شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(6)
لم يكتب حسن في مذكراته بعد هذا شيئاً ولعلّه سئم الكتابة عمّا يكدر صفوه، ثم مضت به أيام كانت شبيهة بفترة انتقال ذهني، فقد شغلته عن الطوافة أحلام عاش فيها بعواطف شاعر، ونسي فيها إلى حين ملابسات مهنته.
كان يتردد على بيت صديق له تعرّف به في أحد المجالس وأعجب الرجل بثقافته وأكبر كثيراً من آرائه في فلسفة الاجتماع. فكان يدعوه إلى بيته ليقضي أوقاتاً طويلة يستمع فيها إلى المبادئ التي يناقشها، والأفكار الخطيرة التي يحمل عليها في فلسفة جريئة، وبيان قوي.
وكانا لا يختصران مجالسهما في أكثر الأيام على بعضهما، فقد كانت لصاحب البيت ابنة تدرس في الجامعة، وكان يلذ لها أن تقتحم خلوتهما، وتستمع إلى ما يدور فيها من نقاش بروح المثقف الذي يتعشق البحث، ويطرب للمشاركة فيه، والإدلاء بما يرى.
كانت ثقافتها مصدر الارتباك في حياتها.. فقد كانت تعيش في أفكارها وبحوثها وفلسفتها حياة لا تجد لها صَدًى في البيئة التي تحياها مع أمها وخالتها وبنات جاراتها، وكانت لا تجد بعض السلوى إلاّ في مجلس أبيها حيث يبادلها شيئاً من أفكارها، ويستطيع أن يتابعها إلى الآفاق البعيدة التي تسبح في أجوائها.
ولما أضيفت إلى مجلس أبيها هذه الشعلة المتوقدة بالذكاء، وهذا النشاط العقلي المتوثب.. شعرت الفتاة كأن أحلامها بدأت تتبلور، وأن أفكارها في الحياة يمكن أن تجد لها صدى عند بعض من يعيشون خارج الكتب والجامعات.
كانت الفتاة قد ناهزت العشرين ولم تبلغها، وكان في قوامها من الرقة والجمال ما يقصر عن وصفه دقيق الشعر، وكان في وجهها من الفتنة، وفي (أعيانها) من الجمال ما تستطيع أن تتحدى به أغزر ما انتهت إليه فنون السحر.
كان حديثها تترقرق فيه عذوبة لم يتذوق حسن في حياته ما يضاهيها لذة، وكان في نبرات صوتها جرس يوحي بأرقّ ما عرفت الموسيقى من ألحان، وكان في نقاشها من الرزانة والاحتشام ما يغري بتعشق الأدب في أرقى ألوانه وفنونه.
نسي حسن في غمرة هذه الفتنة جميع آلامه، وشعر أن الحياة على سعتها لا تتكافأ مع لحظة واحدة يمتع فيها نظره بهذا الجمال الرائع.. فأخذت جلساته تطول في بيت الفتاة، وشعر أن المعاني السامية تنبعث في مخيلته وتنثال على لسانه رتيبة صقيلة.. فاستكان لهذه المتعة، وأسلس إليها.
ونسيت الفتاة في نشوة الظفر بما يحقق أحكامها أنها تعيش في بيئة محافظة لا تتيح التمادي في الاختلاط فأباحته أغلى أوقاتها، وتركت مشاعرها تتمتع بالأجواء الحالمة الذي كان -ينقلها إليها أثر كل نقاش. ولم تقتصر حتى بادلته أكثر النقاش، وسايرته في أهم المبادئ التي كان يعتنقها، ودعته لأن يضع يده في يدها ليبنيا في الحياة عالماً يسمو بهما عن كل ما يحيط ببيئتيهما.
ومضت الأيام بهما في مثل هذه الوتيرة ناعمة جميلة؛ وعندما شعرا أن بعض العيون تتغامز في شأنهما.. استطاعا أن يلقيا في روع كل من يعرفهما أنهما طالبان مجذوبان تجمعهما المذاكرة، وتغريهما آفاق العلم الواسعة.
ولم يجد والد الفتاة ما يستحق الاعتراض على اختلاطهما البريء إلاّ من النقاش والبحث، وسرّه أن تنصرف فتاته إلى حياة غنية بما يوسع مداركها ويشغلها عن مغريات الأوساط الزائفة.
وفي أمسية أحد الأيام تلقى حسن برقية من أحد أقاربه ينبئه فيها بوصوله إلى مدينة.. في طلب العلاج، ويرجوه أن يوافيه إليها ليساعده على مواصلة العلاج.
ولا تبعد المدينة التي نزلها قريبه إلاّ بنحو مائة كيلو عن مقر حسن؛ فلم ير بداً من السفر إليه بعد أن ترك خبراً للرجل الذي يصادقه، والفتاة التي تعرف بها.
واجتمع به قريبه واستطاع أن يستنتج من فحوى ما كان يتحدث به إليه أنه بدأ يسعد بحياة عاطفية يتمتع فيها بأحلام لذيذة، وجمال شعري.
- ولكن عساك لميت شوية حجاج؟
- والله إن كان تبغي الحقيقة أنا لميت وما لميت.
- كيف يعني؟
- أقول لك كيف!! هدي الدِّوَاره على الحجاج فيها كسافه.. ما أدري ليش ما أكون صاحب صنعة؟ واقعد في محلي استنى زبوني؟ إذا جا أقوم بالواجب اللي عليَّ، وآخذ حقي.. ويا عيني ما جاكي شامت.
- لكن يا ولدي اللي يدوَّر على رزقه، ويعرف كيف يجيبه من تحت الأرض يسموه الناس رجال، أما هذا اللي يتمرقع ويبغى الرزق يجيله وهو راقد.. هدا لبَّسه كرْته وخليه قاعد في البيت حرمه.. ربنا يقول في كتابه العزيز: فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ (الملك: 15).
- يعني ربنا قال امشوا اشحتوا؟
- مين قالك تشحت؟
- الصنعة قالت لي اشحت!.. إيش معنى أفضل داير من قرية لقرية، ومن بيت بيت.. أترجى في الحجاج يجوا عندي.. وهدا يكسفني، وهدا يقوللي مرحبا، ويتغامز علي.. وهدا ما يصدق أني أبعد عنه يستريح من خلقتي.. واللي أدهى من دا كله إني أروح، يجي غيري، وما يخلص منه حتى يجي اللي بعده.. مضطر الحاجي مسكين! يطالع لنا بعين ما هي مليانة، ويشوف دمنا زي البق لأننا ما نصون نفسنا، ونخاف على كرامتنا.. واللي يجي يجي، واللي ما يجي الله يسهل له. لأ الواحد بس يبغى يلم حجاج.. يقول له عقله ولو فيها كسافه.. لكنك لمْ.. حتى يقولوا الناس والله هدا رجال عرف كيف يجيب حجاج!! لكن كيف جابهم؟ وأيت رزاله لحقته وهو يلمهم؟ وقديش استحمل كسافه حتى قدر يجيبهم؟ هذا كله ما نسأل عنه.. هو رجال وبس!
واللي أخس من دا كله يا هم ليلى.. لما يجي نادر من عند الحاجي يقوم يحطلك يده في شوية فلوس ويناوله هيا!! حق إيه؟ منت عارف!! هو أنا بأدور أشحت، وإلاّ إيش باسوي!! يخي يا عمي. هو الحاجي دا لما يكون عندك في مكة ما يعطيك حقك؛ ويمكن عليه خمسة جنيه يعطيك تلاته ويتربس، تقوم وتقعد ما في فايده! حتى تروح له البيت في بلده، يروح عامل أَبو طهيبل!! يحط يده في نص جنيه، والا جنيه ويناولك هو.. إيش هدا؟ والله بسطك، وناولك. تناولني كدا؟ يعني شحات داير على بيوت الناس؟ أنت أعطيني حقي في مكة، وبلاشى تتصدق علي!!
- والله يا ولدي أنت مجنون.. اسمح لي أقول لك عقلك غير عقل الناس، أهل الأمتال يقولوا: اللي تغلب به ألعب به ما تخش راسك في الروس، وتدعى للسلطان، واللي يسواك يسوي غيرك! هو انت ولد مين؟ قال له لا تشرفني حتى يموت اللي يعرفني!!
- افرض أبويا كان اللي كان.. امكن كان زمانه يقبل اللي ما يقبله هدا الزمان!!
- زمان ايه يا خويا يا أبو زمان.. هو احنا شفنا يوم طيب على زمانكم!! ما شوفنا يا خويا غير الفلسفة، والهرج الفاضي.
- أيوه صحيح.. أصله كل شيء أتغير.. كتير حاجات كنت تشوفها برَكة.. جا الزمن اللي الواحد ما يعرف الاّ يشتغل وياكل من شغله.. بطلت حبوب الصدقة، وبطل الصرّ، وبطلت كل الصدقات اللي كانوا يرسلوها تتقسم على بيوت الكبارية.. كنتوا تشوفوا هدا رزق ساقه ربنا. لكن النهضة الجديدة والتعليم خلى الجيل الجديد يستحي ما ياخد شي زي كدا.. شوف أنت، أولاد المطوفين اللي طالعين، كتير منهم يتبعرروا من القرش اللي يعطي له هو الحاجي بخشيش.. ولسَّع رايح يجي يوم ما يلتقي الحاجي مطوفين بهادي الحالة اللي شايفينها.. ما تصلح هادي الصنعة، وتسير صنعة تمام. حتى تاخد حق، وتعطي حق، وإلاّ يبطل فيها الجيل الجديد!
يعني إيش يسير لو المطوفين اتفقوا كلهم مع بعضهم: ما يروحوا للحجاج في بيوتهم، ولا يرمّوا نفسهم عليهم، ويقعدوا كلهم أسياد.. والحجاج ما يروحوا إلاّ عندهم.. اللي ما يروح لداك بيجي لهدا.. ها صحيح؟ والا لأ؟
- صحيح من فين؟.. هوّه عيب اللي يسوّي رجال، ويعرف يجيب القرش، والا عيب اللي يعمل لي عفوف بالكدب، ويقعد يقول لي هدا يكسف، وهدا ما يكسف. روح يا شيخ شوف لك واحد عقله وسخ.. زي عقلك اقعد سوّى معنا فلسفة كدابه.. احنا ناس نعرف الحاجي رزق هادي البلد.. إن كان ما أعرف آخد بخاشيش من هنا وبخاشيش من هنا.. حتى ألم ليَّ قرشين.. وإيش فيه الواحد لما يعرف انه دول حجاجه.. أروح لهم، وأوصل بيتهم، وآكل واشرب عندهم.. واللي يعطيني آخده!! وأنا ممنون.. واللي ما يعطيني ما حد ضاربه على يده. ويقول له. ألا تعطيني.. هدى جوده!!
- ها دوبي عرفت.. كانت تبغي جوده؟
- أيوه أبغي جوده.. ليش ما أبغى جوده.. اللي يجيله شي ويرده؛ الله يهده.
- طيب ليه ما توقف عند باب الحرم تشحت؟ وربنا ما يخليك.
- أنا أشحت؟
- ليش ما تشحت؟ اللي يبغى جوده من الناس، يعني يبغى شحاته.. جوده وشحاته معناها واحد.
- لكن يا بقر دول حجاجي!
- ما فهمت.. يعني إيش حجاجك؟
- يعني حجاجي!!
- يعني هما أشكل؛ وإلاّ أبوك وأخوك؟
- طيب الواحد الحر سار دي الأيام؛ ما يقبل ياخد من أبوه، والا أخوه، ما دام يقدر يشتغل.. أقوم أنا اجي للحاجي يعطيني جوده، آخدها، وامشي مبسوط.. أنا ليش ما أسوي رجال صحيح؟ وبدال ما يعطيني الحاجي. أنا أعطي له، وأتحسن عليه.
- والله الدنيا انقلبت.. وادينا عشنا وشفنا.
- ولسع ياما تشوف.. الدنيا عمال تتطور.. يا نمشي معاها، يا نوقف.. إن وقفنا طحنونا الناس، ومشيو على روسنا.. وإن مشينا سرنا ناس، وعرفنا كيف نعيش.. على الحجاج؟ لا على شطارتنا، نسوي صنع.. نسوي جبال نكسرها.. نغني نفسنا، ونغني بلدنا، هما دول اللي يكسروا الجبال؛ مو زينا أوادم؟ ليش هما يشتغلوا واحنا نقعد؟ نستنى الحاجي يجينا.. قريش كانت تتصدق على الحجاج، وتسوي لهم الثريد، ليش ما كانوا يسووا كدا؟ علشان كانوا رجال يتاجروا، ويزرعوا ويشتغلوا.. أما نحنا.. احنا نقعد نقول للناس اتبركوا بنا، وأعطونا فلوس! واللي لله هو الباقي.
- والله كلامك صحيح. لكن يا خويا فين الصنعة اللي نسويها؟
- تدري كيف الصنعة تجي؟ أول حاجة لازم نحتقر القرش اللي يجي في غير محله.. خلينا نجوع.. نجوع ولا نمد يدنا للحاجي!! إذا قدرنا نحكم نفسنا على كدا، يجي يوم.. الحاجة حواجة.. غصباً عنه الواحد يقوم يشوف له حديدة يتنيها، ويسوي منها أي شي ياكل منه عيش.. كل شي في الدنيا ما يخترع نفسه.. لما يجوعوا الناس، لما يضطروا، لما تقرصهم الحاجة غصباً عنهم يفكروا، غصباً عنهم يخترعوا.
- والله ما أدري، كلامك فيه شي صحيح!!
- موشي صحيح، وشي لأ.. أنت قول شي ولفنا عليه ما نقدر نسيبه.. واللي يولف حتى على الكسوف يجي يوم ما يشوفه كسوف.. أنا ايش في قياسك.. إنت أحسن من غيرك!.. دا عندك ناس ما تقدر له ربع هادا الكلام.. يهب في وجهك، ويقولك ما نستحي تسب جماعتك ويمكن يضاربك، وإلاّ يشتكيك.. تقل له تعال نتفاهم خد كلمة، وأعطيني كلمة.. مستحيل يقبل، بس إنت بطال. ما فيك خير لجماعتك.. وعلى كدا نفضل خايفين لا نسير بطالين إلى أن تقوم القيامة ونحن قاعدين نقول للحاجي: ربنا يزيد خيرك، ولا يحرمنا منك.. افتح بيتنا. ربنا يفتح بيتك.. كأنه ربنا قال لنا: خلوا الناس يوصلوا السما؛ ويغوصوا في البحر؛ ويجوا يندروا من جبالكم ذهب أحمر وأنتوا قاعدين مستنين الحجاج يجودوا عليكم!!
- والله يا ولدي.. صادق.
قالها الشيخ قريب حسن وهو يتناول عكازه، ويتكئ على حافة السرير.. إيذاناً بالقيام من المجلس. وبذلك انتهت المحاورة التي أبلى فيها حسن ما أبلاه من العناء.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :418  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 65 من 186
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.