شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
من ليالي جدة مع يحيى توفيق (1)
بقلم: الأستاذ الدكتور محمد بن سعد بن حسين
قبل أيام لم أكن أعرف هذا الشاعر إلا من خلال قراءات عابرة لم تستوف دواوينه، بل لم تستوف ديواناً واحداً من دواوينه.
وفي الاثنينية التي كُرم فيها هذا الشاعر في 3/5/1414هـ حكم عليه المتحدثون بأنه شاعر غزل وشبهوه بعمر بن أبي ربيعة والعرجي وأمثالهما من شعراء الغزل حتى كدت أصدر عن اقتناع بذلك وإن كنت قد جريت على ألا أحكم على أديب إلا بعد إلمام بما يمكنني الإلمام به من أعماله، ومن هنا لم أشارك في الحديث عنه وعن شعره.
وحينما بدأ شاعرنا ـ هذا ـ الحديث عن نفسه أتى بقصيدتين تنقضان ما قاله المتحدثون فقلت لعلّهما يتيمتان، فلما أهداني دواوينه الخمسة ألممت بشيء منها فتبين لي أن الرجل قد أسهم في جوانب أخرى كالشعر الوطني والوصف والاجتماعي وميادين أخرى سوف نعرض لها هنا بإيجاز وأحسب تتبع غير الغزل في دواوينه الخمسة مما قد لا يحتمله مقامنا هذا، فحسبنا إذن الإشارة إلى بعض الأغراض غير الغزلية، وحسبنا أيضاً من تلك الأغراض أبياتاً نقبسها من هنا ومن هناك للتمثيل:
1 ـ لقد كان للشاعر بعض الآراء الأدبية التي لم يرضها منه رجال آخرون، بل وقفوا له بالمرصاد يصدّون أقواله ويردون حديثه، ومن هنا كان من الطبيعي أن يقف لهم بسلاحه القوي وهو الشعر وذلك كمثل قوله من قصيدة ثورة روح في ديوانه (ما بعد الرحيل):
أو كلما مسخ الزمان كُوَيْتِباً
لم يَلقَ غيري بالعَداء يُبادِي
جهلٌ وسفسطةٌ وعُقمٌ سَافِرٌ
ونبو فِكْر واختلالُ رشادِ
يرجون تصفيدي وشلَّ أناملي
والحُرُّ يأبى العيش في الأصفادِ
ومنها قوله:
يخشى الحصيفُ صريرَ أقلامي، فما
بالُ السخيف يُثيرني ويُعادِي
قد غَرَّهُ منّي الحيَاءُ وإنني
عفُّ اللسانِ أرِقُّ للأجواد
وفي قصيدة تكسير الأصنام في الديوان نفسه يبدأ القصيدة بالشكوى من وهن عزيمته في نظم الشعر وإخلاده إلى الصمت في ساعة لا يحسن فيها مثله، وذلك في نحو من أقواله:
مالي برمت بأوراقي وأقلامي
وعفت شِعري.. وغابت روح إلهامي
هل مات في خاطري الإحساس وانطفأت
ذاتي ـ وأخرسَتِ الأصداءُ أنغامي
مالي فقدت حماسي وانطوى أملي
واستنزف الحزن والإحباط أيامي
هل شعلة النور قد أوهى توهجها
في مُهجتي.. وَهَنٌ.. في سِريَّ الدامي
مالي لبست ثيابَ القهر مبتئساً
ولذت بالصمت أخفي فيه آلامي
حتى إذا ما نفّض أثقال الاكتئاب أدلف إلى حيث يريد من القول:
أكلُّ مَنْ (فكَّ) حرفاً راح يُشْبِعُنا
شعراً.. يفجّرُ في جَنْبَيَّ أسقامي
هل أصبح الشعرُ للأقزام متكأً
أم أنه العصرُ.. أضحى عصر أقزام
أم أنني شاعرٌ ضاعت طلاوتُه
في حومة الفكر.. لمَّا ضاع إلهامي
كلا ولكن رأيتُ الخَلْقَ أَوْهَنَهم
جَهلٌ فهاموا حيارى خلف أوهامِ
يستعذبون حياةَ الزيفِ في تَرَفٍ
وقد أناخوا على جَهْلٍ وآثامِ
هانوا فما عرفوا للعز منزلَةً
واستمرأوا العيش في ذُل وأحجام
يا ضيعة الفكر في قومي وفي وطني
وقد تباهوا بأقزام وأصنام
وضيعة العمر في يأس أكابدُه
مكبلاً بين جهالٍ ونُوَّامِ
لا يدركون أوار النار في قلمي
ولا صهيل حروفي فوق إبهامي
يستلهمون من الآماس مجدهمو
كأنهم أمةٌ.. من دون أحلام
وهل ألام إذا ما جئت أوقظهم
من غفوة الجهل في وعي وإفهام
وأحسبك قد تبينت مزجة النقد بالهجاء والفخر وتلك سُنة سار عليها الشعراء منذ زمن بعيد جداً إذا ذكروا نقائص الآخرين جرت على ألسنهم مفاخرهم وكأنهم بذلك يؤكدون فضلهم وتميزهم على أولئك المهجرين.
2 ـ وللنقد الاجتماعي في شعر شاعرنا نصيب وكذلك حال من يستصحب صلاح أحوال أمته هدفاً سامياً يؤمه ومن هذا النقد الاجتماعي من قصيدة صراع الأغبياء قوله:
كيف أنسى زيف قوم أدعياء
شوُّهوا الأخلاق.. واغتالوا الوفاء
مزقوا لحمي.. وعبُّوا من دمي
واستباحوا هتك عرض الأبرياء
كتموا الأحقاد حتى دنِفوا
وصريعُ الحقدِ.. ميؤوس الشفاء
بيتوا الغدرَ.. وأبدوا ودَّهم
وتزيَّوا برداء الأوفياء
وحقُودُ القلب لا يعجبه
أن ينالَ الناسُ فضلاً أو ثناء
كم يشين المرء جهل وهوى
ويزين المرء عِلمٌ وحياء
وكما تسمو نفوس بالحجي
يُتْعس الجهل نفوس الجهلاء
وضعيف العَزْمِ كم يوهِنه
أنْ يرى المجد حليفَ الأقوياء
ومن قوله أيضاً من ديوان وافترقنا يا زمن:
سئمتك يا دنيا فقد زدْتِ أتراحي
وأكثرتِ أشجاني وبددت أفراحي
سئمتك.. لن أشكو العذاب ولا الأسى
فما عدت بعد اليوم أسٍ لأجراحي
رأيتُكِ.. يشقى كلُّ من بت هَمسهُ
ويلمع فيك الغثُّ ذو المقول اللاحي
ويسعد من يسمو ويجعل همسهُ
محاربة النفس ويدعو لإصلاح
3 ـ والمدح غرض أصيل في الشعر العربي وإن غمزه مَنْ لا يحسنه لكون المدح صعب القياد إلا لمتمكن وشاعرنا شاعر محسن، ومن هنا جاء مدحه على قدر إحسانه، وذلك على نحو ما تقرؤه في مدحه الأمير سلطان ابن عبد العزيز بمناسبة الشفاء، وهو من قصيدة طويلة منها:
وكم أثنى عليك الناس حتى
لحكمة ما رأوا عجز الثناء
عجيب أنت.. تصبر في شموخ
ولا تشكو وإن زاد العناء
تعاني الداء في صمت وعزم
وتشفيك العزيمة لا الدواء
وتُوهم زائريك بكل لطف
بأن الداء عاجله الشفاء
وتكره نظرة الإشفاق منهم
كأنك لم يصبك اليوم داء
وفي مطلع قصيدة مدح بها الأمير أحمد بن عبد العزيز يقول:
سناؤك في الظلام لنا ضياء
وعقلك حار فيه الأذكياء
ووجهك لا يضيق بقاصديه
وقلبك لا يغيض به الوفاء
إذا جَبُن الرجال فأنت حر
أبيٌّ لا يهان ولا يساء
وأنت على عدو اللَّه حرْبٌ
وأنت مع الضعيف له وقاء
وترحم من يسيء إليك جهلاً
ويشفع فيه.. حلمك والإباء
وتغضب في سبيل الحق حَزْما
وتغلبك المروءة والحياء
4 ـ ولشاعرنا سهم حسن في الشعر الوطني وأحسب مثل هذا الغرض ليس بالغريب على بيئتنا العربية، بل إنه مذهب أصيل في شعرنا العربي قديمه وحديثه، صحيح أنهم لم يفردوه بالذكر في الشعر القديم خطأ منهم، لكنه موجود في أجلى صوره.
وشاعرنا يحيى له من ذلك نصيب حسن نذكر منه قوله:
شباب قومي وأنتم في الدجى قبس
للقانطين.. أجيبوا دعوة الداعي
للعلمِ للنورِ للإيمان في وطن
الدين وحِّد فيه الشعب والراعي
دعوا تقاليد أهل الغرب والتمسوا
في دينكم بلسماً للمسلم الواعي
شبابُ قومي أرى في فجركم أملاً
هيهات يفنى بأمراض وأطماع
الدرع أنتم لأقوام يشتتهم
تخطيطهم أبداً في غير إجماع
كونوا لهم قدوة في ليل فرقتهم
وحققوا الحلمَ في الدنيا بإبداع
5 ـ وفي ديوانه (أودية الضياع) ثلاثة أقسام كلها خارج حدود الغزل والوجدانيات وهي (مناسبات) (ابتهالات) (رثاء) ورثاؤه يلتقي فيه الندب والتأبين والتعزي والتأسي، ومن جميل ما جاء فيه قوله في رثائه محمد رضا الذي قال عنه في مقدمة القصيدة:
(كان لي أباً يشد عزمي ويتحمل أخطائي في حِلْمٍ) من رثائه هذا قوله:
تتفاقم الآلام مِلْء نفوسنا
ويلفنا والحزن ليل مُغْرِقُ
ونُهادِنُ الدنيا فما تصفو لنا
ويريبنا منها الشقاء المحدِقُ
ونساير الأيام في أحداثها
فتظل تُمعن في العذاب وتغرق
مات الحليم فمن نلوذ بظله
في النائبات ومن يرق ويشفق
وتحجرت برحيله أحداقنا
فالدمع فيها جامد لا يهرق
وتصدعت منا القلوب لفقده
فالنفس من شجن تئن وتأرق
والحزن يغتالُ النفوس بناره
والصبر أولى في البلاء وأليق
قد تحفل الدنيا بمن يلهو بها
ويهون فيها من يعف ويصدق
وهناك أغراض أخرى لو سرنا في القبس من كل واحد منها لطال بنا الحديث كوصفه (قصر الحمراء) بالأندلس، ووصفه (جدة) و (أبها)، ومن القضايا العربية كقضية فلسطين مثلاً. وهكذا نجد الرجل قد ظُلم حين قيل عنه إنه شاعر غزل وحين شبهوه بشعراء الغزل كعمر بن أبي ربيعة والعرجي.
ونعود إلى حديث الاثنينية حيث حكم شاعرنا في حديث عن نفسه ومواقف الآخرين منه بأن الناقد لا يكون ناقداً إلا إذا كان شاعراً، فنفى ذلك بعض المعلقين مدّعياً أن شعر النقاد ما هو إلا من باب النظم، فكانت تلك الاثنينية ميدان أخذ وَرَد حول هذا الموضوع الذي قد حسمه واقع الشعراء والنقّاد أنفسهم.
ذلك أننا إذا ما تتبعنا أعمال الشعراء والناقدين وجدنا شأن النقد والشعر في حياتهم الفكرية كشأن الشعر والنثر الأدبي، أعني أن الشاعر يكون ناثراً محسناً ويكون ناقداً نافذ الرأي، وقد لا يكون إلا شاعراً فحسب، وكذلك الحال بالنسبة إلى الناقد والناثر أيضاً، أي إن وجود واحد من هؤلاء الثلاثة لا يعني وجود الاثنين الآخرين أو واحد منهما، وإنما هي مواهب يمنحها الله من شاء من عباده. أما أن الشاعر يدرك مواطن الجمال في شعره وفي شعر غيره أيضاً، فأمرٌ لا جدل فيه لكنه قد لا يستطيع الإفصاح عن ذلك الإدراك بالطريقة التي يحسنها الناقد، وذلك أن النقد موهبة والشعر موهبة والنثر موهبة، وحال هذه الأجناس الثلاثة من حيث الالتقاء والافتراق على ما أسلفنا، بل إن الشاعر قد يكون موهوباً إلا في فن من الفنون الشعرية كالشعر القصصي أو الغنائي أو نحو ذلك، وكذلك الناثر قد لا يحسن صوغ المقالة، مثلما يحسن سبك القصة وهكذا، وكم كنت أود لو أن صاحب الاثنينية ـ أثابه الله ـ يعمد ـ قبل أيام ـ إلى تخيُّر اثنين أو ثلاثة أو أكثر أو أقل من الناقدين وإعطاهم أعمال المحتفى به لكي يصدروا في حديثهم عنه عن اطلاع على ما لهذا الرجل من إسهامات فذلك أحرى بأن يعطي صورة أكثر دقة عن أعمال الرجل ويستنقذ المتحدثين من الوقوع في الخطأ عند الحكم على أعمال المحتفى به وبخاصة أن هذه الاثنينية قد باتت مصدراً وثائقياً بالنسبة إلى جميع المحتفى بهم وقد ظهرت فائدتها أكثر عندما أخذ صاحبها في تفريغها من أشرطة التسجيل وإصدارها في أجزاء متتابعة صدر منها ثلاثة والرابع وشيك الصدور.
وأحسب أولئك الذين ألحوا على نفي وجود موهبة الشعر عند الناقد إنما أرادوا بذلك نقد حكم أصدره شاعرنا يحيى توفيق على شعر محمد حسن عواد ـ رحمه الله ـ حين غض من شأن ذلك الشعر مدللاً على أنه كان أقرب إلى صورة النظم منه إلى صورة الشعر.
وهذا الحكم لا ينفي الريادة الأدبية التي كانت للعواد رحمه الله، غير أن هذه الريادة لا تعني أيضاً التمكن في جميع فنون الأدب، وللرائد عذره في ذلك إذ يكفيه أنه أخذ زمام المبادرة إلى التجديد فمارسه ودعا إليه واشتد في ذلك على من لم يستجب لدعوته.
والواقع أني بتعرفي على شعر هذا الشاعر (يحيى توفيق حسن) أحس بأني عرفت شاعراً أصيلاً محسِّناً يعرف كيف يختار الكلمة، وكيف يؤاخي بينها وأختها، ويجيد تجلية الصورة الأدبية على نحو لا يحسنه إلا أولئك الذين ملكوا أداتهم الفنية وعرفوا كيف يستثمرون محصولهم اللغوي وكيف يعبرون عن إحساساتهم ومشاعرهم تعبيراً جمالياً يتجلى فيه الإبداع مشرقاً بملامح الإحسان.
على أن لنا عودة إلى دواوين شاعرنا كل ديوان على حدة على نحو نجلو فيه واقع هذا الشعر جلاءً قد تكون لنا فيه بعض الاستدراكات مثل تكرار نشر بعض القصائد في أكثر من ديوان كقصيدة (سمراء) التي نشرها في ثلاثة من دواوينه هي (أودية الضياع ـ سمراء ـ وافترقنا يا زمن) وما إلى ذلك مما قد يكون لنا فيه رأي يخالف ما يراه الشاعر.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :2273  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 44 من 204
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.