شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(4)
وانطوت شهور من العام رأى حسن نفسه بعدها يستعد لجولته السنوية في الأقاليم التي يستوطنها حجاجه.
ولا يكون المطوف ديمقراطياً متقشفاً بقدر ما يكون في أيام جولته؛ فأكثرهم لا يفضل في ركوب الباخرة إلاّ الدرجة الثالثة؛ ولا ينزل إلاّ في (الأوتيلات) التي تسامت ذلك؛ ولعلّهم ينصفون أنفسهم بهذا لأنهم في رحلاتهم لا يفكرون في المتعة؛ أو النزهة، بقدر ما يفكرون في ضغط نفقاتهم لتتعادل مع وارداتهم من خدمة الحجاج. وبالرغم من أن تقشّفهم يعرضهم -في أكثر الموانئ التي يرتادونها- لغير قليل من الإهمال وقلّة الاحترام في نظر موظفي الموانئ والمصالح الخاصة بالمسافرين، أولئك الذين لا يهتمون إلاّ بالمسافر الأرستقراطي.. بالرغم من هذا فإنهم لا يتألمون! لأنهم ألفوا الصبر على شدائد مهنتهم؛ أو لأن المراكز المالية لأكثرهم لا تسمح لهم بغير التقشف والصبر!
وانتهى حسن في زمرة من انتهى من المطوفين. إلى أول ميناء يريده، بعد أن صابر نفسه في جميع ما صادفه من عنت في إجراءات الموظفين، وجالدها. ثم بات ليلته يرتب أموره وينظم حركة السير إلى المدن، والقرى التي يتعين عليه زيارة حجاجه فيها.
كان يقول لنفسه: فيم هذه الزيارات؟ وما أهدافها الصحيحة؟ ثم ما هذا الانقباض الذي يزحف إلى صدري ويستولي على مجامعه في هذه اللحظة التي أضع فيها خطط تجوالي.
ثم عاد يجيب على ما يسأل وكأنه يتحدث إلى من يستمع إليه حديث الواثق مما يقول.
كان يقول: كان الأسلاف في مكة، وفي هذه الأقاليم بالمثل. ينظرون إلى الحياة غير نظرة العصر الذي نعايشه اليوم.. كانت معايير الأخلاق والآداب الاجتماعية السائدة تجلّ وتحترم كثيراً من الخلال التي تستهجنها اليوم وتمقتها.
كان بعض أسلافنا يفدون إلى هذه الديار في زيارات سنوية.. يطوفون فيها مدن وقرى حجاجهم في صور تظن فيها أن الكعبة قبلة المسلمين هي التي انتقلت إلى هذه الأصقاع وكان الأهالي في هذه الأقاليم لا يحتفون بشيء حفاوتها بأولئك النفر الذين يسحبون أذيالهم تيهاً بشرف انتسابهم إلى موطن الرسول.
كانوا ينهالون على أيديهم لثماً وتقبيلاً ليتنسموا فيها أريج الحرم، وعطر الروضة الطاهرة، وكانوا يحملون إليها الهدايا في خشوع الخائف الذي يخشى ألاّ تقبل قرابينه. فكان أسْلافنا يتنازلون لقبولها تأدباً مع المريدين! وتواضعاً للمحبين!! فأين كل هذا مما نشاهده اليوم؟
تغيرت مقاييس الآداب الاجتماعية؛ فبعد أن كان المطوف ينتقل بين القرى تنقل الشيخ الديني يوزع بركاته على مريديه، ويهب دعواته لمختاريه، أصبح -هو نفسه- اليوم لا يفهم معنى للبركات، ويضحك في سره ألف مرة إذا وجد من يستعطيه البركات!!
وكما تغير نظر المطوف إلى نفسه تغير رأي المسلمين في الأصقاع، فلم يعد منهم من ينظر إلى تنقل المطوف بينهم بشيء من التقديس، أو يتصور فيه الكعبة. تنتقل بين أراضيهم، ولم يبق رجل واحد من أولئك الذين يتلمسون عطر الروضة أو الحرم في كفه وهو يلثمها.. كل هؤلاء ماتوا بموت عصورهم، وحل محلهم أحياء ينظرون إلى تلك المعاني نظرتهم إلى التدجيل، والتخريف، ويستدلون على غفلة أسلافهم بعشرات الأدلة من القرآن الذي كان يستدل به أسلافهم!!
أما الهدايا، والتحف التي كان ينظر إليها نظرة القرابين، والتي كانت تشيع بألف رجاء، لتحل محل القبول من الأسياد، فقد أمّحت بإمحاء ذلك النوع من السذج؛ وحل محل السذج أناس ينظرون إلى تلك المعاني نظرتهم إلى الترهات الباطلة، والاستغلال السافر. وإذا وجد إلى اليوم من تسخر نفسه ببعض ما تقدم، فإنه يقدم ما يقدمه مرفوع الرأس شأن المتصدق الذي يرضي كبرياءه بما يحسن.
وشعر المطوف نفسه بالمعاني التي تغيرت في ما كان يصله من هدايا. فأصبح يغضي من زهوه وهو يتناولها، ويحني رأسه وهو يدعو لصاحبها.
قال هذا لنفسه ولم يتركها تهدأ حتى استأنف يقول: لم يخطئ أجدادنا في ما كانوا يعتقدون لأنفسهم، لأنهم عاشوا في عصر كانت مقاييسه تجلّ أعمالهم. أما اليوم وقد تطورت الأفكار، وأهين ما كان مفروضاً فيه الاحترام. فما بالنا نحمد لما أهين؛ ونبسط أيادينا لما أصبح ينافي الكرامة! وما انتهى من حديثه إلى هذا الحد حتى كانت قد تفتحت أمامه آفاق جديدة، وبعد أن كان يستاء من مهنته لقصور نسبة الربح فيها إلى عدد الشهور التي ينفقها، ويرتاب في (علاقة الأجاويد) التي ساورته في مكة، أصبح اليوم أكثر استياء، وأشدّ مقتاً لنفسه. وتمنى لو لم يهيأ له مثل هذا العقل الذي يسلس لمثل هذه البحوث ويمعن في استقصائها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :334  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 63 من 186
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

سوانح وآراء

[في الأدب والأدباء: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج