شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(5)
كانت ليلة قاسية بما عانى فيها من أفكار سود. فلم ينعم بالنوم إلاّ لماماً. ثم صحا على صوت الباعة ينادون على بضائعهم. فاتكأ على حافة من سريره ومضى يستأنف البحث.
لا بد لي من التجوال على حجاجي لأني أنفقت كثيراً في سبيل الوصول إلى أراضيهم، وقد وصلت ولا مندوحة لعودتي، ولا بد لي من التجوال لأن زبائن العام الجديد لا يوافقون على الارتباط بي إلاّ إذا قابلتهم، ووضعت يدي في أيديهم.. متعهداً بجميع ما يلمون من شروط، ولا آمن أن يميلوا إلى غيري من المطوفين؛ إذا قابلهم دوني، ووصل إلى بيوتهم ولم أصل!
إذن لا بد لي من التجوال؛ وفي استطاعتي أن أكرم نفسي فأرتفع عن هداياهم، ولا أقبل شيئاً من عطاياهم. ليكون تجوالاً بريئاً عن مثل هذا الغرض؛ شريفاً بما يكتنفه من استعلاء وإباء.. وإذا وجدتني في نهاية الشوط لا أملك ما أنفقه لعودتي، ففي استطاعتي أن أقترض من بعض أقاربي في مدينة.. ما يوفي نفقاتي. ولا ضير في هذا الاقتراض ما دمت معتزماً إيفاءه، بعد أن أصون كرامتي من التبذل!
وفي الأيام التالية من تجواله كان قد كتب في مذكراته ما يأتي:
السبت 20 شعبان
كان مضيفي الليلة ثرياً طاعناً في السن له مركزه الذي أستطيع بواسطته أن أظفر بالتعاقد مع حجاج القرية لهذا العام!!
قابلني بترحاب عظيم، وأهلَّ يصلي على جمال النبي أول ما رآني مسروراً بقدومي.. إلاّ أن له ابناً -علمت فيما بعد أنه يدرس في الجامعة- كانت مقابلته فاترة؛ ولقد رأيته يتهامس مع أبيه ثم ينظر إلي بعين فيها شيء من الازدراء. فحدست أنه قد سأله من أكون، ولماذا أنا هنا. فلما علم أني متجول أزور القرى، واقع على بيوت الحجاج لم يعجبه ذلك مني.. ولا بد أنه استنكر على شاب يعيش في القرن العشرين أن يتخذ المرور على بيوت الحجاج مهنة!
حدث هذا وكدت أهيب به: أيها الشاب إنني هنا لا أتناول عطايا، ولكن مهنتي تتقاضاني المرور على معارفي القدامى. لأتخذهم وسيلة للتعرف إلى زبائن جدد. ولكنني لم أجد مناسبة. لأن الشاب لم يزد عن أن رماني بنظرة استخفاف، ثم ولاني ظهره تاركاً الغرفة.
اللَّهمَّ إنه أمر لا يرضيك! فهذه مهن النجارين والحدادين والصباغين والطباخين لا يتقاضاهم السير إلى بيوت زبائنهم. فما بالي أتبذل في سبيل هذه المهنة؟ وأفرض نفسي على بيوت الناس؟ كما يفرضها أبناء السبيل، والمنقطعون!
الاثنين 22 شعبان..
كانت ليلتي بارحة الأمس من أنكد الليالي، وأكثرها شقاء. فقد استضافني زبون جديد من حجاج الموسم الآتي في بيته. وبعد أن فرغنا من العشاء قادني مضيفي الفقير إلى الغرفة التي أرادها لنومي، وبعد أن سامرني ببعض حديثه الممتع، وغمرني بطيب أخلاقه، استودعني الله وتركني أنام في الغرفة.
نظرت إلى ما سماه سريراً.. فرأيت ألواحاً من الخشب قائمة على ما يشبه القوائم. وليس ما يمنع النوم عليه في رأيي لو أن الحشية المفروشة عليه كانت نظيفة.. انقبضت نفسي لمنظر السرير، وأردت أن أستبدل به أي شيء آخر. ولكن الغرفة كانت أحسن ما فيها السرير. وأردت أن أصيح بصاحب الدار لينقذني من قذارة الغرفة والسرير ولكني خجلت أن أجرح إحساسه. فارتميت على السرير في يأس، وحاولت النوم فأباه عليّ البرغوث الذي شرع يرتع في جسمي، وينتشر في كل عضو منه.. فكانت ليلة لم أذق فيها الراحة، ولم يغمض لي فيها جفن.
اللَّهم عونك.. أمدّني في مرتع البراغيث بقوتك. فهو خير من منزل يجفوني أصحابه!
الخميس 25 شعبان
ذكروا لي اليوم أسماء خمسة أشخاص يعتزمون الحج في قرية نائية، وأن في استطاعتي -أن أتفق معهم إذا وافقت على زيارتهم، ثم ذكروا أنه لا سبيل للوصول إلى قريتهم إلاّ على ظهور الحمير إذا كنت لا أتعب من ركوبها. فقلت: إنني راكب حمير من صنف ممتاز. فقد ألفناها من قبل أن تعرفنا السيارات.
وتطوع اثنان من أصحاب الخير وهم كثر في أرياف الشرق العربي.. يحبون أن يحسنوا إلى أبناء السبيل من أمثالي!! تطوعوا فرافقوني، وبدأت الحمير تضرب بنا حصى الوادي في عنف يتطاير منه الشرر تحت أقدامها.. وكانت الشمس قد تعالت في طريقها إلى كبد السماء فلم نبال كثيراً بحرارتها. ولكنها ما لبثت أن حمى وطيسها، واشتد قيظها. ولما نبلغ نصف رحلتنا.
وكنا قد نسينا أن نصطحب ماء نشربه، وليس في الجبال ما يروي غلتنا فتجمّلنا وجالدنا.
وعندما جفّت حلوقنا وصهرت الشمس رؤوسنا كأن أوان العمران قد آن، وبان أول بيت في القرية يتراءى لنا من خلال النخيل المتكاشف. وانتهينا إلى بيت صاحبنا في أجسام تكاد تلتهب من فرط ما عانينا من حرارة الشمس. فإذا الباب مقفل برتاج داخلي، وإذا صاحبته تعلمنا بأن زوجها قد هبط المدينة، وأنها في الدار وحدها.
ارتج علينا، ودارت الأرض حتى بحميرنا. فقد كانت الحمير في حاجة إلى الراحة. وكنا أحوج منها إلى ظل بارد يطفئ أوارنا، وماء يروي غلتنا، وشيء من الطعام يسد جوعتنا.. فحال الباب المقفل، وصوت سيدته المخدرة دون بغيتنا.
وأجال أصحابي أبصارهم في البيوت المجاورة. فلم يرحب بهم أحد. لأن أصحابها من الرجال -كانوا غائبينَ في مزارعهم في عدوة من الوادي. وليس في نسائهم من يجرؤ على استضافتنا في غيابهم.
ارتج علينا، وقامت أبصارنا حتى تنبه أحد رفاقي إلى الالتجاء بالمسجد. فقادنا، أو قاد حميرنا على الأصح إلى ساحته، فدخلناه لنتفيأ ظل سقفه. ولكن سقفه لم يكن ظليلاً لأنه مغطى بأعواد الذرة التي تتخللها الشمس فتفترش أرضه.
وقضينا بقية يومنا في أسوأ ما يقضيه محموم جائع، بعد أن شربنا بغيتنا من الماء.
وما غابت الشمس حتى كان صاحبنا قد أهلّ بوجهه الصارم علينا، فرحب بمقدمنا، وتأسّف لحضورنا في غير الوقت المناسب لأنه أعيق في المدينة مع أحد المطوفين، وقرأ الفاتحة على ذلك.
ولم يرض رفاقي بهذا الأسف، وحاولوا معه لينقض ما اتفق إكراماً لما عانينا. فكبر عليه الأمر، وأبت كرامتي التي اعتزمت انتهاجها سبيلاً أن أحاوله أو يحاوله غيري، وحثته على أن يثبت على ما كان، فقبل، ولم يبخل علينا بما سد جوعتنا من طعام بيته الحاضر، ثم ودعنا.
وقال رفيقي ونحن نلوي رؤوس ركائبنا إلى حيث أتينا. أشهد أنك مطوف فاشل وعهدنا بغيرك أن لا يسأم المحاولة والمداورة حتى يبلغ فيهما الغاية.
قلت: ولكنني عزمت انتهاج سبيل الآباء، ولا بد لي مما كان!!
الجمعة 26 شعبان
موضوع الفاتحة، أو قراءتها كميثاق يربط بين الحاج ومطوفه موضوع لا أفهم كيف ابتدع، ولا أدري هل فهم أول مطوف فكر فيه أن أسلوبه سيجر إلى مشاكل يعانيها الحاج، كما يعانيها المطوف؟
لا أدري ولكن الذي أدريه أن الحاج قد يرتبط بالفاتحة مع أحد المطوفين، ثم لا يلبث أن يجد أمه في قرية أخرى قد ارتبطت مع غيره بفاتحة أخرى، أو أخته، أو رفقته. وهو لا يستطيع الاستغناء عن مصاحبتهم بحال فيقع في ما يخلف الوعد، أو في ما يخلف ميثاق الفاتحة في رأيه.. إذا أراد ألاّ يتخلى عن أهله ورفقته، أو يتورع فيعاني من فراقه عنهم ما يعاني المتوحد في غربته.
وميثاق الفاتحة بعد هذا مصدر متاعب لا نهاية لها فالمطوف مع كل أسف يتعقب الحاج في كل مكان يرتاده ويضيق عليه في كل سبيل يسلكه.. ليفرض عليه ميثاق الفاتحة قبل أن يرتبط مع غيره من المطوفين. ويأبى الحاج تحت تأثير الإلحاح إلاّ أن يتهرب من المطوف ضيقاً به وفراراً من قيود الميثاق، أو دلاًّ بحاجة الناس عنده.
هذا أسلوب عام. ولا عبرة بقلائل المطوفين إذا أنكروا هذه الوقائع.. لأن الندرة التي تترفع عن مثل ذلك ليست حجة ضد الواقع العام، وأن مثل هذا الإلحاح والتبذل ليسيء إلى العموم وإن كان مزاولوه أقلية كما يظنون.
ولعلّ المطوف معذور في إلحاحه بميثاق الفاتحة. لأن الحجاج لا يصدقونه القول، ويتركون كل مطوف يعتقد أنهم من زبائنه.. حتى إذا حان الحين، وشرع المطوف يرتب أموره، ويعد خدمه ومساعديه لاستقبال العدد الضخم الذي اتفق معه.. رأى أنه كان مخدوعاً بالذين وعدوا، وأن نفقاته في الاستعداد كانت وبالاً وخيم العاقبة.
ولا يقل عذر الحاج عن عذر المطوف. لأن ملاحقة المطوفين ضيقت عليه الخناق، وأرهقت أعصابه.. فاضطر إلى توزيع الكلام المعسول وعندما اخترعوا ميثاق الفاتحة اشتد الضيق وزاد الحرج.
ولا يعالج التبذل، والإلحاح، وتهدير الكرامة من جانب المطوف، والضيق، واصطناع الخلف من الحاج إلاّ ترتيب جديد يقلب قواعد المطوفين الشائعة من أساساتها الأصلية، ويقضي على التنافس الذميم الذي أساء كرامتهم قضاءً تاماً.
الأحد 5 رمضان
لا أزال أتنقل بين القرى تعقباً لقاصدي الحج. والقوم هنا يحتفون بدعوتي إلى موائدهم كل يوم في بيت!! إلاّ أن لون الطعام لا يتغير في جميع البيوت لأنه أوان الباذنجان الأحمر (القوطة). وفي كل بيت يطالعني صحنها الوحيد بصورة لا تتغير جعلني أسأم الحياة بجوارها وأتمنى ألاّ أراها ما عشت.
إن المضيفين معذورون فكل بيت لا يدري أنني سئمت القوطة قبله.. فما أشقاني بهذا التجول وما أسعد المهن التي تربأ بأصحابها أن تعرضهم لما أتعرض له في مهنتي بين بيوت القرويين.
الأحد 14 رمضان
هبطت مدينة.. بعد تجوال دام عدة أسابيع بين القرى والمزارع قاسيت فيها من النصب والتبذل ما لا يحتمله كريم.. تعقبت في هذه الأثناء مئات الحجاج ملحاً في التعرف إليهم والتعاقد معهم. كان بعضهم يصدني باحتشام لأن له مطوفاً غيري، والبعض يحاول الفرار من ملاقاتي تحاشياً من الإحراج كما كان بعضهم يتمنع في دلال، ويتخابث في كبرياء.. فكنت أسوق إليه بعض معارفي من الحجاج فيداورني ويراوغهم.
وأغلظ رجل لي القول لأنه سئم تردد عدة أشخاص من المطوفين قبلي على بيته وإلحاحهم عليه. ولقد قلت لنفسي ألف مرة لم كل هذا الامتهان؟ فتعذّر الجواب؛ ووجدتني في نهاية الأمر معذوراً. لأنني ما تركت بلادي، وتحملت الاغتراب لأعود إليها في الموسم دون حصيلة نافعة يمثلها عدد وفير من الحجاج.
فإما أن أطلق المهنة أو أنسى لأواءها، وأندمج في ما ألفه غيري. فأحس بإحساسها، وأتلذذ بلذعتها كما يتلذذ شارب الشاي بحرارته اللاذعة أو شارب البُنْ الذي نسي مرارته الكريهة وتمتع بنكهة اعتقدها، وأقنع بها وجدانه.
الأحد 21 رمضان
اجتمعت في أحد المقاهي بزميل لي من المطوفين.. فتذاكرنا شؤوننا وتشاكينا أوصابنا فحدثني عن سيدة تسكن بجوار البيت الذي ينزله. كانت قد اعتزمت الحج فتسامع المطوفون في المدينة بأمرها فتسارعوا إليها متعاقبين بإلحاحهم وعندما طرق عليها الباب، من يومين، مندوب الصحة لأمر يتعلق بإجراءات رسمية، أغلقت دونه الباب وحلفت يميناً غموساً بألاّ تفتحه لطارق.
قلت لعلّها ظنته مطوفاً جديداً جاء يتعقبها. فما زاد أن أطرق رأسه خجلاً ثم نظر إلى وجهي فإذا ندوة تترقرق في مآقيه:
الأحد 29 رمضان
أرسل أحد أثرياء المدينة اليوم يستدعيني إليه فلما انتهيت إلى دكانه أسر إلي مبلغاً من المال دون مقدمات. فلم يعجزني فهم الموقف. فنحن في آخر يوم من رمضان، وبعض المحسنين يبرون الناس بصدقاتهم، أو زكواتهم بمناسبة العيد. وقد اعتبرني المحسن من أبناء السبيل المستحقين للزكاة؛ فأسر إلي بما أعطاني.
كانت الفكرة قاسية آلمتني أشد الإيلام، وطعنتني في أدق مواطن الإحساس. أينظرون إلى المطوفين هنا هذه النظرة المهينة؟ ويدرجوننا في طوائف الأرامل والأيتام والشحاذين؟
إنها حقيقة تستحق الدراسة. فنحن قد عودناهم قبول عطاياهم؛ فلم لا نقبل زكواتهم وصدقاتهم؟ إن في ملابسات المهنة ما هيأنا لهذا المركز. فهل نسميها مهنة بعد هذا؟
وقد كنت آليت على نفسي ألاّ أقبل العطايا، وصمدت لما آليت على الرغم من شدة حاجتي. فإذا طابت نفسي اليوم بقبولها فقد تدرجت في الهون، واستكانت نفسي إليه. لهذا كتبت إليه بعد عودتي كلمة رقيقة أعتذر فيها وأرسلتها مرفقة بالمبلغ.
الثلاثاء 8 شوال
ذكر لي اليوم أمر رجل مسموع الكلمة في ناحيته؛ وقالوا أنه حج أكثر من مرة عند أكثر من مطوف؛ وأنه ينوي الحج هذا العام في عدد كبير من سكان حيِّه يأتمرون بما يرى. فقلت إن التعرف إليه كسب؛ ثم اصطحبت إليه صديقاً يعرفه، وقابلته فأحسن استقبالنا ووعدنا بدراسة الأمر إلى ظهر الغد.
وقبل أن يحل الموعد اتصل بي مندوبه وشرع يساومني في ما يجب أن أدفعه لصاحبه عن كل حاج يضمه إلي؛ فلم أستغرب كثيراً لأن (السمسرة)!! في مثل هذا الحال قد راج أمرها. وشعرت أنني إذا لم أتفق معه بما يرضيه، استطاع أن يجد مطوفاً غيري عند أول إشارة تصدر من يده.
الواقع أن السمسرة بين المطوف والحاج أصبحت أمراً شائعاً، فهناك السمسار الحاج الذي يحب أن يساومك على رفاقه، وبني بلدته، أو قريته، وأن يعرف نصيبه من ربحك، وهناك غيره من ينقطع للسمسرة العامة، فهو يجيد الاتصال بمن يعرفه أو لا يعرفه، ويستطيع أن يحوله من مطوف إلى آخر، بعد أن يدعي له أن مطوفه الأول غير جدير به، أو غير قادر على خدمته؛ ولا يتورع إذا أعوزه الأمر أن يدعي موته، ويقسم الأيمان المغلظة على صدق دعواه، ثم لا يتركه حتى يتحول إلى المطوف الذي يريده له، مقابل نصيبه من ربح المطوف.
وهناك جمعيات خيرية خاصة بالحج لا تتورع هي الأخرى عن البحث باسم صندوقها عن مكان الربح، فتساوم المطوفين على نصيبها من أرباحهم حتى تتفق مع أسخاهم في الدفع ولعلّي لا ألوم المطوفين كثيراً على ما يفعلونه، على حساب أرباحهم، فإن أوضاع مهنتهم هيأتهم للتنافس بما في التنافس من عناد وما يجر إليه العناد من وبال وخسر ولا ألوم المتكسبين فالحياة جهاد وكسب ولكني ألوم الوضع الذي استعصى على الحلّ.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :351  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 64 من 186
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.