شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
وعاد الفتى إلى خيمته بعد طول انتظار!!
اتخذ موقعاً له بجانب (خيمة المختار)، بعد أن استيقظ من نومه مبكراً ساعات قليلة التي استغرقها نومه في تلك الساحة المكشوفة من (الخيمة)، لم يكن هناك حاجز يقوم بينه وبين السماء من فوقه، وبينما كان يحبو في ضياء النجوم الذي يخترق ذلك الفضاء الشاسع أتاه صوت صغيرته متسائلاً، أي شيء هذا الذي يبدو في الأعلى؟؟
وأجابها في صوته (غصة) إنها النجوم (يا بنيتي): علم أن الإجابة لم تقطع طالما المعرفة الطفولية - عندها - فهي التي أرادت لها الأقدار أن تولد في مرحلة الأنفاق والكباري والمباني الإسمنتية، أما هو فلقد عرف السماء في طفولته، في ذلك المنزل (العتيق) والمطل على مجرى سيل أبي (جيدة)، كان يحمل فراش نومه بين يديه أو على رأسه ثم تختار له والدته مكان نومه بين أخوته في سطح المنزل ليستيقظ على ذلك الصوت المتميز القادم من (قباء) إنه صوت الآلة البسيطة التي تنزح الماء من البئر والذي ينساب في (قنطرة) كل بستان من البساتين، ويتذكر كيف أن نبتة (النعناع) المدني، تنمو على أطراف تلك الجداول التي تسقى بالماء الصافي المتدفق من (فوهة) البئر، كان في كل منزل بئر، وفي كل حي عين، وكان قبل ذلك كله في كل قلب رحمة وعطف وحنان، وعندما نضبت النفوس، وتصحرت الأعماق، حبست الأرض دموعها وكأنها تقول للإنسان الذي يسير على الثرى تباً لما أصاب نفسك من شح، واعترى قلبك من قسوة، وما منيت به ذاتك من أنانية فأضحى الوحش في الغابة أقرب للإنسانية وأخلاقياتها من ذلك الإنسان الذي خلق ليعمر الأرض بهذه الفضائل.
هبط إلى أسفل (الدوار)، وجد القوم عند قارعة الطريق يتحدثون ويبتسمون،وكانت ابتساماتهم تدل على الرضا بما كتب الله لهم من يسير العيش وقليل الزاد. أشار إليهم أحدهم، ومازحه قائلاً: أيمكنك (يا حاج) أن تحضر لنا قرعة (موناضة) أي - شراب البرتقال المصنع؟؟ لم يكمل الرجل الخفيف الظل عبارته حتى أسرع الفتي إلى صاحب الحانوت دفع له القليل من الدراهم، أتى بالقرعة، وسكب لهم من عصير البرتقال الذي لا يحتاج لبرودة (الثلاجة)، فلقد كان (هتان) السماء كفيلاً ببث الرطوبة والبرودة في كل شيء بدءاً من عريشة (العنب) ومروراً بسنابل الحب، وانتهاء بالكلأ الذي ترعاه الدواب حول خيام القرية والدوار:
رأى الصفاء في وجوه القوم، ولمس الصدق في كلماتهم، وكأن أحاسيسهم تجسدت أمامه طيفاً جميلاً أو ملكاً رحيماً ونظر أحدهم في وجهه ملياً، ثم سأله، هل أنت من يريد إقامة (الزردة) - طعام الصدقة - في خيمة المختار ظهر هذا اليوم، وأومأ الفتى برأسه إيجاباً، توقف الرجل قليلاً، وكان الفتى يرقبه وفي نفسه كثير من الشوق وبعض من الفضول، وقليل من الحيرة والتردد، ثم تابع شيخ (الجماعة) حديثه بعد أن تناول رشفة من كأس (العصير) المبلل بندى السماء الرحيمة على أولئك القوم البسطاء، جاءت كلماته ممزوجة بالدمع ومغسولة بالحزن، أتعلم (يا حاج) منذ أن دفن (المختار) لم تشهد الخيمة (زردة)، لقد أودعناه الثرى وصبيته صغار يبكون وبكى الدوار بأجمعه معهم، هناك في تلك (الربوة) حثوناً التراب، وبللنا الثرى بالماء، ثم أضأنا الشموع في المقام،وتركناه - وحيداً ، بعد أن كان ملء السمع والبصر، لم نعد نقترب من (الخيمة)، فلقد غاب عنها (مولاها)، لم يصح للقارىء صوت، ولا للمنشد صدى، ولا (للدف) رجع،ولا: للأصوات الخاشعة ترديد.
أمسك الرجل الوديع ببقية من أعواد عريشة العنب، وغرزه في باطن السحيق، ثم رفع بصره، كان الدمع يبلل لحيته البيضاء والكثة، وقال: لقد شاهدت في منامي أناساً في الخيمة يغسلون كل شيء ينظفون كل إناء، ويزينون جدار الخيمة ويزيلون بأياديهم الناصعة والمضيئة ما اتسخ منها.
إنها بشارة لك (يا حاج) فلقد منّ الله عليك بمغفرته، وتلك ذنوب الدنيا التي تتسخ بها أرواحنا وتكاد في كثير من الأوقات تطمس بصائرنا، وانقضى المشهد وتفرق الصحاب، وصعد الفتى (الترعة) ليصل إلى الخيمة، وبين القوم وفي وقت القيلولة شاهد الفتى محدثه، في ذلك الصباح، أراد له أن يدخل مع القوم، ولكنه أشار له بالامتناع وهمس: (لم أصبح بعد مهيأ للجلوس مع القوم!!).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :644  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 344 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

محمد عبد الصمد فدا

[سابق عصره: 2007]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج