من جلال، أو تستدعيه سيكولوجيتها من مظاهر، أو توجبه عليها وظيفتها من وجوب الترفع عن كل ما يشين.. على الرغم من كل ذلك لم يخل تاريخها من أقدم عصورها حتى الآن من الكثير من المآخذ.
وأمامنا الآن كتاب جديد شيّق يحاول فيه مؤلفه أن يجلو لنا من عرض سريع، تاريخ الديبلوماسية بخيرها وشرها، وحسناتها وسيئاتها..
والواقع أن كتاب "الديبلوماسية عبر العصور" (1) رغم أنه ليس مطولاً، جدير بأن يسترعي اهتمام أي قارئ يهمه هذا النوع من الموضوعات، خاصة لأن مؤلفه هارولد نيكولسون هو -كما تقول عنه كلمة التعريف الواردة في آخر الكتاب- من كبار محترفي الديبلوماسية ودهاقنة السياسة في العالم.
وقد كان هذا الكتاب في الأصل محاضرات ألقاها المؤلف في جامعة أكسفورد على طلاب السلك الديبلوماسي الإنكليزي.
عرض في هذه المحاضرات لتاريخ الديبلوماسية منذ أن نشأت أول ما نشأت في اليونان والرومان حتى نهاية الحرب العالمية الأولى في عام 1919.
وأول ما نلاحظه في هذا الكتاب أن مؤلفه هارولد نيكولسون صريح في نقده للمآخذ والأخطاء وفي تنفيذه لما ظل يلازم الديبلوماسية حتى الآن من نقائص وعيوب..
فلنمض معه من أول فصل يتحدث فيه عن اليونان والرومان:
إنه وهو يتحدث عن اليونان يقرر أنهم أول من وضعوا نظاماً وأسلوباً لممارسة الاتصالات الديبلوماسية. غير أن اليونانيين على الرغم مما بلغوه من حضارة، وما أحدثوه من أدب وفلسفة، فالمؤلف يأخذ عليهم أنهم كانوا فاشلين أو متخلفين في الديبلوماسية وهو يعلل ذلك بأكثر من سبب:
منها ما ابتلوا به من حب التنافر والمشاكسة، ومنها أنهم لم يكونوا بالسليقة ديبلوماسيين حاذقين.
ومنها -أخيراً- فشلهم في معالجة شؤونهم ومشاكلهم الداخلية والخارجية على السواء.. أما بالنسبة للرومان فإن الفرصة لهم -كما يقول المؤلف- كانت سانحة أكثر كي يبتكروا أسلوباً ديبلوماسياً أفضل ويحافظوا عليه.. غير أنهم فشلوا كذلك لأنه وإن كان اليونان قد أخفقوا بسبب جموحهم العاطفي وعجز مؤسساتهم، فقد فشل الرومان بسبب ما يسميه تقديرهم الخاطئ لمبدأ النفوذ والسيادة، وهو في موضع آخر يفسر ذلك بأن مرد فشلهم هذا يعود إلى سبب واحد هو أن الرومان كانوا في سعيهم لتطوير أسلوبهم الديبلوماسي يحاولون أن يفرضوا إرادتهم على مفاوضيهم بدلاً من أن يفاوضوهم على أساس التكافؤ والمساواة.
والمؤلف يسهب في فصله هذا ويستشهد بوقائع تبدو لنا منها صورة الديبلوماسية عند الرومان وعليها سيماء الصلف.. بعيدة كل البعد عما ينبغي أن تتحلى به الديبلوماسية من مرونة وذكاء..
في الفصل الثاني ينتقل المؤلف إلى الحديث عن الأسلوب الدبلوماسي الإيطالي. وخلاصة ما نخرج به من هذا الفصل أن الديبلوماسية الإيطالية في العصور الوسطى لم تتميز بتطور ملحوظ.. وأكثر من هذا لقد أسهم الإيطاليون إلى حد بعيد في دفع الفن الديبلوماسي إلى الحضيض، وتلطيخه بكل ما يشين لما يشوبه من تعاليم كانت مستقرة في أذهان رجالاتهم الديبلوماسيين ومنها وضع المصلحة القومية فوق كل اعتبار وحتى فوق العدالة الدولية..
والفصل الثالث يعقده المؤلف عن الفن الديبلوماسي الفرنسي.
والفن الديبلوماسي الفرنسي -كما يقول- قد ظل حتى يومنا هذا يعلق أهمية كبرى على جمال الكلمة وطلاوة التعبير..
ولقد أصبحت اللغة الفرنسية "اللغة الرسمية" للديبلوماسية في القرنين السابع عشر والثامن عشر. ومنذ الفترة التي تسلم فيها ريشيليو زمام السلطة عام 1616 وحتى اندلاع الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر، كان الفن الديبلوماسي الفرنسي "القدوة بالنسبة للقارة الأوروبية بأسرها".
وعلى الرغم من تنويه المؤلف بالفن الديبلوماسي الفرنسي -على ما نرى- فإن الديبلوماسية الفرنسية لتلك الفترة كان يشوبها الكثير من الأخطاء..
وربما يكون ذلك هو الذي اضطر كاتباً فرنسياً من رجال السلك الديبلوماسي اسمه فرنسوا دي كاليير إلى أن يضع في عام 1716م كتاباً خاصاً بأساليب المفاوضات ما يزال -كما يقول المؤلف- يعتبر أفضل دليل للفن الديبلوماسي.
وليس من شك في أنه من الأدلة على ما كان يشوب الديبلوماسية الفرنسية من الأخطاء والمآخذ، ما يذكره المؤلف من أن دي كاليير هذا كان على نقيض من المبدأ القائل بأن هدف الديبلوماسية هو الخداع.. لقد أثبت دي كاليير بالبرهان أن الديبلوماسية ترتكز على دعامة خلق الثقة وأن الثقة يوحي بها الإيمان الصحيح.. ومن أقوال دي كاليير في كتابه: "إنه ينبغي على الديبلوماسي أن لا يسقط من حسابه الحقيقة القائلة بأن المعاملة المكشوفة هي أساس الثقة وعليه أن يشارك الآخرين بقلب مفتوح إلا ما يفرض عليه الواجب إخفاءه..". كما يشبه دي كاليير فن الديبلوماسية الناجح بفن الصيرفة السليم وقد كتب في هذا الصدد يقول: "إن سر النجاح في المفاوضات يكمن في إدراك الفرقاء إدراكاً حقيقياً للكيفية التي يتحقق فيها التوازن بين المصالح الفعلية لجميع الفرقاء المشتركين في المفاوضات".
ولم يقتصر دي كاليير على رسم المبادئ لفن المفاوضات بل وضع أسساً كثيرة مكينة لما يجب أن تكون عليه شخصية الديبلوماسي وما يتحلى به من شيم وخصال وصفات وميزات.. ومن هذه الأسس أن في الديبلوماسي الناجح يجب أن تتوفر موهبة التفكير العميق الواعي، والمقدرة على قراءة أفكار الذين يفاوضهم ليهوّن عليه استكناه تلك الأفكار وذلك من خلال حركاتهم وملامح وجوههم.. وعلى الديبلوماسي الناجح كذلك أن يكون سريع الخاطر، حاضر البديهة، يعرف كيف يصغي متى تكلم غيره بأدب ولطف وبشاشة.. وألا يسعى إلى الشهرة الديبلوماسية عن طريق النكتة أو العناد في المجادلات أو الاندفاع في المحاورات الصاخبة بقصد فرض رأيه على الآخرين..
ومما يستحسنه دي كاليير جداً بالنسبة للمفاوض أن يكثر من مطالعة الكتب التاريخية والمذكرات الخاصة والتعمق في دراسة أحوال وظروف المجتمعات الأجنبية، وأن يكون ملماً بما فيه الكفاية بالآداب والعلوم والقانون.. ويضيف إلى ذلك: وأن يكون مضيافاً كريماً لطيف المعشر.. وألا ينسى أن الطباخ الماهر كثيراً ما يكون وسيلة رائعة لكسب الأصدقاء.. على أننا نرى المؤلف هارولد نيكولسون يعبر لنا عن أسفه لأن المبادئ التي أدخلها دي كاليير على الفن الديبلوماسي وحمل لواء الدفاع عنها مدة طويلة قد أهملت وصرف النظر عنها في ما تلا من السنين.
وأخيراً ينتقل المؤلف إلى الفصل الرابع والأخير وقد خصه بالكلام عما سماه مرحلة الانتقال من القديم إلى الحديث في الفن الديبلوماسي.
ومرحلة الانتقال هذه كما يصفها تعتبر بدايتها قبل مئة سنة من عام 1919م، أي العام الذي انعقد فيه مؤتمر الصلح في نهاية الحرب العالمية الأولى وأعلن فيه ولسن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية يومذاك مبادئه الأربعة عشر المشهورة والتي تنص على حق الأمم الصغيرة في تقرير مصيرها.
ولم يحدث في فترة الانتقال هذه التي سبقت عام 19 باعتراف المؤلف نفسه أي تغيير جذري في الأساليب الديبلوماسية، اللهم إلاّ ما أحدثه سرعة تقدم المواصلات في العهد الأخير حيث ساعدت على تبدل أساليب المفاوضات القديمة، وقد كانت تمضي عدة أشهر في الماضي قبل أن تصل للسفير أوامر حكومته وعدة أشهر أخرى قبل أن يبعث إلى حكومته بأجوبته وتقاريره، وإن كان يفترض بالسفير حينذاك أن يستعمل رأيه الخاص.
ولا يفوت المؤلف أن يذكر سببين آخرين لهما تأثيرهما في تطوير الفن الديبلوماسي إلى حد ما في هذه المرحلة، وهذان السببان هما: الرغبة في التوسع الاستعماري، والمنافسة التجارية الحادة. إلاّ أن هذا التأثير لم يكن بحد ذاته بالغ الأهمية أو عميق الجذور كما يتصور البعض.. هذا ما يقوله المؤلف هارولد نيكولسون، ولعلّ له عذره كديبلوماسي بريطاني في أن يقلل -على هذه الصورة- من أثر كل من الرغبة في التوسع الاستعماري والمنافسة التجارية الحادة فيما وقفت عنده الديبلوماسية في الغرب من حفاظ على أكثر أساليبها الأولى.
لعلّ له عذره في ذلك... ولو أن هذا لن يحول دون تقرير كلمة الحق في هذا المجال، وهي أنه لولا الرغبة الجامحة في التوسع الاستعماري ولولا المنافسة التجارية الحادة بين دول لم يكن لها من شاغل يشغلها سوى هذا التوسع في الاستعمار طوال فترة الانتقال هذه التي أشار إليها المؤلف.. لولا كل ذلك لما كان للديبلوماسية -في الغرب على وجه الخصوص- أن تظل صامدة بصورة تدعو للدهشة عند أساليبها التي ورثتها عن عصري اليونان والرومان والعصور الوسطى.
وإن كان لا يوجد من ينكر قطعاً أن الديبلوماسية في العصر الحديث -عصر الذرة والصواريخ وعصر تقدم المواصلات- قد تطورت إلى حد كبير عن ذي قبل ولكن -مع الأسف- لم يتجاوز هذا التطور في أغلب الأحوال المظاهر والأشكال..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :611  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 22 من 49
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاثنينية - إصدار خاص بمناسبة مرور 25 عاماً على تأسيسها

[الجزء الأول - مقالات الأدباء والكتاب في الصحافة المحلية والعربية (1): 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج