شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أستاذ (1)
لصديقنا الشاعر قنديل (2) لسان ما يعجزه أن يحك به قفاه لو شاء، وقد ننفرد نحن من دون غيرنا بفهم هذا الجانب منه. وبذلك كان من أولى الواجبات بمراعاتنا به تحاشي الاصطدام به، اصطداماً أدبياً، وتجنب إثارته.
ولكن الهدوء أحياناً، مملول يجتوى. وما قيمة حياة لا تكون الأيام فيها مترجحة بين جزر ومد عنيفين؟ بل ما قيمة حياة تشرق فيها الشمس وتغرب على أنفاس تتردد ونظرات تسبح في آفاق هامدة لا حس فيها ولا حراك، ولا تختلف عن نظرات الحالم المستغرق في شيء؟؟.. وقد ألزمتنا الحياة أن يعيش في بلاد مهمومة لا يدل على حياتها إلا هذا الغطيط الموزون، فلا أقل من أن نتبادل من شؤوننا الخاصة ما يثير في النفس شعوراً خافتاً بالحياة ونبضها.. إن لم يكن هناك أمل أو رجاء.
وقنديل.. وليس هذا اسمه الكامل كما يعلم القراء -شاعر وكاتب من الطراز الأول بين شعرائنا وكتابنا، وليس هذا ما يعنينا منه- وهو ليس بالمغمور، ولكن له في إنكار نفسه فلسفة لو قدر الله لها الظهور، وأتاح لها الفهم والوضوح لخلا السكون، أو خلت بلادنا على الأقل ثمانية أعشار الرذائل التي يولدها الغرور، وجهل النفس، وتطليق الحياء!
وقنديل كاذب، ممعن في الكذب وما أخاله إلا كذبة تدفعها الحياة في شكل آدمي ليسهل تسربها الى النفوس والأذهان. يكذب بعضه على بعضه وظاهره على باطنه. فهو في مجموعه مثال للتنافر.. وكأنه نقيضة من نقائض الطبيعة تهجو بها الحياة نفسها، مبالغة في التطرف والمرح.
وليس بين أدبائنا وشعرائنا الكثيرين (والحمد لله) من يستطيع أن يبلغ في تمثيل "الرجل البلدي الأصيل"، بجميع حدوده وصفاته، مبلغ قنديل، فهو بلدي قح بقفاه وبوجهه، أو بما يلقاك منهما، وبضحكته وحركاته، وبلدي بهذه النفس القانعة، المستسلمة، وبهذا الصوت الغليظ الذي تتردى منه الألفاظ تتدحرج في مثل البئر العميقة المهجورة، وبلدي باطمئنانه إلى الزي العادي الذي يمثل تخمة الحجاز بعادات الأمم المختلفة ونفاياتها. وجسمه المتوسط المتماسك خير دليل على أن الرجل البلدي يجب أن يكون هكذا محدوداً معقولاً، لا فضول فيه...
وقد تعاشره، أو تسايره، حولاً كاملاً لا يقوم لك في أثنائه دليل أو تلوح شبهة على أنه أديب أو شاعر، ومعظم الذين يرون كثرة تردده بين إدارة الجريدة والمطبعة يظنونه صفافاً، أو خبيراً في الرزم، أو مخبراً متجولاً.
وقد تفاجئه وهو جالس على مكتبه في وضع منحرف، وهيئة تدل على أنه يحرسه، أو كأنه اغتصب مقعده اغتصاباً في غياب الرئيس، فيبادرك بفزع الخائف المذعور، وروعة المعتذر النادم، وكأنما يضرع إليك ألا تؤنبه على هذه الحرية أو العفرتة، التي لا تليق بصغار الموظفين في إدارات الصحف، وتكون أعظم الناس أو أقلهم شأناً، وهو يعلم هذا حق العلم، فلا يكون لعلمه بشأنك أثراً في ارتياحه إليك بجملته وتفاصيله، ولا من سابقة الخادم إلى تقديم مطالبك والتنبه لها، والتوفر على الترحيب بك والدوران حولك عدة مرات، يسألك فيها عن حالك، وحال من تعرفهم ويعرفونك وحال البلد.. نازلاً لك عن جزء كبير من دخيلة نفسه، وهذا الجزء، فليعلم القراء -ثابت لا يتغير وفيه الدلالة على (بلديته) وعلى غرامه بالبلد وأهله. فهو لا يسأل عن السياسة وأحدث ما يغشى حومتها، ولا عن الأدب وحركة النشر والتأليف، ولكن عن اللحم وتطور أسعاره، وعن الفواكه الرخيصة وسهولة تناولها وعن الخضروات ووفرتها ويحمد الله في أثناء هذا السيل الجارف من الكلام، مائة مرة أو ألفاً، أن منَّ على بلده المقدس بهذا الرخاء.
وحظ قنديل متواضع مثله، وفيه دليل على أنه مظلوم النشاط والكفاءة والذنب في هذا ذنب إمعانه في (بلديته) وذنب استسلامه واطمئنانه فقد كان حين كان تلميذاً راضياً بقسمته، وراضياً عن حكم أساتذته فيه..
وقد يقضي في الصف الدراسي أعواماً، ما تندمت من فمه كلمة اعتراض أو احتجاج، أو تظلم حتى ترفعه الصدف إلى صف غيره، أو تدحرجه درجة، ولا أحسب أن تلميذاً أبلى من عمره في الدراسة مثلما أبلى قنديل فيها، فقد دفعه أهله إليها قبل أن تنبت أسنانه وغادرها بلحية تسترسل على صدره، تفترش معظمه أو سائره، وقليلون يعرفون أنه كان أستاذاً في صدر حياته، وأنه كان أول من أضاف إلى معاني الأستاذية معنى من الجندية وشقائها وجهودها وتضحيتها.
وقد اكتهلت خبرة قنديل بالدنيا في هذا الدور من حياته، وأفاد منه ما لا تضمنه رحلة طويلة في أطراف الأرض وحواشيها.. ولكنه خسر نشاط الشباب واندفاعه وطموحه وتفززه، ولا غرو فإن حياة المدارس في بلادنا ضرب من ضروب النعاس الثقيل..
ويودع المدرسة أخيراً، وهو في حدود الثلاثين، ولكنه يحمل على عاتقه رأس شيخ هرم!..
ويمتاز قنديل دون أساتذتنا بخفة في الروح لا يطالعك بمثلها إلا (رجل مدردح) وهذه الخفة هي التي تضفي على عقليته المكتهلة شيئاً من الطراوة والمطاوعة. ويخطىء من يتلمس خفة روحه في ظاهره الذي يخيب الأمل.
وفيه ميل إلى الابتكار والتجديد إلا في ما يتصل بمطالب جسده وعيشه فإنه رجعي حتى أطراف أذنيه. فلن تجد فيه ميلاً إلى (البحبحة)، ولا إلى الأناقة التي يعبر الاندفاع فيها عن طبيعة الشباب، ولا ننكر أنه في عهده الجديد حريص على الاتصال بعصره في رفق ووقار، وتردد فقد ألغى الطريقة القديمة في حلق رأسه. ولكنه ما زال يحن إلى (الموسى) حنين البدوي إلى الصحراء.. وأطلق سالفتيه كالفنانين... و...
وما فتىء قنديل بحاجة إلى ثورة إصلاحية تتناوله من جميع نواحيه الظاهرة وتقوم بها (مصلحة تنظيم) مستعدة. وما نرى للبلدية عذراً في إغفال هذا الواجب، فسوف يجيء يوم يكون فيه الأستاذ قنديل جزءاً من تاريخ البلد، وجزءاً من تاريخ نشاطه الأدبي.
وبعد، فإن لقنديل يداً على الحرية الأدبية، وعلى تلوينها. وسنمهد السبيل لنزولها من الصدور منزلاً رحباً، نظرته العميقة إلى هذه الكلمة إن شاء الله.
التوقيع
هول الليل
 
 
طباعة

تعليق

 القراءات :578  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 30 من 71
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.