شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أزمة الكتاب والكاتب
• إن الشيء الوحيد الذي يستخرج هذه البلاد من أوضاع التخلف والتجزئة، والدينية المتطرفة، ويقربها إلى الدين نفسه معاً.. هو النجاح على صعيد العمل العربي الموحد، إذ من هذا النجاح سينتشر الدفء الثقافي والحضاري الصحيح الذي تفتقده جماهيرنا نتيجة العزلة والتباعد والأحلام الصغيرة.. ومن هذا النجاح ستعود الأصالة والمعاصرة إلى حياتنا، وروح الوحدة مهما تكن متواضعة قادرة على تغيير الكثير مما تشكوه في أكثر من ناحية من نواحي حياتنا!
منح الصلح/ لبنان
• إنها عملية خطيرة.. لا أحسب أنها تتعلق برغبة إقامة حضارة على أنقاض حضارة.
وإذا قلنا: لليهود حضارة بالتجاوز، فإن المستوطنين للأرض المحتلة ليسوا هم اليهود، وليست لهم حضارة بهذا المعنى العميق والكبير.
إنما هو فِرَق تجمّعوا من بولندا وروسيا وأميركا، ومن أطراف الأرض، واستحوذوا على الأرض العربية الحافلة بالحضارة القديمة والأصيلة والتليدة.
والروابط التي تجمعهم وتوحدهم هي روابط الاستعمار، أو التوسع، أو استلاب أراضي الغير!
ثم يأتي بعض من مفكري ومثقفي العرب، ويذهب بصوته وفكره إلى عدوه، والمفكر هو صوت وضمير، ويذيع عبر إذاعة العدو، وبكامل قواه العقلية: "إن الروابط بين إسرائيل والدول العربية قديمة وتاريخية وعميقة، أو كأنه يفعل التجهيل للتاريخ وللفكر العربي من خلال غسل دماغ الجيل العربي الجديد - جيل 15 مايو"!!
وهكذا - أيضاً - تجه الفكر العربي إلى إدخال الأدب الاسرائيلي الحديث، أو (قلة الأدب) الإسرائيلية الممارسة ضد تراث وتاريخ العرب.. إدخال تلك إلى بعض وسائل الإعلام، وإدخاله إلى الكلمة العربية بين الكتب التي ستصدر بفنون الأدب المتعددة:
شعراً، وقصة، ودراسة تاريخية، وفنوناً، وحتى نغماً.. إلى درجة الترحّم على داؤود حسني!!
وسوف يواجه جيل 15 مايو - وهو الجيل المقابل لجيل الصابرا الذي ألف أنيس منصور كتاباً - سيواجه تزييفاً للتراث العربي، وللفكر العربي.. وسيكون ذلك عبر مخطط مدروس يتمثل في الظواهر القادمة الآتية:
أولاً: تغيير المناهج الدراسية في بعض الأقطار العربية.. بما يتفق، و "روح" السلام الجديدة، أو طلوع الروح، وذلك ما صرح به وزير التعليم في مصر إبان مرحلة مباحثات كامب ديفيد!
وهذا التغيير في المناهج الدراسية.. سوف يكون بمثابة غسل الدماغ لجيل (15 مايو) الجديد...
كما قال وزير التعليم المصري: لنزع الحقد من صدور الجيل المصري الجديد ضد إسرائيل، وتقبُّله للسلام الجديد!
ولعل هذه الخطوة هي الأكثر خطورة.. لأنها نسف للتاريخ وللتراث العربي.. بل وتعتبر وأداً لحضارة السبعة الآف سنة إياها!!
ثانياً: وفقا للمخطط المدروس الهادف إلى نزع الغل والحقد على مغتصبي الأرض العربية وقاتلي أبنائنا وأطفالنا، ومدنّسي مقدساتنا... فسوف يبادر البعض - خضوعاً لأمر الدعوة للسلام - إلى ترجمة الكتب الإسرائيلية من العبرية إلى العربية، وفي مقدمتها رواية ابنة دايان "رابيل"، التي صدرت قبل سنوات طافحة بالحقد على العرب!
وبهذه التراجم من العبرية سيساعد المفكر العربي على إنجاح مهمة الإعلام الصهيوني الذي جلسنا سنوات عديدة في مؤتمرات الإعلام الصهيوني ومحاربته في أميركا وأوروبا والشرق، لتصبح الرؤية للرأي العام العالمي عن: القضية العربية، والحق المشروع، وتحرير الأرض!
وبهذه التراجم العربية.. سننقل أيضاً الفكر الصهيوني المعاصر القائم على إبراز طبيعة العرب بأنها طبيعة دموية، قتالية، تدميرية، مخرّبة.. مثلما قال الإعلام الإسرائيلي في دفاعه أمام الردع العربي لمبادرة الصلح المنفرد!
وبهذه التراجم من العبرية ستتبلور طبيعة العلاقات الثقافية والفنية التي ستقام بين العرب والعدو بعد التمثيل الدبلوماسي!
• • •
* طبيعة الصراع المحتدم:
ثالثاً: إذا أقررنا أن طبيعة الصراع المحتدم اليوم في منطقتنا.. يعتبر حرباً تستخدم فيها الثقافة، ويوظف فيها الفكر، ويُسخَّر المنطق للتجانس مع متناقضاته.. فلا بد أن نلتفت إلى البحث عن:
• دور المؤسسات الفكرية، والدينية، والعلمية في العالم العربي.
• دور الجامعات والمثقفين لمجابهة عملية نسف التاريخ والتراث العربي، وعملية غسيل الدماغ التي تتم اليوم بدعوى السلام... حتى إنهم استخدموا الآيات القرآنية الكريمة لتفسيرها وفق الهوى السياسي!
• وكيف يتجاهل العرب والمسلمون: قضية تحرير القدس (أولى القبلتين، وثالث الحرمين) واليهود يصرون أن القدس عاصمة لإسرائيل للأبد؟!
وكيف يوافق علماء المسلمون على إيهام الشعب المسلم: بأن القدس لا أكثر من "قميص عثمان" تستخدمه الدول العربية؟!
وهل معنى الخدعة يتضح في الإصرار على تحرير القدس، أم في التهاون والتنازل والاكتفاء بغزة التي لا تريدها إسرائيل، وبأريحا التي يدخل إليها "عرفات" بتصريح إسرائيلي؟!
وإذا كانت الجامعات العربية - إنطلاقاً من التزامها بأصالة الثقافة العربية، ودفاعها عن تزييف التاريخ العربي.. استطاعت أن تؤكد: وجود العلم، أو الكتاب - فإن "الأزهر" فيما نعتقده يعطي دوراً أكبر، ويتصل بالروح.. فهو لسان من ألسنة الإسلام أو الفكر الإسلامي.. والقدس: قضية إسلامية في الدرجة الأولى، وقضية أرض وكرامة وحرية!!
• • •
• وبعد...
فإننا - في كل ما استعرضناه هنا - لم نكن نستهدف مناقشة ظرف سياسي نشأ في حموة النضال العربي ضد عدوه بغرض تبديد ذلك النضال.. فهذا الهدف في الإطار السياسي قد تناوله المحللون السياسيون من ذوي التخصص والمتابعة للظواهر السياسية المستجدة.
وهكذا - ورغم المرارة والتقافز السياسي بالوقت - فما زالت حدقتاي مليئتين بالتعلق.. تفيضان بالتجمع الروحي حينما يلتئم بكلمة من الصدق، وبنغمة من تلك الروابط التي أينعت بسبب خصوبة أرضنا التي تطرح الحب دائماً، وتنفي الشوك عن تربتها!!
• هل نحن أمة لا تقرأ؟!
طرح هذا السؤال على الأمة العربية: الناقد اللبناني "جهاد فاضل" في عام 1410هـ.. في محاولة منه للإجابة عن هذا السؤال المعاد، والحاد، والمجيَّر في كل عام، والمتروك بعد ذلك طوال العام.
ولا بد - في بدء مناقشة هذا السؤال، والتعامل معه - أن نجد ركائز هامة لقواعد الحوار... وفي مقدمتها:
أولاً: نسبة المكتبات في عالمنا العربي، ونسبة المكتبات في بلادنا، والخدمات التي تؤديها!
ثانياً: عدد دور النشر والتوزيع، على امتداد الوطن العربي.
ثالثاً: نوعية الكتب التي تهتم دور النشر والتوزيع بطباعتها، وترويجها.
رابعاً: نسبة إقبال القرّاء على المكتبات لشراء الكتب.. بعد فرز هذه النسبة عن قرّاء الصحف، والصفحات الرياضية بالذات، والمجلات الملونة!
خامساً: دور المدارس والجامعات في إعداد الشباب للقراءة، ولما يسمونه في الجامعات الكبيرة في الخارج "السمينار"!!!
سادساً: دور النوادي الأدبية - نفحنا الله من بركاتها! - نحو تشجيع الكُتَّاب على طباعة، ونشر مؤلفاتهم، وإبداعاتهم!!
وهناك من يُحمِّل دور النشر بالذات: كل المسؤولية في تردِّي رواج الكتاب، وحث الشباب على القراءة.
وهناك من يُحمِّل وسائل الإعلام، والتلفاز في مقدمتها، مسؤولية قيادية في جذب اهتمام الشباب إلى الكتاب.
وهناك من يلتفت إلى "البضاعة" المطروحة.. بغرض طباعتها، وتقديمها.. أو بعد طباعتها، وتوزيعها.. ومدى الإقبال عليها!
وأتذكر فكرة طرحها قبل أعوام: الكاتب، الصديق، الدكتور "شاكر النابلسي" ضمن مقال له، كان عنوانه "فكرة مجنونة.. لمجتمع عاقل" قال فيه:
• "لماذا لا يكون في هذا الوطن الكريم صندوق خاص لتمويل مكتبة الطالب.. يتلقّى تأسيس مكتبات للطلبة غير القادرين مالياً، لتكون نواة لمكتبة بيتية"؟!!
وهذه الفكرة تنبثق منها: صناديق ثقافية متعددة.. تموّل مكتبات تنشأ للشباب، للأطفال وتهتم بكتاب الطالب، وبالكتاب الوطني.
والفكرة.. رسالة وطنية، تخدم انتشار الكتاب، والثقافة، وتعين الشباب على التزود بالمعرفة.
والفكرة إذا كانت مجنونة.. فذلك من مفهوم واحد، لعله يتساءل:
مَنْ هو التاجر، أو رجل الأعمال، أو صاحب الرصيد الكبير.. هذا المجنون الذي يرضى أن يبعثر فلوسه في مشروع لإنشاء مكتبات؟!!
ولكننا نشاهد في العالم من حولنا: الصناديق الثقافية التي أنشئت، وأثبتت نجاحها وقدرتها على تحقيق الهدف وإفادة الشباب!
لقد نجحنا في المشروعات الصناعية والزراعية والتجارية.. ولكننا أهملنا التفكير الجدي، والمثابر، نحو إرساء مثل هذه المشروعات الثقافية التي تخدم عقل الإنسان، وتذّكي وجدانه!!
• • •
* الأدب: يعزز سلطان الحرية:
• تحضرني الآن عبارة ضمَّنها أحد كتبه: المفكر التونسي، السياسي سابقاً، الأستاذ "محمد مزالي" عن الأدب، والأديب.. لعلها تأتي - هنا - منطلقاً على سؤال ما زال حائراً منذ أمد طويل.. يتسكع في أروقة الكلام حول رسالة الأديب، وكيف نستطيع أن نحددها في هذه (الهوجة) التي أبرزت لنا عصراً تنطبق عليه صفة: (تفشّي القلم)!!
• قال الأستاذ "محمد مزالي":
(إن الأدب يغالب المادة، ويواجه العبث.. ليكون خليفة من الله في الأرض!
إن الأدب فن.. والفن لا يُفرض فرضاً، ولكنه لا يكبت أيضاً!
إنه كريح الصَّبا.. يعمل عمله، ويؤثر في حياة الإنسان، ويساهم في تبديل نفسيته!
إن الأدب يعزز سلطان الحرية!
إنه تلقيح.. يقي من تبعات العجز، والنقائض، والخوف، والجبروت، بكل ألوانه)!
واستوقفتني هذه العبارة وقتاً طويلاً، وأرهقتني.
وفي رأيي: أن "الحيرة" هي النقطة الأولى في انطلاقة الأديب إلى انطلاق رسالته، في كل فكرة تولد بعد ذلك!!
وهي: انطلاق المخاض في التفكير، وصياغته!
إن "الحيرة".. تُمثل تعبيراً عن: الرغبة في البحث والتجريب.. أي إنها: التعبير عن مولد فكرة، وعن صلاحية التفكير للعطاء، وللاكتشاف!
• لقد قيل: "إن الأديب يمثل حجم إنسانيته"!
والأديب - أيضاً - هو "كيف" نفسه، وهو "كم" تحدياته!
إن العالم اليوم: ثقافي، وحضاري، ومتمدن.. وهو - أيضاً - سفاح، ومحارب، ومبدد!
وإذا كانت عبارة - مزالي - قد استوقفتني.. فهناك عبارة أخرى لطمتني بعنف:
• (لا بد من اختطاف بحر الأمية إلى مرفأ الأدب!
لا بدَّ من اختطاف زبائن الكلمات المتقاطعة، و "بختك" هذا الأسبوع، وزبائن النكتة)!
لا بُدَّ من اختطاف نوادر "أي جحا" معاصر.. يتكرر في شكل كاتب، يدّعي الفائدة.. فلا تجد عنده الشعور بإمتاعنا بها!
• • •
• وإذن.. فمن الضروري أن يؤدي "الأدب" رسالته، من خلال دوره نحو هذه الرسالة العظيمة التي تواكب استشراف الإنسان، في واقع التطور، والتقدم الاجتماعي، وانتشار الجامعات!
والكتب التي تصدر في العالم العربي.. تبدو نسبتها أكثر تواضعاً الآن، أو أنها لا تتفق ونسبة ما كان يصدر من كتب في الأربعينات، وحتى الستينات، في قلة الإمكانات الطباعية الحديثة، ودور النشر والتوزيع.. ولا تتفق مع نسبة الجامعات، ووسائل الإعلام والوعي!
والسبب: أن رعاية الأدب في ذلك الحين كانت: رعاية أصالة في نفس الدارس، والقارئ، والمتجه إلى المعرفة!
ورغم انشغال المنطقة العربية بهجمات الاستعمار.. فقد كان "الأدب" له صوت: الحرية، وصوت: النضال، وصوت: العلم!
وكان "الأدب" يحرص على المحافظة التامة، على: التراث، وقيمة الإنسان العربي.. ويتوجَّه إلى الإرتواء الدارس من العالم.. وأن يشرئب المثقف إلى العطاء، والإسهام بدور الكلمة!
وإذا كان "أبو حنيفة" قد شعر بضيق من شخص لم يجد لديه علماً، ولا معرفة.. فقال عبارته المشهورة: "آن لأبي حنيفة أن يمد رجليه".. فما الذي يمكن لأبي حنيفة أن يقوله لو عاصر هذا الحاضر؟!!
• • •
* الإعلام عن أدبنا وثقافتنا:
• لقد انشغلنا في السنوات الأخيرة عن "الأدب" والفكر.. بالتنظير، وبالإدعاء!
وانشغلنا عن الإبداع.. بالتحليل السياسي، رغم قلة المبرزين في هذا الفن حتى الآن!
وانشغلنا بالمذكرات الشخصية التي تصدر في كتب، وترتبط أحداثها بفترات سياسية، أو بنظام سياسي!
وحدث ذلك اللغط الذي فتح الأبواب لكل من هب، ودب، وخب!
وإذا أردنا المقارنة بين "التراث" العظيم، الذي يحفل به أدبنا العربي، وبين هذا (المطروح) اليوم في المكتبات، وعلى صفحات الجرائد.. فإن الحصيلة لن تعطينا إثبات تأدية الرسالة من "الأدب".. كدور، وقضية، وفكر!
حتى الكتب التي صدرت بمحتوى الدراسة، أو النقد.. فهي قلة، وبقلتها هذه نجد أن الكثير منها مترجم، ومنقول من مدارس أدبية، وأيديولوجية غربية، عفى عليها الدهر!
وهي كتب لا تكاد تشغل القارئ والباحث، بل تشغل أصحابها، وأنصار مدارسها، والمروجين لأفكارها وأيديولوجيتها!
وهكذا.. صار الإهتمام مشرداً بين انفتاح وسائل الحضارة، أو وسائل الإعلام الحديثة، المسيّسة، أو "المؤدلجة"!
وصار صوت الكتاب خافتاً.. خاصة في غربة الفكر العربي عن التراث، وعن الجذور.. وركضه وراء "الحداثة" بدون استيعاب علمي لها.. أو بهذا "التذاكي" لتمرير أفكار محددة!!
وإذا كنا نتحدث عن "الأدب" من رؤية الجديد فيه، كقيمة فكرية، وإبداعية، لا بد أن تضاهي وتتساوى مع عطاء الآداب العالمية.. فإننا نجد (الاعتبار)، أو التقييم للأدب، ما زال حظه مثل حظ الدول العربية مع العالم المتقدم حضارياً!!
وعلى العرب أن يلتفتوا إلى (الإعلام) عن أدبهم.. وأن يكسروا ذلك الطوق المضروب إعلامياً على الإبداع، والأدب العربي!
ولا بد أن "جائزة الملك فيصل" تعتبر خطوة إيجابية هامة، من خطوات كسر ذلك الطوق.. لأنها تلتفت - بجدية ملحوظة - إلى لب الفكر العربي: أدباً، وعلماً، وتراثاً.. وتلتفت إلى مخاطبة، ومحاورة الفكر العالمي.. اهتماماً وتركيزاً على التراث الإسلامي، والتاريخ العربي!!
• أستأذن حينما أتأهب.. فأطرح - في البداية - هذا السؤال:
ـ هل أدخل هذه الساحة، أم أستمر خارجها مسمراً، ثلجياً.. أحاور الأصداء وأنكفئ؟!
في البداية - أيضاً - يراودني سؤال آخر أطرحه هنا:
ـ هل أصبح إدراك الإنسان للمفاهيم، وللفكر، وللفن، وللإرتقاء الحسي والذوقي.. إدراكاً منكفئاً.. مصدوماً بالمتغيرات المسلّطة على رؤية الإنسان ووعيه وشجونه؟!
ما هو الفارق بين داخل الساحة، وخارجها؟!
إنني أتلفّت في كل الجهات. إنساناً منتمياً إلى هذا العصر بمشاكله، وبمتناقضاته، وبقشوره، وبأنينه وضحكاته. اليوم يبدو الإنسان محكوماً بالتلفّت.. لأنه مرهون بالأصوات المفاجئة، ومنساق بعد ذلك وراء الفجائية ذاتها!!
سأجيب عن السؤال الأول.. بأن آذن لنفسي بالدخول لهذه الساحة!
وسأجيب عن سؤال أفترضه منبثقاً منكم عن المقصود بالساحة، وأقول:
• إن كل قضية تهمنا هي ساحة يتبارز وسطها نقيضان متولدان من احتياجاتنا، ومن مفاهيمنا... وكل رغبة تتبلور في داخلنا هي ساحة ستخلو بعد قليل من اهتماماتنا بقتل تلك الرغبة أو قتلها لنا!.. وكل هدف يتضح من طموحنا هو ساحة، نحن في الغالب لا نملك حدودها، ولكننا نركض في فراغها حتى الإغماء، وحتى الموت!
نحن رهائن "ساحة" ننزف فوقها أعمارنا، ونقطر أشجاننا، ونتباغض، ونتحاب، ونحارب، ونموت، ونقتل، وننتصر، ونضيع، ولكنَّ ثمن وأد هذه الصراعات، وهذه الأهداف، وهذه الرغائب: أن تكون لها جميعاً قيم، ومضامين لحياة كريمة، ومفاهيم لتشييد مجتمع راقٍ وحضاري!!
• وأجيب عن السؤال الآخر فأقول:
ـ حينما ينكفئ الإدراك يصبح الحظ أعمى!.. وهذا قول اشتقه من الترسبات الموروثة من أجيال ماضية.. رغم قناعتي التامة أن الجهد لا يخضع للحظ، وأن الاجتهاد لا يسمى حظاً، وإنما هو متأرجح ما بين الخطأ والصواب، والإنسان - إذن - إما مخطئ وإما مصيب.. ولكنه لن يكون محظوظاً أو سيِّئ الحظ!
بعد ذلك... لا يمكن أن نسلّم وعينا لإنكفاء الإدراك.. فرغم أن العالم يضم أمماً قطعت شوطاً باهراً وبعيداً على درب الحضارة، لكنها ضعيفة أمام متغيراتها المتصادمة.. لكنها مضطربة بفعل إنكفاء إدراكها لمصالح الإنسان المشتركة.. لأنها تنحصر في مصالحها الخاصة!!
لهذا الأسباب تتقوّض حضارات، وتتفجر حضارات، وكما قال "شبنجلر": إن الإنسان المليء بالشجون.. لا بد أن يعرف أن ما يمتلئ به ليست شجونه، وإنما هي شجون غيره التي يعاني منها!!
فأنت تبكي إذا فقدت شيئاً يخصك، ولكنك تبكي أكثر إذا فقدت تغليه، أو إذا هجرك مَنْ تحبه، ولا تبكي إذا هجرت من يحبك!!
وأنت تتنازل لغيرك عن أشياء كثيرة، ولكنك لن تتنازل من أجل نفسك عن أشياء تضرك لأنك تزاحم بها الآخرين، فالآخرون هم شجونك ودموعك وابتسامتك... والشاعر يفعل ذلك أيضاً بدون أن يدري.. فالخنساء تنازلت عن شبابها وأنوثتها من أجل أخيها "صخر" أو بسبب حزنها عليه، ولكنها لم تتنازل عن حزنها ولوعتها على "صخر" من أجل أنوثتها وشبابها!!
وهذه النظرة قد تبدو متأرجحة، إذا انطلق جدل لمناقشتها، وإذا تركز الجدل حول رفض التنازل عن أشيائنا الحميمة أو الخاصة بنا، باعتبار أن الإنسان أناني، ولكن أنانية الإنسان ليست من أجله بل هي من أجل ما يريد، وهو يريد لنفسه، ولكن الذي يريده لنفسه يعطيه كل نفسه، أو أغلى ما عنده!!
• • •
* رؤية محتدة:
• هنا... أقترب من النقطة الأخرى التي تأملت جوانبها... ولا بد أن تكون مرتبطة بما طرحته من شواهد، أو من حوار:
هذه النقطة هي مخاض لانطباع تشكّل في محتوى الجيل الذي يشهد لنا وعلينا، وهي رؤية - محتدة! - لحصيلة عاطفة إنسانية تضيع في غبار قبح الرغائب واحتياجاتها.. وهي معاناة ذات حدّين، تقتل القاتل والقتيل، ويبقى داخل الساحة لا أكثر من أنقاض حضارية، وتهدّمات نفسية.. كانت "مرحلة" في حياة الأجيال السابقة وأصبحت معاناة للجيل المعاصر!!
وسأستلهم دليلي من عاطفة الإنسان، ومن وسائل التعبير عن هذه العاطفة، وأسأل هنا:
ـ ما الذي تبقَّى من عاطفة الإنسان؟!
• الجواب: عندما أراد الكاتب الأميركي "هيمنجواي" أن ينتحر، لم يقل للعالم: انتحرت لهذا السبب، ولكنه قتل نفسه في صمت، وترك الضجيج لمن تحلّقوا حول جثته، ولكنه قبل أن يموت كان يكتب رواية لم تكتمل، وتركها عند سطور قال فيها: إذا كان ما تبقّى من الحياة هو مزيد من قبح المصالح، ومن عاهات الوجدان.. فلا بد أن يكون الموت إجابة رائعة عن هذا السخف!
والانتحار ليس حلاً، ولكنه نتيجة.
كذلك.. فإن عواطف الناس لم تعد "وجداناً"، ولكنها أصبحت لا أكثر من مضمون للوجدان، واختلفت تلك المضامين وتلاحت!!
فالعاطفة موجودة، ولكنها دائمة التلفّت.. منساقة وراء الفجائية ذاتها.
وقد قال المؤرخ المعاصر "توينبي" وهو المؤرخ الذين لا دخل له بالشعر، والفن:
• "في شبابي أردت أن أتعلم الرسم، فكانت أولى محاولاتي: أنني رسمت سماء زرقاء، وغصن شجرة، وطائراً يحلق في المدى، وقبل عام واحد فقط أردت أن أهرب إلى الرسم، فكانت آخر محاولاتي أنني رسمت مدفعاً، ومساحة حمراء تعني اللهب، وبوماً في داخله"!!
وأراد المؤرخ أن يقول: لقد تبدّلت الحياة. إنَّ المتغيرات هي حصيلة الرغائب المجنونة، والمصالح القبيحة، وهي تعبير لعصر القلق والخوف من الحروب، ومن الأمراض، ومن المجاعات، ومن الإكتشافات الفتّاكة!!
• هناك عبارة صرّح بها شاعر عربي حديث، فقال:
ـ إنني متوتر ومجنون... لا تسألوني عن شعري، فما زلت مبدعاً وفناناً وأكتب الشعر الجيد، ولكنه ليس الشعر الوجداني... بل هو الشعر المناضل، أو الشعر القنبلة.. إنَّ هذا هو عصري وعالمي!!
وتجعلني هذه العبارة أنكفئ ولا أرتد.. أتقلص ولا أتمدد.. أنوح ولا أدري قضيتي!!
إنني أنتخب فرحي في مناسبات الحزن!
إنني أرشح طموحي لخدمة مصالحي!
إنني عاطفي ومتسلخ... بل إنني أرعرع شجوني وأصدمها!!
لقد قال ذلك الشاعر ما استهجنته بنفسية الإنسان المتعب.. المبدد في أصداء تلك الساحات!
وهل هناك داع للسؤال؟!
وهل يصبح من الضروري انتظار الإجابة؟!
أي سؤال.. وأية إجابة؟!
إني لا أحاور الفهم، ولا أترصد الإدراك..
إنني - فقط - أتفصّد عاطفة ويقهرني العالم؟
ـ لست شاعراً، ولكنني ولدت في دواعي الشعر!!
كان الشاعر "تربادورا" ينثر أشعاره في الطرقات على شَعْر حسناء فتغني شعره كأنها تشم زهوراً!
وكان الشاعر يدخل مسابقات "البراعة" من أجل الارتفاع بقيمة الكلمة، فيأخذها جائزة، أو جاهاً.. فكأنه يحول الدنيا إلى معزوفة موسيقية!
وليست هذه قيمة الشاعر كلها... ولكن المحتوى الوجداني كان هو القيمة.. فما قيمة إنسان بلا مضمون وجداني؟!
إن العالم يبدو بلا مضمون وجداني.
العالم يتحول إلى سياسة، والشعر يحترق في هذا التحوّل... فلا بد أن يقترب الشاعر من آلام أمته!
وعندما اندلعت حركة المقاومة الفلسطينية، انبثق منها شعراء المقاومة: درويش، والقاسم، وكانت لهما ولادة أكبر من حجم معطياتهما الشعرية أو الفنية... كان الاعتبار لوطنيَّتهما أولاً، وعندما اضطربت دروب "محمود درويش" تحوَّل إلى شيء عادي، أو تحدد كشيء سياسي، ولكنه كشاعر ربما كان مبدعاً.. إنما هذا الإبداع توقف عند محتوى وجداني محدد!
ومحمد الفيتوري - برغم شاعريته المبدعة - فقد تسلق صدور الناس وأذهانهم وشجونهم يوم غنى لأفريقيا، ثم تحوّل غناؤه سياسياً فتحدد، ثم توقف عند الصوفية أو إغراق نفسه في محتوى وجداني محصور!
ويوم أصدر الفيتوري "معزوفة إلى درويش متجوّل".. ظن البعض أنها بداية جديدة لمرحلة مغايرة للشاعر، ولكنه لم يكن أكثر من متلفّت متوتر!!
• • •
* المضمون الوجداني:
• ويبحث "أدونيس" الآن عن ذلك المضمون الوجداني.. إنه - أيضاً - يعاني من التفاتاته المتوترة.. إنه يخاطب الحجر كزهرة، ويعصف بالزهرة كبرق.. إنه يتحدث عن عصره برؤية لا يمتلكها، ويترافع عن قضايا مشروخة كأنه "ديوجين"!
أما "صلاح عبد الصبور" فبعد مسرحيته الشعرية "ليلى والمجنون"، لم يستطع أن يصعد فوق تراكمات مضمونه الوجداني... لأنه حدد رؤية معينة في زمن ما، ثم اختلطت المرئيات عنده حتى الصمت!
إن "غادة السمان" لا تستطيع أن تصف شيئاً الآن، ولكنها تحتدّ أمام أي شيء، وكل شيء... وهذه الحدة ليست بالضرورة هي مضمونها الوجداني، ولكنَّ مضمونها الأصيل متوتر متلفت.. يهبط تارة، ويحلق تارة أخرى، وهذا التحليق هو تعبيرها، فهي بارعة في التعبير عن شيء غير معروف أو غير متواجد!!
وفي الصحف والمجلات العربية حملة متناقضة على "نزار قباني"... لأنه شاعر يدخل قدماً واحدة ثم يخرجها، ويجرب بالقدم الأخرى... فهو يحاول أن يفتح طريقاً يجسِّد فوقه زمناً يعترف به غيره. ولكن هذا الزمن يبهت في الملامح التي يرسمها "نزار".. لأنها ملامح مترددة، أو لأن تأمله لتلك الملامح بعد رسمها تأمل متلفّت متوتر!
وكل هؤلاء توقفوا عن إعطاء الجديد، وعن ولادة رؤية جديدة لزمن مأمول. إنهم جديرون بالعذر، ولكنَّ المضمون الوجداني لكل جيل يتجاوز الأعذار.. فإما أن يقوى عليها، وإما أن تهشمه!!
• • •
* الشاعر إنسان:
• وجاء أحد النقّاد العرب المعروفين.. هو الناقد "غالي شكري" فقال:
ـ "واللحظة التي يدعونها الإلهام أو الوحي، والتي يقرر فيها الشاعر هذا الأسلوب أو ذاك، هي نفسها اللحظة التي يقرر فيها إيصال هذه الفكرة أو تلك.. هذه اللحظة هي الابنة الشرعية لمجاهدات الفنان مع الحياة والثقافة، وهي أيضاً الثمرة الموضوعية لتكوينه الذاتي المتفرد، أو ما يجب أن ندعوه بالضمير الفني، فهو لا يرادف الضمير الأخلاقي"!!
وهذا الناقد قد أراد أن يشتم شعراء معينين، والفكر والفن ليسا في حاجة إلى من يُحدِّد أن هذا الشاعر ذو ضمير أخلاقي، أو ضمير فني. ولكن المحور هنا: أن نناقش في ضمير القضايا التي تواجهنا، وفي ضمير الأحداث التي تفاجئنا، فالشاعر إنسان قبل كل شيء... بل أكثر حساسية، لأنه يستلهم المضمون الوجداني لأمته، أو لجيله، فهو - إذن - محكوم بالمتغيرات، أو مصدوم بالمتغيرات التي تتسلط على رؤية الإنسان ووعيه وشجونه.. بمعنى أنه إما أن يعبر، وإما أن ينكفئ.. بمعنى أنه إمَّا أن يكون على صواب، أو يكون على خطأ، وكيف يتحدد الصواب، وكيف يتم الاعتراف بالخطأ؟!
إنّ المحتوى العاطفي هو الآن لا أكثر من تلفُّت متوتر.
وإن الأبعاد الثقافية.. لا تنفصل عن ذلك المحتوى الوجداني... لأنها تستنهض رؤية جيل بكامله!!
وكلنا ننتمي إلى هذا الجيل الباحث عن إدراكه بكل الوسائل والتصور أيضاً!!
• الكلمة تتطوح فوق الأرصفة..
والنظرة نحو استلهام معاني الكلمات تكاد أن تكون متوقفة، فهي نظرة تتزحلق وتسقط في طحالب ذهنية تبعثرت فوق تلك الأرصفة المزدحمة، وفي لزوجة الطحالب تلك تولدت أفكار رصيفية تُفرِّخ مزيداً من الكلمات الجوفاء، والعبارات الكرتونية الهشة!!
أفكار تقلصت أو تسوست داخل تلك الأدمغة.. يملأ أصحابها الدنيا ضجيجاً وعويلاً، واحتجاجاً على مفردات القضايا الإنسانية.. دون استيعاب لمضمون القضايا ذاتها، والعالم عجيب.. قاتل ومقتول، وجائع إلى المعاني، وفاقد لكثير من القيم، ونائح على أحلامه!!
إنَّ كل ذهن يعالج مولد فكرة في تضاعيفه.. ينبغي أن يكون حجمه في كفاءة حجم الفكرة.
إنَّ اللمحة في ثنايا موقف الكلمة الأخلاقي هي: مقياس الكلمة.. هي الوقوف على الأرض، والأرض عقل ووجدان وضمير!
إنَّ تكريس الانفصام بين الفكرة والشعور.. نفْي للموقف الإنساني المسؤول في ذات الكاتب!
إنَّ الكلمة ليست "وسيلة" التجريح لشرايين الأسئلة المولودة في عبارات تطمح إلى عبور نحو مفاهيم الناس، لكنها الكلمة "الغاية"، النابضة في مفاهيم الناس بفكرة جديدة.. برؤية رحبة.. بإجابة مكتملة عن أسئلة الباحثين عن المعرفة والحقيقة!!
إنَّ في الكلمات بحثاً عن فرص... فيها مزيد من أيام الحياة الناهدة إلى رؤية أشمل، فمن المحزن أن تموت الأذهان بتفاهة المعاني التي تتمدد في الذهن كما طحالب راسبة!! وذلك ما يجعل التأمل للكلمة مكتوبة اليوم، يبدو تأملاً يرتد إلى الذهن والاستخلاص بفراغ كبير.. ففي أكثر ما أصبحنا نقرأه اليوم من خلال الصحف اليومية والأسبوعية لا نقدر أن نعثر على جديد، ولا نجد فيه ما يمكن أن ننعته بالعمق، والإبداع، ولا يحتمل البقاء لأكثر من اللحظات التي يعبر فيها من تحت أنظارنا!!
ولا أحسب أنني بهذه النتيجة المستخلصة من ارتداد التأمل.. أفتئت وأتجنى على الذين يكتبون اليوم، وعلى الذين يتولون مسؤولية إصدار الصحف والمجلات ويختارون مادتها وكتّابها.. لكنني بهذه النتيجة أطمح إلى طرح أبعاد هذه الأزمة (المستريحة) في أذهاننا وحسًّا للمعاني!!
إن الأزمة تتكثف في علامات ثلاث:
أولاً: افتقار وسائل النشر والتوعية والتثقيف إلى تعاون.. بل إلى وجود الكتّاب المتخصصين في ألوان المعرفة، وسواء كانت الصحافة - يومية أو أسبوعية أو شهرية - وسواء كانت الإذاعة.. فإن المسؤولين عن هاتين الوسيلتين يطرحون أزمة افتقارهم إلى الكُتَّاب الذين يعطون ثقافة، ومعرفة، وإبداعاً، وحساً.. فأغلب ما تضطر الصحافة إلى تقبله لملء فراغ صفحاتها هو من إنتاج الهواة والناشئة، أو من الإنتاج "المستورد" الذي يكلف باهظاً كسعر لشرائه، أو الالتزام منه.. بينما الكاتب السعودي غائب في حضوره.. فهناك أسماء كثيرة لكنها لا تعطي، كأن مضمونها ومحتواها قد أصيبا بالجفاف... فلماذا؟!
الإجابة عن هذه الـ "لماذا" تكلف سائلها غالياً.. فالكثير يريد أن يدافع عن نفسه بالكلام الذي يقرظه، ولكنه لا يقدم عملاً.. لا يعطي إنتاجاً.. لا يطرح حواراً موضوعياً يمكننا أن نخرج منه بتصور منطقي!
ودعوني أقدم هنا - مثلاً - على ذلك:
• إنَّ مجلة "الفيصل" هي شهرية، ونجحت في استقطاب الأسواق العربية لترويجها وانتشارها في العالم العربي.. من المفروض أن تقدم في البداية عمق وأصالة وإبداع الفكر والأدب السعودي، وأن تكون الجسر الذي تعبر فوقه أسماء الأدباء السعوديين إلى ذهن ومعرفة القارئ العربي، وإلى المؤسسات والجامعات في العالم، وإلى قراءة المستشرقين الدارسين للأدب العربي.. لكن الأديب السعودي نفسه لا يتفاعل مع هذه الفرصة.. لا يحاول أن يتعاون مع هذه المجلة الكبيرة ليعينها على خدمة الفكر والأدب السعودي!!
فما الذي تفعله مجلة الفيصل إذن؟!
إنها لا تقدر أن تخلط فيما تقدمه.. لأنها تحرص على الالتزام بمستوى رفيع لمحتواها.. وأهون الاضطرارين عندها أمام عزوف أدباء ومفكري البلد عن المشاركة فيها.. أن تستعين بالكتّاب من العالم العربي.. ممن تبقّى محافظاً على مستوى فكري جيد!!
بل الأدهى من ذلك - وهو أشد ألماً - أن بعض كبار أدبائنا ومفكرينا لا يحاول البحث عن كل عدد شهري جديد يصدر من هذه المجلة، ولا أن يشتريه.. فإما أن تبعث إدارة المجلة بنسخة خاصة له، وإما أن يقاطعها... وحتى الفكر أصيب بعدوى المادة في أتفه أمثلتها.. بينما مجلة "الفيصل" تقدم مكافآت مغرية "ثمن" كل نتاج فكري يصلها من كاتب!!
ثانياً: غياب القارئ الباحث عن المعرفة.. ذلك الذي "يفهم" أن قراءة صفحة من كتاب، والاطلاع على معلومة في مجلة فكرية، أو علمية متخصصة.. تزيده رجاحة وحصافة لذهنه، وتفتق مداركه، وتقدمه لرؤية الحياة الأشمل..
طغيان المكتبات بالمجلات المصوَّرة، والمليئة بالفلاشات البارقة المتلاشية.. يشد القارئ إلى مزيد من تفاهة المضمون الذهني، ويسقطه إلى مزيد من الطحالب التي تغطي الذهن فتمنعه عن التوهج.
ولا أشط بعيداً بكم إن أشركت وزارة المعارف في مسؤولية تدني مستوى قراءات الشباب اليوم.. ذلك أن حصص المطالعة الحرة تحتاج إلى إعادة نظر، والكتب التي نقرها كمادة مطالعة تحتاج أيضاً إلى إعادة نظر، والأسلوب الذي نرغِّب به الشاب والشابة للمطالعة يحتاج إلى إعادة نظر!!
ذلك يذكِّرني بعبارة قديمة قرأتها للكاتب العالمي "نوريان لويس".. جاءت ضمن فصول كتاب قديم أيضاً أصدره بعنوان: كيف تقرأ؟! فقال:
• "إن الذين لا يقرؤون: عاجزون عن التطلع، والذين يهدرون أوقاتهم دون إشغال ساعات منه بالقراءة: لا يجيدون معرفة الحياة، ولا يتفهّمون كيفية معاشهم"!!
إنَّ القارئين هنا لونان:
لون يقرأ ببطء ولا يستمر في القراءة.
ولون يقرأ بسرعة فيقضم العبارات والكلمات من رأسها وخاصرتها، ويرفسها بكل ما ينشغل به ذهنه من أفكار مادية بحتة!
• • •
* حصص القراءة في المدارس:
• وفي معلومة أخرى قرأتها: وأحسب أنها تفيد وزارة المعارف عندما تفكر في إعادة النظر والاهتمام بمادة المطالعة.. تقول:
• "في جامعة نيويورك قامت الدكتورة ستيلا سنتر قبل سنوات بدراسات عن حصص القراءة في مدارس الأطفال فاكتشفت الآتي:
ـ أولاً: أن حصص القراءة هي أقل الحصص جدية في ذهن التلميذ لغياب الأسلوب المرغِّب في القراءة!
ـ ثانياً: أن الأساتذة المشرفين على هذه الحصص هم أساتذة اللغة المهتمون كثيراً بعلم صوتيات اللغة.. بينما المفروض أن يتولى حصص القراءة أساتذة المكتبات!
ـ ثالثاً: لا توجد مسابقات في القراءة الحرة داخل معظم مناهج الدراسة كعلم أساسي!!
وبنظرة إلى مجتمع القارئين عندنا.. نجد: أن الطالب لا يقرأ إلا كتاب المطالعة المقرر عليه على أنه مادة دراسية سيمتحن فيها، وأن الموظف لا يقرأ إلا الصحيفة اليومية ولا يقرأها كلها وإنما هو يبحث عن أخبار العقارات والإيجار وسعر الخضار واللحمة ومشاكل الماء والكهرباء والكرة، ولا ننكر أنها أشياء ملتصقة بحياته اليومية.. لكنه لا يعترف بحقوق معرفته وتنمية مداركه وتنشيط ذهنه واستجلاء روحه وشعوره فيهمل كل شيء.. إضافة إلى تعلق أكثر القارئين اليوم بالأخبار السياسية والمناقشة لها بلا خلفية لأبعاد السياسة العالمية وبلا فهم لها، وربما كانت هذه أيضاً مسؤولية الصحافة اليومية التي انغمست كلياً في عرض المشكلات السياسية وتخلت عن العناية بجوانب الحياة الأخرى!
وبعض الحاصلين على هذا المؤهل العلمي الكبير عندما تقرأ له بحثاً عن الجديد في المضمون الذي يقدمه.. لا تجد فيما كتبه جديداً، ولا أتجنى إن قلت: إن ما تقرؤه لهذا البعض يحفل بالأخطاء الإملائية والنحوية؟!
وكانت الصحف قبل سنوات تعتني بثقافة القارئ عن طريق المسابقات الكبيرة التي تقدمها بجوائز مغرية، فيضطر القارئ للبحث عن المصادر والقراءة.. لكن المؤسسات الصحفية ألغت هذه الالتفاتة الطيبة.. مع أن أية مؤسسة لا تخسر قرشاً واحداً من خزينتها!
ثالثاً: تحرك النوادي الأدبية "الخرساء" حتى الآن وتقدمها نحو إيجاد أسلوب يغري القارئ والكاتب معاً.. فالمحاضرات التي تنظمها بعض الأندية لا تستقطب العدد المطلوب من السامعين لها، ولا يزيد الحضور على العشرات فقط.. بعضهم من أصدقاء المحاضر، أو أصدقاء رئيس النادي، وقليل منهم الذي جاء مهتماً بموضوع المحاضرة!!
ولا بد أن تعالج ظاهرة الخلافات في داخل النوادي الأدبية بهيمنة الرئاسة العامة لرئاسة الشباب على مسيرة ونشاط هذه الأندية بما يكفل لها أن تنتظم في تنفيذ خطة إنتاج أدبي يستفيد منه القارئ ويرغبه أيضاً!
• • •
* ماذا تقرأ؟!!
• أعود بعد ذلك إلى النقطة الهامة.. الجديرة بالحوار في هذا الطرح لأزمة القراءة والكتابة معاً.. فيكون السؤال بعد هذا هو ماذا تقرأ؟!
وحاولت أن أوقف بعثرة الأجوبة في سمعي من خلال ما تلقيته من تبرير، أو من فهم للأزمة هذه... ولكن المعاناة أكبر، ومحاولة العثور على سبيل يؤدي بنا إلى وسيلة مفيدة تصبح ثمرة القراءة للفكر، وثمرة الكتابة بالفكر، هي محاولة دونها التعب والضنى.. ذلك أنه لا أحد أصبح يقرأ، والذين يقرؤون لا يجدون المحتوى الجاذب لقراءته.. بمعنى: أن مستوى عطاء الكاتب تضاءل، أو انحرف، أو أصابه الوهن!
وقبل سنوات قال لي الأستاذ "يس طه" وهو قارئ هضم وجيد الاستخلاص وعاشق للكلمة حتى الضنى.. وهو كاتب مشرق الديباجة، وسيم العبارة، ولكنه أغمد قلمه من سنوات ليرتاح فشعر بالتعب أكثر.. ذلك أن الكاتب العاشق لحرفه لا يقدر على هجر ذلك الحرف.. لكن "يس طه" يضاعف عشقه للحرف بمزيد من القراءة!
وكانت الأزمة عندما قلت له: ماذا تقرأ؟!
ـ وقال: لا تصدق، ولكنها حقيقة.. أنني عدت إلى الكتب القديمة التي أحتفظ بها في مكتبتي، وبدأت أعيد قراءتها. عندما أقرأ فإنني أستغرق.. أخرج بعيداً عن هذا الزمن وأدخل في أزمنة قديمة.. أجد فيها راحة النفس، وهدهدة الروح.. فإن أغلب ما يكتب اليوم متوتر، أو حاقد أو منحرف.. أو أنه مندرج في حمى السياسة والتحزب لفريق معين، أو أنه يطفح بالمادة المغرقة لحس الإنسان وروحه.
• قلت: هل أسألك إن عن الذي يشغل ذهنك وأنت تقرأ؟!
ـ قال ضاحكاً: أنني أفكر كثيراً.. لكن صدقني أن اختلاط الأفكار يجعلني لا أعرف في ماذا أفكر!
• قلت: هذه فلسفة؟!
ـ قال: أبداً.. تأمل معي في هذا الكثير من الكتب والمجلات والصحف التي تجدها معلقة على واجهة المكتبات.. ما الذي تحتويه من جديد يغذي الفكر، أو يعيد المستوى الذي كان عليه الفكر العربي؟!
إنَّ المكتبات لم تعد تهتم بجلب الجديد من الكتب، أصبحت نظرتها مادية.. أكسب لصاحب المكتبة أن يبيع كراساً وقلم رصاص، وقلم حبر ودواة والكتب المدرسية التي ارتفعت أثمانها بثلاثة أضعاف!
قلت: إننا نقرأ في الصحف العربية الأخبار عن الكتب الجديدة التي صدرت ولا نراها في مكتباتنا، وهذه مشكلة قديمة لا ندري مَنْ يحلها لنا(!!) ومن الضروري أن تعالجها وزارة الإعلام مع أصحاب المكتبات.
ـ قال: لذلك أجد في الكتب القديمة زاداً ونبعاً.. أرتوي منه كلما أحسست بجفاف النفس في زحام المادة، فليست هناك كتب جديدة بمضمون الفكر الحقيقي.. أبداً!
• قلت: تذكرني بما كتبه الدكتور "حسين مؤنس" يوم كان رئيساً لتحرير مجلة الهلال.. فقد قال: (عندما أقارن بين الزاد الثقافي الضخم الذي كان عند جيل الأدباء والمفكرين في الثلاثينات والأربعينات يتملكني عجب، وفكّر معي مثلاً في الثقافة الواسعة التي كانت عند رجال مثل: طه حسين والعقاد والمازني.. أن التربة الثقافية شبه معدومة ولا تثمر إلا أعواداً من حشائش شيطانية، وقد لاحظت أن الكثيرين ممن يعرضون الكتب أو القضايا الفكرية الغربية في صحفنا لا يحسنون فهم ما يقرؤون، ويتصدون في ذلك للكتابة عن هذا الذي يقرؤونه)!!
ـ قال السيد يس طه: نعم: إنني معه.. فحتى الآن لم ينجب العالم العربي مثل طه حسين أو العقاد أو المازني.. إنك حين كنت تقرأ لهؤلاء تحس بالطعم.. يسري ما تقرؤه في عروقك كالحياة.. كالدم.. عندما أقرأ العقاد أحس بعقلي، وعندما أقرأ لطه حسين أرتاح كأنني أسمع نغماً!
• قلت له: نحتاج إلى عودة للثلاثينات والأربعينات، حيث كان هناك أدباء ومفكرون ومبدعون!
ـ قال: المشكلة هي في المضمون.. في مستوى ما يُكتب الآن، ومَنْ الذي يكتب، وما الذي يكتبه؟.. ولكننا لا نجد المستوى الجيد، ولا نجد المضمون المغذي للفكر والروح.. ويبدو أن الضمائر انشغلت وانحرف البعض منها، والنفوس اختلفت وشطت بها الغرائز والماديات إلى بعيد!
• • •
• ثم تراخت الأسئلة لتستقر من جديد في قاع الذهن.
إنَّ الحوار عن هذه الأزمة هو مطلب التوعية، ومطلب الارتفاع بالمعرفة واحترام عطائها، ولا بد لنا من رؤية جديدة نحرك بها الفعل الذي يثمر مضموناً هادفاً وخيراً معطاء لشباب هذا الجيل في زحام حيرته بين تيار وآخر!
ولا بد أن يجد المثقفون أنفسهم من خلال المحتوى الذي يقدمونه للارتفاع بنسبة القارئ المدرك والباحث عن المعرفة.. فالذين اقتحموا ميدان الكتابة أصبحوا كما قال الأديب الكبير الراحل "محمد عمر توفيق" يرحمه الله: كالغثاء!!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :851  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 466 من 545
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج