شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ثقافة
الصالونات الثقافية (1)
بقلم: محمد بن عبد الكريم السيف
الصالونات هي إحدى أهم المنابر والقنوات التي تسهم في ترسيخ مبدأ الحوار ونشر ثقافته، وهي تستحق أن تحظى باهتمام إعلامي أوسع نطاقاً وأن تبرز كظاهرة أصيلة نهضت بأعباء إعلامية مهمة في مرحلة لم يكن الإعلام فيها قد اتسع نطاقه أو شهد المنعطف الذي يشهده. وقد أدت هذه الصالونات دورها في توثيق ثقافتنا وحفظت من تراثها الكثير. والمطلع على بعض الكتب التي نشرت عن الصالونات مثل كتاب أنيس منصور في صالون العقاد، يهوله الكم الهائل من المعلومات الخفية التي انطوى عليها الكتاب موثقة بشهودها الأحياء والراحلين على حد سواء، وقد كنا نتكفف بعضها في كتب كانت ضنينة علينا بتوثيق مرحلة مهمة من تاريخنا الثقافي والإبداعي، فالقارئ لكتاب رجاء النقاش (صفحات مجهولة من أدبنا العربي الحديث) يدرك أن الخافي أعظم. ويكفي أن نشير إلى ما كان يدور في تلك الصالونات الثقافية من ممارسات ومن حوارات ومن تبادل للعواطف والعلاقات الحميمة بين رموز تلك المرحلة من الشعراء والمبدعين والمفكرين والمثقفين عامة، ثمة ما يتصل بعمالقة العصر وإبداعاتهم وعلاقة تلك الإبداعات بهذه الصالونات وما أنتجته من علاقات توهج بها الشعر والنثر على حد سواء.
والصالونات الثقافية قديمة في تاريخنا الأدبي والاجتماعي منذ أن كانت سكينة بنت الحسين تعقد صالونها الخاص الذي يحضره الرجال وقبل ذلك بكثير عندما كان النابغة الذبياني يعقد ندوته النقدية حيث ينشئ قّبَّة من أدم فيأتي الشعراء ليحتكموا إليه ويناقشوه في أشعارهم، وتشكل المنافرات التي تتم بين الشعراء في حضرة كبير من كبراء القوم يعمل على إنصافهم بعد أن يستمع إلى ما يقولونه عن قومهم معددين مناقبهم في أشعارهم. وقد كانت ظاهرة الصالونات الأدبية من الظواهر البارزة في العصر الحديث منذ أوائل عصر النهضة فكان صالون مي زيادة وصالون العقاد الذي شهد حوارات ومساجلات عديدة وصالون خديجة السقاف في مصر ومريم الصيفي في الأردن. وأما في السعودية فكانت هذه الظاهرة من أبرز الظواهر الثقافية والاجتماعية، ولست بصدد إحصاء الصالونات الأدبية في المملكة فهي كثيرة ومتنوعة. وعلى الرغم من انتشار الأندية الأدبية التي غطت معظم مدن المملكة فإن الصالونات الخاصة ظلت تشكل ناظماً لعلاقات الأدباء والمثقفين، وإن لم تشكل تيارات فنية أو فكرية محددة فإنها ظلت تؤدي وظائف متعددة وتحقق غايات مهمة إضافة إلى المهمات الثقافية. وربما انحسرت بعض تلك المهمات بسبب تنامي وسائل الاتصال الأخرى التي كان لها أثر سلبي وآخر إيجابي. فهي من جهة سهلت مهمة الاعتذار دون الوقوع في أسر الحرج، وهي من جهة أخرى سهَّلت مهمة الدعوة عبر وسائل الاتصال (الجوّال والبريد الإلكتروني) ونشرها على أوسع نطاق. كذلك فإنها كانت عرضة لمنافسة قوية من وسائل المعرفة والترفيه الأخرى وخصوصاً الشبكة العنكبوتية التي سهلت حتى مهمة الحوار فأغنت عن الاجتماع وصارت المنتديات في الإنترنت بديلاً لذلك الحضور.
إن الحضور الذي تتمتع به الصالونات الثقافية في بلادنا حضور متعدد الأبعاد: فالحضور الأول حضور اتصالي بمعنى أن كثيراً من المثقفين الذين يؤمون هذه الصالونات لا يعرفون سبيلاً للقاء فيما بينهم إلا عبر هذه الصالونات إذ إن طبيعة الحياة المعاصرة تجعل من كثير من المثقفين في عزلة عن بعضهم البعض لأنهم منصرفون في الأغلب الأعم إلى أعمالهم يصرفونها وإلى مهماتهم اليومية يؤدونها فينشغلون بمفردات الحياة اليومية وأعبائها، وخصوصاً في المدن الكبرى كمكة والرياض وجدة والدمام إذ تباعدت المسافات بين مناطق السكنى وتزدحم الشوارع وتتكاثر الأعمال ويصبح من العسير أن تنشط الزيارات الخاصة بل تتعذر في كثير من الأحيان. وتأتي الصالونات الثقافية عبر ما توجه من دعوات لتكسر رتابة الحياة اليومية، فهي تغري بلقاء الأصدقاء من المثقفين والتعرف إلى الأسماء اللامعة من المفكرين والنقاد والمبدعين حين تكون الدعوة للاحتفاء بشخصية منهم أو لمقاربة قضية ثقافية من القضايا التي تشغل الساحة وتثير اهتمام جمهرة المثقفين. وفي الغالب يعتاد مرتادو صالون بعينه على أجواء خاصة تجمعهم بمن يتفقون معهم في المشرب الثقافي أو المزاج الإبداعي، ويكون لكل ملتقى من هذه الملتقيات جوه الإنساني والثقافي الخاص مما يشجع على حضوره للتخفيف من أعباء الحياة المجهدة حيث يتبادل هؤلاء المثقفون أفياء الحديث والسمر في متعة عقلية وذهنية خاصة مما يحدو ببعض الإعلاميين إلى تسجيل انطباعاتهم والحديث عما يطرح من أفكار في هذا الصالون أو ذاك، ويدفع ذلك إلى إيجاد مناخ حواري في جو بعيد عن التقيد بما تمليه المنتديات العامة من تحفظات يفرضها وجود جمهور كبير من المثقفين وغير المثقفين الذين يحاورون في بعض التفاصيل في أفكار غير ناضجة في أذهان أصحابها بسبب قصور في الثقافة أو بعد عن التخصص فيه مما يهدر الوقت والجهد ويحول الحوار إلى جدل عقيم أو سفسطة لا ضرورة لها مما يصرف البعض عن حضورها أحياناً أو يحد من حريته في إطلاق العنان لبنات أفكاره من أن تتفاعل مع غيرها بحوار يؤدي إلى تلاقح العقول وتخصيب الأفكار ورياضة الأذهان.
وتعتبر هذه المهمة الحوارية للصالونات الأدبية من المهام التي تؤدي إلى إفراز قضايا بالغة الأهمية تتسرب إلى الصحافة ووسائل الإعلام لتسهم في تشكيل رأي عام ثقافي جاد يؤدي إلى حوارات متعددة هنا وهناك في المنابر الصحافية والإعلامية والثقافية وتستقطب الاهتمام العام، وتؤدي إلى إشاعة أجواء جادة تدفع إلى التحاور حولها وللاستفادة منها في التقاط الأفكار الجادة وتفعيلها. وهي خط دفاع ضد التفاهة والسطحية التي تتسلل عبر الفضائيات وتفتك بعقول الشباب وتستقطبهم بعيداً حيث البحث عن المتع العابرة والاهتمام بالموضات والتقليعات والانسياق وراء ألوان من السذاجة والفضول المصطنع والممارسات غير المقبولة أو المعقولة، فإشاعة الأجواء الثقافية والفكرية عبر هذه الصالونات تؤدي إلى تمتين العلاقات وتوثيب الأذهان والملكات. وإذا كانت العلاقة بين الصالونات الثقافية ووسائل الإعلام ترتكز في الدرجة الأولى على نفوذ صاحب الصالون ومكانته وقدرته على الاستقطاب وأهمية الشخصيات الثقافية ودورها الذي تنهض به في الخطاب الإبداعي أو النقدي أو الفكري، فإنها في بعض الأحيان تنزوي بعيداً عن الأضواء حتى تستفيد من عامل الحرية التي توفره هذه العزلة الإعلامية لتستطيع أن تناقش المسائل المطروحة دون أن يؤدي ذلك إلى كشف عن خصوصية الموضوعات المطروحة وحساسيتها، وربما كان ذلك من أهم ما يحول دون استثمار معطيات هذه الحوارات على مستوى واسع.
ومن المعروف أن الصالونات الأدبية على الرغم من حرصها على المحافظة على خصوصيتها وعدم اختراق هذه الخصوصية فإنه أضحى من الصعب، بل من المتعذر تحقيق ذلك لأن ازدياد القنوات الإعلامية وحاجتها الماسة إلى تزويد ماكيناتها الشرهة جعلت المشتغلين في هذا الحقل يتسقطون الأخبار ويسعون إلى مصادرها الرئيسة لذا كان البعد الحواري في هذه الصالونات حاضراً إلى حد معقول، وهو ما ينبغي أن يتم التركيز عليه إن انحصر نطاقه (بعض الأحيان) لتفرضه طبيعة بعض الصالونات من غلبة المجاملات الاجتماعية التي تفرضها المكانة التي يتبوأها صاحب الدعوة وما يغدقه على ضيوفه في الصالون من ألوان التكريم الذي يصبغه بطابع أميل إلى الهدوء في الحوار وعدم الشطط أو المغالاة أو الاختلاف في الرأي ويحد من الصراحة المطلوبة في مناقشة بعض القضايا.
فإذا انتقلنا من البعد الحواري إلى بعد آخر وهو النشر، فسنجد أن ظاهرة النشر أو تبني الإصدارات محصورة في بعض الصالونات التي يدعو إليها بعض الموسرين من رجال الأعمال. وهذه الصالونات تتجاوز اللقاءات الخاصة التي يجتمع فيها بعض المهتمين بالشأن الثقافي الذين يتقارب مزاجهم الإبداعي والفكري إلى ما يشبه المنتدى الثقافي العام مما حدا بمثقف كالأستاذ عبد المقصود خوجه إلى طرح تحويل اثنينيته الشهيرة إلى مؤسسة، وقد عمد قبل ذلك إلى تبني ونشر وإصدار العديد من الأعمال الإبداعية والنقدية والثقافية المهمة وأسهم في تدعيم الحركة الثقافية في البلاد. وقد أغدق من ماله على مسألة النشر وكان رديفاً قوياً لهذه الحركة بل إنه وكما سمعت وقف إلى جانب العديد من المنتديات الثقافية العامة بما يملكه من إمكانات وتبنى عدداً لا بأس به من المشروعات الثقافية. ومهمة النشر ليست سهلة وإذا كان الأستاذ عبد العزيز الرفاعي قد نهض بهذه المهمة أيضاً، فإن الدكتور باشراحيل قد تبنى إصدار بعض المطبوعات المهمة مثل موسوعة (مكة المكرمة) واستكتب فيها عدداً كبيراً من المثقفين والمختصين في المملكة وخارجها وأنفق عليها بسخاء.
إن اهتمامها ببعض الأعلام وتكريمهم والنشر لهم رسخ وجودها بوصفها منابر ثقافية حوارية، وقد أناط بها دوراً اجتماعياً وثقافياً متقدماً واعتقدت أن أغلب الصالونات الأدبية تحتفي بقادة الفكر والرأي من الروّاد ممن تركوا بصماتهم واضحة في الحياة الثقافية في المملكة، وهذه المهمة تكاد تنهض بها الصالونات الثقافية على نحو خاص. وأسهم انتشارها في المناطق المختلفة في تغطية الثقافة في بلادنا، بل إن بعض هؤلاء الروّاد قد تم الاحتفاء بهم في أكثر من مناسبة وأكثر من ملتقى مما حدا ببعض المؤسسات الثقافية إلى تكريمهم على نطاق واسع كالأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون والمهرجان الوطني.
من هنا كان دور الصالونات كبيراً وحافزاً إلى تبني مشروعات ثقافية واجتماعية مهمة بل إنها قامت بإسناد مؤسسات المجتمع المدني وإذكاء النزعة الحوارية بل والإسهام في نشر ثقافة الحوار التي أصبحت عنصراً مهماً في حياتنا الثقافية.
وإذا كانت الصالونات الثقافية في المركز أي في العواصم (كعواصم المناطق) والمدن الكبرى قد برزت على مساحة الوطن وكان لها حضورها الإعلامي المتميز، فإنها في المدن المتوسطة لم يكن لها ذلك الحضور الإعلامي المضمون، وذلك لأسباب عديدة منها ما يتصل بطبيعة الحياة الاجتماعية وخصوصيتها وما يمكن أن تخضع له من رؤى محلية تحد من حريتها ومنها ما يتعلق بإمكانات أصحابها أو بالزائر الثقافي المحدود حولهم، وحساسية المثقف، وهو ما يميز عادة هذه الشريحة ونظرة الأجيال الجديدة إلى الأجيال القديمة وما يتعلق بصعوبة الحرج التواصلي بينها في الرؤية والمزاج الثقافي أو الإبداعي. وعلى الرغم من أنه أمكن في كثير من الحالات إيجاد لون من ألوان التوافق بسبب نظرة الاحترام والإكبار والاعتراف بالأستاذية أو الأبوة الثقافية من المثقفين في المناطق على اختلاف أمزجتهم واتجاهاتهم واضحاً اعترافاً بأبوة هذا العلم وريادته وموقعه من تاريخ المنطقة في الأصعدة كافة.
لقد كان الصالون الثقافي وما زال ساحة من ساحات الاتصال والحوار ووسيلة تعارف وتآلف، وليس ثمة من ينكر دوره. وتجربتي الشخصية مع الصالون الثقافي دلت على أن الأمر لا يقتصر على الشأن الثقافي على أهميته وعلى دوره المركزي وإنما ينهض بدور رئيس آخر هو تكريس منظومة من القيم التي تربى عليها جيلنا كالوفاء والكرم والتشاور في الأمور التي تهم الجميع والمساواة حيث تنتفي الفروق وتتحول الثقافة إلى رحم بين أهلها وفي مجتمعها، وترسخ مجموعة من الموروثات الإيجابية، وتتحول إلى جهة منتجة للثقافة وناشرة لها في مقابل بعض التجمعات التي تنشر قيماً سلبية استهلاكية وتروج لألوان من النميمة والانحراف والتفاهة. ولكن الأمر المؤسف هو أن الصالونات الثقافية الخاصة في مجملها تبدو على هامش الإعلام إلا من بعض التسريبات التي لا تساعد في إبراز الصالونات الثقافية كمؤسسات أو ظواهر راسخة وأساسية، وليست بأية حال من الأحوال طحلبية أو متطفلة على الحركة الثقافية كما يتهمها البعض.
إنها تحمل النبض الحميم لقضايا الإبداع وهموم المبدعين والمثقفين الذين ربما عانى بعضهم من إهمال الصحافة والإعلام في حين سلطت الأضواء على شخصيات لا تستحق الهالة التي أحاطت بهم، وليس لهم من مزية سوى أنهم كانوا بارعين في تسويق أنفسهم فانضموا إلى جوقة من مدعي الثقافة.
ومن الأمور التي ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار أهمية التوسع في الصالونات الأدبية الخاصة ودعمها ودفع هذه الصالونات بمساهمات مادية ومعنوية وإبراز دورها من خلال الإعلام المسموع والمكتوب (المقروء) والمرئي ومنح أصحابها مواقع ذات أهمية في المدن لتقام عليها هذه الصالونات خاصة التي أثبتت وجودها ونفعها. ينبغي أن يكون هدف هذه الصالونات متجاوزاً لمسألة التكريم على أهميتها ولا بد من منحها ما يمكنها من مضاعفة نشاطها وتوسيع دائرتها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :392  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 82 من 203
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج