شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الغزو الأمريكي لبريطانيا
تأليف: فرنسيس وليامز
ترجمة: شفيق أسعد مزيد
عنوان غريب!
وربما مثير أيضاً!
ولكنه مع ذلك لم يكن "عنواناً" من نسج الخيال!
إنه عنوان لكتاب، مؤلفه بريطاني!
ثم هو كتاب نطالع فيه "حقائق" تفوق الخيال!
مهما كان الأمر.. فليس "الغزو" على أي حال في هذا الكتاب، غزواً بمعناه الشائع، أو معناه المخيف!
إنه غزو من نوع آخر، بطبيعة الحال، غزو لا تجد له من العبارات ما يؤدي معناه الأداء الكامل.. أكثر من أن نقول: إنه غزو الدولار!!
هو إذن: غزو سلمي! إن جاز منا هذا التعبير!
غزو سلمي.. ولو لم يكن سوى ثمرة حرب عانت منها بريطانيا -رغم أكاليل الغار- الشيء الكثير!
ولم يكن هذا الغزو، خاصاً ببريطانيا!
ومع ذلك فمؤلف الكتاب "فرنسيس وليامز" يحاول جاهداً أن يجعل من الغزو الأميريكي لبريطانيا.. أعظم المشكلات، في عالم اليوم!
بل هو يراه أكثر من غزو -كما يبدو- أو على حد تعبيره: "أمركة بريطانيا"!
ولسنا ندري، إذا كان "وليامز" بسبب من حماسه الشديد لبلاده بريطانيا التي كانت لا تغيب الشمس عن أملاكها.. لسنا ندري إذا كان "وليامز" لهذا السبب أو لغيره من أسباب، مبالغاً في هذا الذي يسجله في كتابه عن غزوها الأمريكي!
على أن الذي لا نظنه يمكن أن يكون موضع نقاش قطعاً.. هو أن الغزو الأمريكي الاقتصادي والثقافي قد أصبح اليوم حقيقة لا تقبل الشك.. لا في بريطانيا وحدها، بل في أكثر الأنحاء.
وقد صدر الكتاب في عام 1962 بعد رحلة قام بها المؤلف إلى أمريكا دامت بضعة أشهر، تنقل خلالها في أنحاء كثيرة من بلاد العم سام، كما ألقى في بعض الجامعات الأمريكية بدعوة منها محاضرات في الشؤون السياسية، لقيت اهتماماً كبيراً من الطبقة المثقفة الأمريكية، واستطاع بذلك أن يكون له أصدقاء كثيرون من الأمريكيين.
وقد صدرت له عدة كتب أخرى -عدا كتابه هذا- منها "سياسة الغد" و "آخر معارك الديموقراطية" و "الصحافة والبرلمان والشعب" و "إرنست بيفن".
يبدأ المؤلف حديثه فيقول:
من الحماقة أن نشكو من اعتداء سلطان أمريكا على العالم فهذا الاعتداء أمر حتمي لا مفر منه، إذ هو مظهر لطبيعة عالمنا الحاضر.. ولقد دأبت الحكومات البريطانية المتعاقبة على بذل أقصى ما تستطيع من جهد، كي تجتذب إليها هذا النفوذ الأمريكي لأسباب كانت ولا تزال بادية الوجاهة من الناحية السياسية.. وإذن فليس من حقنا أن نشكو طالما أن الجهود التي بذلناها لاجتذاب أمريكا إلى القارة الأوروبية بشكل دائم قد كللت بالنجاح!
ولكن: هل التحالف يستلزم الاحتلال؟
وهل من واجبنا أن نصبح أمريكيين حتى نستطيع إنقاذ الحضارة الغربية؟
ليس في ما أقوله مبالغة.. ولا هو كلام مصطنع، فقد ثقلت علينا وطأة التفكير الأمريكي، وأسلوب الحياة الأمريكي، واندفاع أمريكا في صبغنا بصبغة أمريكية، لدرجة أنه لن يبقى للبريطانيين من طرق تفكيرهم، وأساليب حياتهم، ومن ثقافتهم الخاصة -بعد جيل أو جيلين- إلاّ القليل.. لا بل إن هذا الغزو الأمريكي لبريطانيا يتخذ الآن مظهراً أكثر وضوحاً وصراحة عما كان عليه من قبل..
إن الدولار يتحرك في أعقاب الآراء، والأمريكيون يرون أن صب بريطانيا والجانب الأكبر من أوروبا في بوتقة أمريكية أشبه شيء بإعادة تنظيم المطبخ.. ومع الأسف هناك كثير من الأمريكيين والبريطانيين الذين يرون أن "أمركة" بريطانيا وأوروبا الغربية وضع للأمور في نصابها..
ويقول هؤلاء: إن عدم الرغبة في اتباع الأساليب الأمريكية في النصف الأخير من القرن العشرين، ليس إلاّ انحرافاً عن القاعدة الصحيحة وهو انحراف يبعث على الشك في عقلية صاحبه وفي قيمه الأخلاقية..
* * *
ثم يقول المؤلف البريطاني: ولا يتوهمن القارئ أني بتبيان مدى الغزو الأمريكي لبريطانيا أدعو إلى مناهضة أمريكا، بل إني أتبع رأي سير هارولد نيكلسون عندما قال: إن الأمريكيين قد يثيرون كراهيتك لهم بسهولة، ولكن يشق عليك إلاّ تحبهم.. ومن هنا كان حبي للأمريكيين قديماً ثابتاً -كما هو الحال مع الحياة البريطانية والفرنسية- ليس معداً للتصدير وإنما الذي يجوب الآفاق في أعقاب الدولار الأمريكي، والعلم الأمريكي هو: الغث التافه الذي لا غناء فيه.. أو قل إنه مظاهر سطحية لأسلوب الحياة الأمريكية وهي مظاهر -وإن كانت تحمل طابعاً أمريكياً لا شك فيه- لا تصدر عن فضائل الخلق الأمريكي الأصيل، بل تصدر عن صورة ناقصة التكوين تشكلت على عجل من اندماج المجموعات العنصرية المختلفة فزعمت لنفسها التفوق، وأرادت أن تفرض سلطانها على من عداها من الشعوب دون تقدير سليم لاعتبارات الزمان والمكان..
إن ما أعرضه على القارئ في مؤلفي هذا ليس هو ما للحياة الأمريكية من آثار في نفوس الأمريكيين وخاصة الشعب البريطاني..
وهكذا يبدو كتابي وكأنه تقرير من إدارة المخابرات عن عملية غزو.. وعلى الرغم من أنه غزو خير، فإنه لا يخلو من عنصر التهديد.. وعلى المرء أن يعرف أصدقاءه، كما يعرف أعداءه وخاصة إذا كان الأصدقاء يحملون الهدايا..
وقد يكون في تسميتي للنفوذ الأمريكي "الغزو الأمريكي" مظهراً لإهانة ونكران الجميل، خصوصاً من ذوي النيات الطيبة الذين يرون في ما يفعلون تحريراً لا غزواً.. وسواء أكان ما يفعل الأمريكيون تحريراً، أم غزواً، فهو سوف يحدث تغييرات كبيرة في عادات الشعب الإنجليزي وتقاليده وأسلوب حياته..
إن الغزو الأمريكي الذي من أجله أعددت كتابي هذا شيء آخر أكثر شمولاً وأوسع نفوذاً من مجرد المجاملات الدبلوماسية أو إقامة الحفلات والمآدب.. إنه نقل حضارة وثقافة وأسلوب في الحياة عبر البحار من شعب إلى شعب..
* * *
لقد بلغت الاستثمارات الأمريكية في الصناعة البريطانية ثلاثة أضعافها في السنوات العشر الأخيرة، وهي الآن عشرة أضعاف ما كانت عليه قبل الحرب. وفوق ذلك فهي تزداد بمعدل يزيد على ثلاثة عشر ونصف في المائة سنوياً حتى لقد بلغت الزيادة السنوية في هذه الاستثمارات 170 مليون جنيه! ومن الواضح أن هذه الاستثمارات الأمريكية الضخمة يقترن بها إشراف أمريكي على النشاط الصناعي البريطاني.. وهذا الزحف الهائل للاستثمار الأمريكي على الصناعة البريطانية يعتبر ظاهرة من ظواهر فترة ما بعد الحرب.. على أن هذا السبيل المتدفق من الأموال الأمريكية على بريطانيا يتم بنوع خاص نحو الصناعات الاستهلاكية وللعمليات الصناعية الخاصة التي تعتبر عنصراً أساسياً في تكوين هيكل الاقتصاد البريطاني في المستقبل، والمؤسسات الصناعية الأمريكية الكبرى بعثت في الاقتصاد اتجاهاً جديداً يحقق أرباحاً وافرة لجميع القائمين بعمليات الاستثمار، ويقدر عائد الاستثمارات الأمريكية في بريطانيا بما يزيد عن 16,5 في المائة (ستة عشر ونصف في المائة) في حين أنه لا يزيد عن 10,5 في المائة (عشرة ونصف في المائة) في الولايات المتحدة نفسها!
وطبقاً للبيانات التي أصدرتها وزارة التجارة الأمريكية فإن ما يقرب من 800 مؤسسة صناعية ومالية في بريطانيا وغالبيتها من أكبر المؤسسات، تحت إشراف أمريكي!
ولقد زادت القوى العاملة في الصناعة في بريطانيا منذ الحرب بمقدار 40 في المائة (أربعين في المائة)، لكن زيادة القوى العاملة في المصانع التي يمولها الأمريكيون في بريطانيا بلغت 175 بالمائة (مائة وخمسة وسبعين في المائة).
ولا يقتصر الأمر فقط على وجود هذه المؤسسات الصناعية الأمريكية في بريطانيا بل تقوم بجانبها مؤسسات مركزية للبحوث وللتسويق تفوق في عددها ما لدى بريطانيا من مثيلاتها.. ولقد ذكرت هذه المؤسسات في صراحة أنها تهدف إلى زيادة نصيبها في السوق البريطانية!
وفي أواخر عام 1960 ذكر "ريجنالد مودنج" وزير التجارة البريطاني في نشرة أصدرتها وزارته أن المسائل التي تسترعي النظر في ذلك العالم هي أن هناك رغبة أكيدة لدى كبار رجال الاقتصاد الأمريكيين لزيادة نصيبهم في الاقتصاد البريطاني..
والآن: ما معنى هذا كله؟
معناه أن بريطانيا في دوامة أكبر غزو اقتصادي في التاريخ! وليس هذا الغزو بأيدي صغار المستثمرين، ولكن القائم به عشر من أكبر المؤسسات المالية والصناعية في أمريكا..
إن كل همهم الآن هو أن يقووا قبضتهم على القطاعات الوافرة الربح في دوائر الأعمال البريطانية..
لقد توغل الغزو الأمريكي في الاقتصاد البريطاني بدرجة أبعد بكثير مما تتصوره غالبية الشعب البريطاني..
ويذكر القارئ أن الإعلان أصبح عنصراً من عناصر الإنتاج في عصرنا الحديث، وأن أكبر شركات الإعلان في بريطانيا شركتان أمريكيتان قدر ما تنفقه إحداهما على الإعلانات سنوياً 14,750,000 جنيه استرليني، وما تنفقه الأخرى 8,250,000 جنيه استرليني سنوياً.. ولم يكتف الأمريكيون بالسيطرة على الإعلان، بل إنهم يعملون على أن تشعر الأسر البريطانية وتفكر على الطريقة الأمريكية.
.. وحيثما سرت في المدن أو الضواحي البريطانية التي جرفها التيار الأمريكي الجديد فإنك ستدرك لأول وهلة كم تحققت هذه الرغبة الأمريكية.. فالشعب بدأ يطبق الأساليب الأمريكية، وأخذ يقبل على شراء الكماليات بالتقسيط. وأخذ المراهقون والمراهقات في بريطانيا يلبسون الأزياء الأمريكية، وهكذا وقعت المناطق الجنوبية والوسطى من إنجلترا تحت تأثير أسلوب الحياة الأمريكية أما شمالي إنجلترا فلا يزال محافظاً على نظمه القديمة..
إن مدنيتنا الحاضرة تخضع لحركة إعادة تنظيم كبيرة تتولاها أمريكا.
وقد أعدت أمريكا تخطيطاً دقيقاً مفصلاً لنبذ أساليب الحياة المتبعة في البلاد الأخرى، وبهذا النبذ يقتضي إدخال أنماط جديدة للسلوك، واتخاذ أساليب جديدة للحياة.. وتوجه أمريكا اهتمامها الخاص للأدوات المنزلية وخاصة أدوات المطبخ وأجهزة التلفزيون والسيارات والملابس والأزياء، ولا يزال الأمريكيون يلحون على المرأة العصرية في البلاد حتى تستشعر "حاجات جديدة" وحتى تلح على زوجها وتقنعه بأن الحياة الزوجية لن تكون سعيدة هادئة إلاّ باستعمال هذه الحاجات التي تبتكرها أمريكا، وتواصل تجديدها دون انقطاع!!
إن نبذ القديم قد أصبح سياسة وسلاحاً هاماً في أيدي رجال الأعمال الأمريكيين.
* * *
يعيش الأمريكي في جو من الوهم يسّره له "فن الإعلان" و "فن البيع" الأمريكيان.. ويخيل إليه أن ليس في العالم دولة تجاري أمريكا علماً، أو مدنية، أو رخاء.
ولقد بلغ بالجنود الأمريكيين الذين انتقلوا عبر البحار على الباخرتين البريطانيتين الكبيرتين "كوين ماري" و "كوين إليزابيث" أنهم عندما بهرتهم عظمة هاتين السفينتين لم يصدقوا أنهما من صنع بريطانيا.. وأكدوا أنه لا بد أن تكونا من صناعة أمريكية!
وعندما أطلقت روسيا قمرها الصناعي الأول شعر الأمريكيون بصدمة عنيفة لإيمانهم بأن ما تفعله أمريكا لا يمكن أن يرقى إليه الآخرون.. فكيف تفعل روسيا ما عجزت عنه أمريكا؟ ولم تكن الصدمة ذات أثر ظاهري فقط.. ولكنها تركت أثراً عميقاً في نفوس الأمريكيين حتى لقد أحجم كثير منهم عن الاشتراك في ذلك الحدث التاريخي العظيم وهو تكريم بطل الفضاء جاجارين عند قدومه إلى لندن حيث احتفى به الإنكليز احتفاء كاملاً..
وليس من شأننا في هذا الكتاب أن نتحدث عما ألزمت أمريكا نفسها الثبات عليه في آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا بسبب تمسكها بالطابع الأمريكي، ومن شاء المزيد من الإيضاح في هذا السبيل فليقرأ ما كتبه "إليدورو بيردوك" في "الأمريكي القبيح" إنما هدفي هنا أن أبين للبريطانيين الذين اندفعوا في قبول "الأمركة" خطأ فكرتهم، وذلك بإظهار أمريكا على حقيقتها دون تزييف أو زخرفة.
إذا ما عرضت الحديث عن الجانب الإنساني في المجتمع الأمريكي فلا يسعك أن تتجاهل "المكارثية".. ولا أود أن أبدي رأيي الشخصي في هذا العهد ولكني أنقل للقارئ ما كتبه "ريتشارد روفر" أحد كتّاب سيرة ماكارثي.. قال ريتشارد: "لقد كان مستر ماكارثي يدوس بخطى ثقيلة على كثير من نصوص الدستور الأمريكي ويفرض لنفسه من السيادة والسلطة ما اختص به الدستور وحده".
وليس عهد ماكارثي منا ببعيد، إذ لم يمض عليه أكثر من ثماني سنوات وقد يكون من غير المناسب أن نتحدث عن المكارثية في ستينات القرن العشرين.. بل قد تكون المناسبة أبعد إذا ذكرنا المكارثية في معرض الحديث عن الغزو الأمريكي لبريطانيا ولكن: ليعلم القارئ أن المجتمعات لا تتغير في ثماني سنوات.. كما أننا لا نستطيع أن نجزم بأن المكارثية قد انتهى عهدها بانتهاء عمر ماكارثي نفسه.
.. لقد أساء ماكارثي إلى سمعة أمريكا أكثر من أي رجل آخر في تاريخها الطويل.. ولقد قام "ستيفنسون" برحلة حول العالم عام 1951، وبعد انتهاء رحلته صرح قائلاً: "إن سيرة ماكارثي السيئة معروفة لكل الشعوب واسمه البشع على كل لسان". ولكن منذ ثماني سنوات فقط كان كل فرد في المجتمع الأمريكي يقبل الأرض عند موطئ قدمي هذا الرجل الذي يشهر به ستيفنسون!
.. إن عهد المكارثية لا ينسى، ولا يصح أن ينسى.. لأنه يمثل عنصراً من العناصر التي تتكوّن منها شخصية المجتمع الأمريكي..
ويواصل المؤلف الحديث عن ماكارثي، مؤكداً أن فزع الماكارثية -كما يسميه- ما يزال قائماً في البلاد الأمريكية!
* * *
وفي فصل من فصول الكتاب يتحدث عن تعمق النفوذ الأمريكي في بريطانيا ويتساءل: إلى أي مدى سوف تسير بريطانيا في طريقها نحو اتخاذ أساليب الحياة الأمريكية؟
ثم يقول: لقد أوضحنا أن أمريكا قطعت شوطاً كبيراً في غزوها المادي لبريطانيا وخاصة في الميدان الصناعي والميدان التجاري والمالي.
ولكن إلى أي حد قد تأثر الطابع البريطاني الأصيل بهذا الاتجاه الأمريكي، أو بمعنى آخر: إلى أي مدى قد "تأمرك البريطانيون"؟
إذا أخذنا الأمر بظاهره لتبين لنا أن الآراء الأمريكية وأساليب الحياة الأمريكية قد اتخذت طريقها حتى إلى قلب الريف الإنكليزي، فنحن نستعير من أمريكا دون توقف أو تردد!
لقد أخذنا عن أمريكا نظام الاستفتاءات الشعبية في المسائل العامة.. ونقلنا وسائل أمريكا في فن الإعلان!
كذلك نقلنا عن أمريكا بعض أنواع الرياضة والموسيقى، ولكن الميدان الذي اكتسحته الحياة الأمريكية هو حياة المراهقين.. فقد أصبح علم المراهقة في بريطانيا وكأنه قطعة من أمريكا وهذا أمر طبيعي فإن المجتمع البريطاني لم يكن ليخلي مكاناً للشبان والشابات بين سن الخامسة عشرة والتاسعة عشرة، فلما وردت علينا هذه البدعة الأمريكية أقبل عليها المراهقون والمراهقات في بريطانيا بلا وعي، وأخذوا يعبون من بحرها عباً، ويستمتعون بها على الأسلوب الأمريكي إلى أقصى حد. ولا يقتصر النفوذ الأمريكي بين المراهقين البريطانيين على المظاهر المادية من زي وموسيقى وملاه، ولكن يتعداه إلى الثقافة.. فمجلات المراهقين تحت نفوذ أمريكي قوي..
وإذا كانت حياة المراهقة البريطانية قد وقعت تحت نفوذ أمريكي فإن ما يليها من حياة الزوجين الحديثي العهد بالزواج هي الأخرى أصبحت تخضع للأسلوب الأمريكي.. فالأثاث الذي يختاره العروسان والفيلا التي سيقيمان فيها معاً، وترتيب الأزهار وقائمة الطعام كلها ذات مسحة أمريكية!
.. والمعروف أن رغبة المستهلك البريطاني والمستهلكة البريطانية في الوقت الحاضر هي الحصول على الأدوات والأجهزة الأمريكية المحبوبة التي يقرأون عنها في المجلات والتي يشاهدونها بانتظام على شاشة السينما وشاشة التلفزيون.
إن "بروين كانهام"، رئيس تحرير مجلة "كريستيان سيانس" الأمريكية، يعيب على بلاده أن أكثر ما تصدره إلى الخارج هو ذلك البهرج الزائف من المنتجات المادية، وبجانبها الأدب التافه، ورقصة روك أند رول.. ولكن على الرغم من النقد الذي يوجهه مستر كانهام، يقبل العالم على هذه التوافه كل الإقبال..
* * *
ولقد نقلت بريطانيا عن أمريكا نظام التدريس أثناء الخدمة، والمجتمع البريطاني حتى وقتنا هذا لا يزال بعيداً من أن يكون نظام "برامج الكفاية الإدارية" وغيرها من الوسائل التي تنمي القدرة على الإنتاج وحسن الأداء صورة طبق الأصل من المجتمع الأمريكي!
وعلى كل.. فمن خطل الرأي أن نرفض ما جاءتنا به الحضارة الأمريكية من أموال وآراء جديدة، ولكن الذي نستنكره هو ما لهذه الحضارة المادية الأمريكية من أثر على ثقافتنا البريطانية الأصيلة التي هي تراث ماضٍ يمتد إلى ما يزيد على ألفين من السنين!
- إن الغزو الأمريكي لبريطانيا بدأ يعمل عمله ولم يمض عليه أكثر من عشر سنوات فما بالك لو امتد به الزمن؟
.. من الحق أن نقرر أنه من المستحيل على أمريكا أن "تؤمرك" أي بلد غيرها.. فالولايات المتحدة الأمريكية نتاج تجارب وخبرات خاصة بها دون غيرها، ويكمن الخطر في محاولة البريطانيين نقل هذه الثقافة الأمريكية في جملتها، نتيجة لغزو اقتصادي أمريكي، أو لأننا بهرتنا تلك الخطوات التي خطتها أمريكا في مجال التقدم المادي.
- إن في هذه الحضارة المادية ما يصلح لنا وفيها ما لا يصلح.. ولكن لما كان نقل نبات من إقليمه إلى إقليم آخر يخرج نوعاً جديداً أقل جودة من النوع الأصيل فلا بد أن نقلنا للحضارة الأمريكية المعاصرة سوف ينتج لنا طرازاً حضارياً لا هو أمريكي ولا هو بريطاني، وأشد ما نخشاه أن تفقد الحضارة الأمريكية خصائصها الأصلية عند نقلها ولا يبلغنا منها إلاّ التافه..
إنني أحب أمريكا حباً حقيقياً خاصاً وهذا الحب هو الذي دفعني للكتابة عما شاهدته خلال زيارتي لأمريكا مما أثار قلقي وهي أشياء غير جديرة بما تعارفنا عليه من الخلق الأمريكي والشخصية الأمريكية.
ولقد وجهت اهتمامي في مؤلفي هذا لا إلى أمريكا من حيث هي بلد قد تجب زيارته والجولان فيه، ورؤية مشاهده، ولكني أقصد أمريكا التي تتجه إلى الخارج -وإلى أوروبا بنوع خاص- إنها أمريكا التي تبدي أحياناً رغبة في إعادة بناء العالم!
ولن تستطيع أمريكا إعادة بناء العالم على نسق أمريكي كامل إن أرادت.. فهذا أمر مستحيل ولكنها تود إعادة البناء على صورة جديدة رسمها الخيال الأمريكي، وأعدها للتصدير.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :566  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 21 من 49
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج