شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
صراع (1)
لم ينجح الزمن في ترويض أحد مثلما نجح في ترويضي، فأنا اليوم شبيه بالإنسان من حيث الخلقة، وإن كنت أقرب شبهاً إلى الحيوانات المجترة. فلا أمل يستهويني، ولا غاية تستفزني، ولا شيء مما يدور تحت أنفي وخلف أذني يثيرني.
والدنيا عندي صور تتدافع أو موجات يزجى بعضها بعضاً، والمدفوع منها يدفع ما أمامه، والكل سائر إلى الهمود. وما أرى من هذه الحياة الواسعة المزدحمة الصاخبة إلا هذه الرقعة التي تضمني تارة وأضمها أخرى، وهي، مثلي جزء من الأرض يشيع فيه الحس، وكلانا بعد، موف على غاية مقدرة من الفشل والخمود، أو من القوة وتجدد الرغبة في الصراع!
وأظن أن الذي يلحقني بالمؤمنين الأبرار، شعوري بأن الغايات مقدورة، والأنفاس معدودة، الأرزاق والآجال محدودة، وأن كل شيء لا يريده الله لن يقع ولو اجتمع له كل أهل السموات والأرض، ورأسي الآن شبيه بالكوخ الخاوي تصفر فيه رياح الصحراء، أو أرواحها وروحي خامدة، وكل ما في نفسي هامد لا ينبض، وأحس في قرارة نفسي، أني منطوٍٍ على قطعة مجدبة جافة من الأرض، لا يرف فيها دليل من دلائل الحياة، ولا تلح بمعنى من معانيها وقد تضيق سبلها أحياناً حتى أشعر بانطباقها على جانبي، وطالما انتهى بي تطويقي فيها إلى جبال ووعور يأخذ بعضها بأطراف بعض، فأمضي فيها ما أثقل رجلاً، حتى إذا تكشفت لي عن أمل، تدحرجت منحدراً، متخذاً من رأسي قدماً ثالثة، ولا ألبث أن أفتح عيني على الأمس بهوله وجدبه!
ولكني مع هذا أضحك كلما وجدت إلى الضحك سبيلاً، وآكل كما تأكل النعام، وأغمض عيني، كما تفعل الأحياء، وأحس دائماً بأني لا أنام نوماً طبيعياً، أذهل به عن نفسي، وأن في جسمي "ناطوراً" يختفي في نور النهار، ويظهر في ظلمة الليل، بعصاه الغليظة، ذات العقد وعباءته الخشنة التي تجعله شبيهاً بحراس الحصون القديمة، أو بأشباح الليل المخيفة ويدور حولي صامتاً، لا تثير الجلبة دقات عصاه، ولا وقع خطواته.. ويحرسني أو هذا ما أظنه ويحميني أن تطوف الأحلام برأسي، أو أن أنحدر إلى وادي الخيال أهيم فيه لحظة منطلقاً من عقال الواقع السهران أبداً، كما يفعل الراقص بعصاه حول النار تنطلق نفسه راقصة في حركاته العصبية المجنونة. فإذا أطلت الشمس، أطل على الواقع برأسه المنفوش، وعينيه المحمرتين ووجهه المرعب! هذا الواقع الذي يضع عقلي ونفسي كل صباح في قيد جديد!.
وبعد فما أنا غير سجن مظلم مهدم تجره روح قديمة، شبيهة بالسلع، أو بفضلاتها التي تعرض في أسواق النفايات وفي عيني معين يفيض بالهرم والكلال ما أرى من ورائه إلا الشيخوخة تدب في كل شيء دبيب الفناء في كل حي!!!.
والدنيا نفسها هذه العجوز الشمطاء المتوكئة على عصوين من عمى الأفكار وتزيين الأقدار!! أليست في حقيقتها شيئاً قديماً جداً، لم يبق فيه تعاقب الأزمان، وكر العصور معنى للجدة، أو رمزاً للشباب.
والزمن الرافض الدال على نفسه يتحول المرئيات وحركتها، أفتراه ساكناً ككل شيء مما أراه لا يريم مكانه، أم هو وحده السائر المجد لهذا الموكب الحافل إلى نهايته المحتومة؟ أم تراه ميدان حرب تتطاحن فيه الجموع وتقتتل وتتنازع البقاء الرخيص، غافلة عن سيره الحثيث بها!!
لقد هدني السهر، وبرمت بعبء أثقل كاهلي الضعيف، وما يفتأ يسلط على قلبي الضعيف وأعصابي المخطوفة شواظاً من اللهب يدفئ هذه الصحراء القارصة التي أجوبها وأضرب في حواشيها إلى غير غاية، ولكنه يلتهم منها كل معنى للعزاء وكل رمز للطمأنينة، طاوياً منها كل ما آنس إليه.
ذلك العبء الثقيل، هو رأسي الذي أنوء بحمله منذ تفطنت للحياة وغرست بتجاربها القاسية، ولو أن لي في موضعه من عاتقي رأس حيوان أعجم لما أخطأت العزاء في محنة.. فمن لي بذلك؟!.
وفي نفسي مقبرة، تنبت فيها قبور مليئة بالذكريات، أعشق فيها العداء والصداقة، والحب والبغضاء، والفوز الحلو والفشل المؤلم، والمادة والروح وغدت كلها تراباً صامتاً وخواء موحشاً منقبضاً لا يتصل من الحياة بعد اتصاله بنفسي وموطن الذكرى فيها، بشيء!.
وقبري بين هذه القبور فارغ يتثاءب قد مل الانتظار... الطويل، كما مللته، فمتى يعتنق التراب بالتراب، فيخفت هذا الأنين، ويتعطل بالزمن؟؟؟
التوقيع
هول الليل
 
طباعة

تعليق

 القراءات :540  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 33 من 71
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

سعادة الأستاذة صفية بن زقر

رائدة الفن التشكيلي في المملكة، أول من أسست داراُ للرسم والثقافة والتراث في جدة، شاركت في العديد من المعارض المحلية والإقليمية والدولية .