شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أشواق الروح إلى رفيق الدرب ((عبد المحسن حليت))
عرفك الناس - يا صديقي - شاعراً يغرف من بحر ولا ينحت من صخر، وعرفوك ناثراً تكتب الحرف بهياً ومضيئاً وصادقاً وتجيد ائتلاف عباراته كما تجيد صوغ القوافي وعرفوك خطيباً توجز القول ولا تطيله، وتخلط الجد بالطرفة كأنني أسمع (ويلسون) يبهر سامعيه، ويجبر أنصاره وخصومه على الإنصات إليه.
وأتذكر ويلسون يوم كتم نبأ اعتزاله من أرقى المناصب وأرفعها كتمه عن أقرب الناس إليه، وتجمع الناس ليسألوه وهو يمسك بـ (غليونه) الشهير، فقال عبارته الشهيرة والمدوية: (إنه سن الستين)، وكان يومها في عام 1976م قد بلغ من العمر فقط 59 عاماً ولكنه آثر أن يخلي الساحة لحساده لمناوئيه وهو في قمة العطاء في الذروة من الشهرة.
ولكن - الرفاق - وإنني لا أستعمل كلمة كهذه بمدلولها الحزبي - فلقد دفنت الكلمة مع منظّريها - إن الرفاق في الساحة الأدبية لم يتلمسوا في شخصك صفات وشمائل - لا يعرفها إلا الذين عايشوك عن قرب. وخالطوك عن ود، ولست - هنا - بالساعي إلى شيء من الترويج فالكل يعرف أنك تكره الأضواء وتخشى على عينيك من شدتها، ولكنك لا تعذل بعض من يبحثون عنها أو يجدون في طلبها، وأنت بهذا تعذر الناس ولا تقسو عليهم إن هم اختاروا درباً غير دربك، ومن الدروب ما هو سهل عبوره، أو المشي فيه، ومنه ما هو صعب لا يقدر عليه إلا أولئك الذين حباهم الله من صدق العزيمة وقوة الإرادة وثبات المبدأ الكثير فكانوا بهذه الخطوة كالصوى التي تنير الحياة حتى وإن كانت الشمس ساطعة في مدارها والقمر مضيئاً في أبراجه.
لقد غادر الجسم مني سيح العنبرية، و(تحسينية) قباء، ورستمية الحارة، والمناخة الفسيحة والمزدانة بعمائم العز وأصوات النشامى، وكم تغنى الشعراء بها، فالركاب التي يحدوها الشوق إلى سيد الوجود - عليه صلوات الله وسلامه - تحط بين جيران يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم - خصاصة - ويكرمون النزيل طمعاً في فعل الجميل وأنهم ليبحثون عن ذلك كله في منعطفات الحياة المتخمة بالأثرة وحب الذات، وغفلة النفس الأمارة بالسوء.
لقد رحلت يا عزيزي من ديار الحب والأنس قبل ما يقرب من ثلاثة عقود ولا أريد هنا أن أضع صديق الجميع الأستاذ علي حسون في مأزق، ولا يسرني أن أشاهد ابن (اليمن) والمظلوم محمود دياب متفرجاً عليه وهو يداري من مسافة العمر ما يداري وإنني لأقلكم زاداً في الحياة من الحكمة والدهاء والقدرة على كتم ما تنطوي عليه النفس من عواطف وشجن.
لقد رحلت والحنين لا يزال يشدني وإنني لأعلم أن المكان قد انمحى والزمن قد أسرع في حركته ولم يبق من ذلك كله إلا ذكريات هي الثمالة من زمن البراءة والحب والوفاء.
نعم لقد رحلت وكانت المسافة بين (حوش سيد أحمد) حيث نشأت، حيث ضحكت وبكيت، حيث أسرعت الخطى وشوق في النفس تؤججه حوادث الدهر وتقلباته حيث رأيت الماء ينحدر قوياً من قربان وعبر (أبي جيدة) وبالغاً (السيح) الذي قال فيه الشاعر سعد الدين برادة متشوقاً من أرض الشام إلى طيبة الطيبة:
لذلك السيح ساحت عبرتي
وغدت تسقي النقا ولكم سالت ببطحان
كانت المسافة بين دارنا وداركم في حوش (متاع) قصيرة وربما طويلة بمقاييس ذلك الزمن الجميل ولكن شعرت من اليوم الأول في صداقتنا أن المنبع الذي شربنا منه كان متشابهاً إلى حد بعيد، وأن ما غرسه الآباء في نفوسنا كان كغرس النخيل في قباء والعوالي والعيون فأضحى لنا صبر (النخيل) على هجير الحياة، وقدرتها على تحمل ألم (النبل) أو (النبيلة) كما نقول في لهجة ديار الغزل والشعر، (فألقنوا) يا (أبا حليت) يجود بالرطب الطعم المذاق حتى وإن أصيب في مقتل، ولكن ما أحسن الجني منه بدعة ورفق وحنان.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :629  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 342 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الكاملة للأديب الأستاذ عزيز ضياء

[الجزء الخامس - حياتي مع الجوع والحب والحرب: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج