شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عبد الرزاق سلطان بين ((ويليام ستريت)) و((عالية مكة)) (1)
نقابل الناس في هذه الحياة... نجلس إليهم، نحادثهم، نحبهم أو ننفر منهم، ولكن قلة من الناس من تظل ذاكرتنا تشع دوماً بذكراهم، وتستمتع نفوسنا باستعادة اللحظات المضيئة التي عشناها معهم، بل الغريب في الأمر أن صفوة من هذه القلة تستطيع مداركنا أن تحدد لحظة لقائنا بهم ويدخل في هذا المكان والزمان وما يحيط بهما من صور وتداعيات.
في شتاء 1979م، وصلت إلى مدينة ((أدنبرة)) العاصمة السياسية لمقاطعة اسكتلندا بالمملكة المتحدة، الشتاء يكون قارساً كما يقولون في بريطانيا ولكنه في ((اسكتلندا)) أشد قسوة، لم أكن أعرف أن الرياح تقتلع الأشجار بهذه القوة بل إنها قادرة بما أودع الخالق فيها من قوة أن تعصف بالإنسان فتمنعه من دخول داره، أو تشتط في قوّتها فتذهب به بعيداً عنه.
في يوم من أيام أدنبرة التي يختلط فيها الهدوء بالظلام، وتمطر فيها السماء حتى تتصور أن المدينة غرقت في بحر من الماء، كنت أجلس مع الزميل الدكتور ((عدنان محمد وزان)) أتناول كوباً من الشاي ((لم أكن أعرف بعد قهوة الإنجليز السوداء أو تلك التي يمزجونها بالحليب الطازج، الذي تجد قارورته على عتبة دارك مع كل صباح)).
كان كل شيء يبدو غريباً أمام ناظري... وفجأة يقف على رأسنا شاب نحيل الجسم، يضع نظارة على عينيه... ويرتدي الخفيف من الملابس، لا بد أن هذا الشاب قد تعود هذا الجو فأصبح لا يعبأ به فملابسه ونظراته وضحكته المجلجلة كلها كانت تقودني إلى الاعتقاد بأن هذا الشاب قد أمضى وقتاً ليس بالقصير في هذه المدينة النائية، عرفني الدكتور الوزان ((قائلاً: هذا ((الأخ عبد الرزاق سلطان)) كان برفقته شاب آخر هو الدكتور الطبيب عبد الرحمن مكاوي، كانا يسيران ولا ينقطعان عن الضحك، هذه سمة من سمات ساداتنا من أهل البلد الحرام البشر يعلو دوماً وجوههم ولكأن أرواحهم قد تعودت الصفاء والأنس فلا تعرف منغصات الحياة وكدوراتها وبعض الناس يعزو ذلك إلى أسباب مقنعة ليس الآن مجال للحديث عنها.
لقد استقر في ذهني الاسم الأخير لهذا الشاب المستبشر، الضاحك، وانصرف صديقي ((عدنان)) إلى أهله وأبنائه، وانصرفت إلى حيث أقيم في مكان يضم طلاباً من مختلف البلدان جاءوا لتعلم اللغة الإنجليزية، كنت أشعر بوحشة غريبة فلا لغة القوم أجيدها، ولا تقاليدهم لي بها سابق تعود ومعرفة، وبينما كنت أرجع بذاكرتي إلى أيام وليال قضيتها في الشامية والمسفلة، والنقا فإذا بتليفون المجمع الطلابي يرن، ودعيت لأرد على المكالمة، كنت أظن أن المكالمة من الوطن فأنا في اشتياق إليه، ولكن المتكلم كان من وسط هذه المدينة التي لا يعادل جمالها الطبيعي شيء آخر ولكنه جمال بدون روح وهذا ما كان يضعني في موقع الحيرة والتردد في الحكم عليه، كان المتكلم من ((ويليام ستريت)) (William Street) هو ذلك الصوت الممتلىء حباً ونشاطاً يدعوني لأزوره في عطلة الأسبوع، ويوم قصدت داره وجدت صديق عمره ورفيق دربه، الدكتور ((علي قربان))، وعندما ذكرت للأخ ((السلطان)) أنني صديق للدكتور أمين كشميري، والمهندس أحمد عرفة والأستاذ محمد نور تركستاني، ضحك كعادته وقال لي بلهجة ((مكية محببة)) ((من فين تعرف يا واد)) هؤلاء الناس، فبعضهم صديق لي، والآخر زميل في جامعة الرياض، وكنت أدين للأساتذة الكرام في جامعة أم القرى، رشدي أورقنجي، وأمين كشميري، وناصر عثمان الصالح بتشجيعي على الدراسة في الخارج إبان مرحلة العمل في كلية التربية كمعيد، ورأيت ((عبد الرزاق)) يذرف دمعة حب على أستاذه ((رشدي)) وذرفت دمعة مثلها على أخوة وأصدقاء لي بين الشامية وأجياد، والنقا والمسفلة، ثم عاد بعدها ((عبد الرزاق)) يداعبني بأحاديثه المحببة إلى النفس.
ولم تكن دار عبد الرزاق وحدها التي قصدتها في المدينة التي لا أعلم كيف زهد فيه ((السلطان)) بعد ذلك العمر الطويل الذي قضاه فيها، ولكن دوراً أخرى لعدنان وزان، وعبد الرحمن المطرودي، ومرزوق بن تنباك، ومحمد الطاسان، وعبد الرحيم علي، وعثمان، والطيب الفاتح قريب الله، وطأتها قدماي ولقيت فيها من كرم الضيافة الشيء الكثير.
ويوم أسس نادي الطلاب السعوديين في بداية الثمانينات الميلادية في بريطانيا كانت دار ((السلطان)) في مدينة ((أدنبره)) مقراً لانطلاقة ذلك النادي المتوثب، يعرف ذلك الأصدقاء الأعزاء: مرزوق بن تنباك، وعبد الرحمن المطرودي، وعبد الله المعطاني وعدنان وزان، ومحمد الجبر، وعوض القوزي وأحمد الزيلعي وغيرهم.
كانت قدرته على العمل المنظم دافعاً لأن يقف ذلك النادي على قدميه وكان الصديق المطرودي بعلاقاته المتعددة في بلادنا الكريمة يدعم النادي بوسائل متعددة جعلت ذلك الحلم الذي كان يداعب خيال الطلاب في المملكة المتحدة يتجسد على أرض الواقع،وكان ابن المدينة البار الصديق مرزوق بن تنباك ذا أخلاق كريمة ونفس صافية صفاء بادية ((حرب)) التي انطلق منها مكافحاً في سبيل طلب العلم والمعرفة.
لقد عدت بالذاكرة إلى الوراء عندما رأيت ذلك العمل الأكاديمي المتفرد الذي أخرجه صديقنا الدكتور السلطان عن خطر المخدرات والذي أطلق عليه اسماً استقاه من تخصصه الأصلي - الكيمياء الحيوية - وهو ((الحشيش والماريوانا واقع وخيال، الخصائص الكيمائية الحيوية والتأثيرات الدوائية والنفسية)) وقدم له معالي وزير الصحة الأستاذ فيصل الحجيلان، وكان من وفاء ((عبد الرزاق)) أن يهدي عمله العظيم هذا إلى عمه حبيب سلطان.
لعل الأيام تعود - يوماً - يا صديقي ونقف سوية على مشارف قلعة أدنبرة في ((برنسيز سترت)) كما وقفنا عليها صباح يوم مشرق، ولعل الأقدار تجمعنا يوماً فنذهب لنرى الأمواج الهادئة على شاطىء المدينة التي أحببتها ((مور كامب)) حيث كنت أقيم، ولعلك تعتب عليّ لأنني لم أرك دهراً ولكنني سوف أقابلك بإذن الله في ((عالية)) مكة، لأهمس في أذنك بحكاية العمر، وقسوة الحياة على قلب يحن لأحبابه - دوماً - ولكنه لا يستطيع أن يتجاوز الشوق والحنين إلى ما سواهما، تحية لك مني أيها العالم المتواضع الذي خدم بلده وأمته وجامعته وأحبابه وما زال وفياً معهم كوفائه السابق وذلك المعدن النقي الذي ينضح بكل جميل.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :838  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 466 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج