شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
طيبة وذكريات الأحبة
سيرة أمة وأحاديث رجال
في مؤلفاته التي اختار لها اسماً مغرياً وهو (طيبة وذكريات الأحبة) يأخذك أحمد مرشد من خلال أحاديث رجال البلد الطاهر والتي تجسدت فيها العفوية والبساطة، يأخذك إلى أزقة المدينة، وأسواقها المتميزة التي كانت تتناثر بين المناخة، وسوق الحبابة، وباب المصري، وسويقة، وباب الجمعة، وباب المجيدي، وزقاق الطيار، والعنبرية، وقباء.
وتطرح على نفسك السؤال: ألم يكن الأوائل أكثر حرصاً منها عندما يطلقون على المكان اسماً معيناً؟ إن حرصهم يبرز في المواءمة بين المكان وما يمثله في الأذهان، ولهذا فإننا قد ننسى أسماء جديدة وتبقى الذاكرة مضيئة ومتوقدة بالأسماء القديمة نتمنى أن نقبض عليه بأيدينا لأنه يعيدنا إلى أيام حياتنا الأولى حيث ((الفطرة)) التي لم تفسدها تعقيدات ((التكنولوجيا)) المعاصرة، حيث ترابط الناس ليس كأسرة فقط، بل كأسرة صغيرة كبيرة تضم جميع أفراد الحي الواحد، وتمتد إلى بقية الأحياء.
أعود مع كتاب الصديق ((المرشد)) إلى الطفولة حيث الأرض التي درجت عليها صبياً، واستنشقت ذرات هوائها فامتلأت به رئتاي حباً للحياة والناس معاً، أتذكر ذلك الرجل الذي يطرق الباب مع الصباح الباكر، طبعاً الطفولة في ذلك الوقت تجعلني أقفز قفزاً!! اليوم يا صديقي نسير الهوينا، ونلتفت يمنة ويسرة، افتح الباب هذا رجل من آل الحيدري الذين كانوا يسكنون حوش مناع، لا أتذكر اسمه، والدي - رحمه الله - كان يخاطبه بأبي صالح يسألني الرجل النحيل جسماً، المربوع قامة هل والدك بخير؟ نعم، هل خرج هذا الصباح؟ بالتأكيد لقد ذهب إلى السوق كعادته، تعود للرجل ابتسامته، لقد قلقت عليه إنه يمر علينا في السوق كل صباح إلا أنني افتقدته هذا اليوم، يعود والدي في الظهيرة، أتهيب الحديث معه، ولكنني أحاول الاقتراب منه لأخبره بأن صديقاً له جاء سائلاً عنه، يهز رأسه جزاه الله خيراً، أمر كهذا كان في الماضي شيئاً عادياً، ولكنه اليوم يبدو غريباً، والأكثر غرابة أننا نسينا في غمرة الحياة أن نسجل مثل هذه السلوكيات الرفيعة التي لا نبالغ إذا ما قلنا إن المسلمين يتفردون بمثل هذا السلوك الإنساني الرفيع.
كان حوش عميرة هادئاً إلا من أصوات الأطفال الذين يلعبون في برحته التي كانت تقوم فيها الحسينيات، والكردي، والباز، والحلواني، والشيخ مطلق، وآل العامودي، وآل بشير، وآل السيسي، وآل الشيخ. ولكن الحوش كان في ذلك اليوم يبدو على غير عادته، جموع غفيرة من الناس تؤمه من كل مكان. حملني فضول الطفولة على سؤال الوالدة حفظها الله عن سر هذا التغيير، أرادت أن تصرفني عن السؤال، ولكنني حاولت معها مراراً: ((يا ابني عمك بكر رزق يعاني من مرض أصابه، وهؤلاء أصدقاؤه جاءوا لزيارته)) أعرف دكان العم بكر في السوق بجانب دكان حسين البرق رحمهما الله، وربما لمحت في الدكان الصغير المخصص للراحة رجلاً آخر يجلس معه وأظنه ((سعيد عزوني)) كان الرجلان لا يفترقان، ويوم انتهت رحلة واحد منهما في هذه الحياة، لم تمض مدة طويلة حتى لحق به الآخر.
وأعود لنفسي لأحدثها: ما أعظم أولئك القوم! المريض يزورونه، لمحتاج يحسنون إليه دون أن يمسوا مشاعره، والكبير يتأدبون معه، والصغير يعطفون عليه، المرأة يكرمون مقامها شهامة ورجولة.. هذا الصباح قمت على صوت حركة غريبة في إحدى الدور المجاورة لنا، وهو بيت السادة آل الزهدي، لا يفصل بيننا وبينه سوى بيت المرحوم ناجي أفندي الذي كان موظفاً في مركز الشرطة بالمدينة ((الخالدية))، وكان الشاب ((خالد زهدي)) صاحب وجه مستبشر، وصوت شجي، قلت منذ زمن ليس غريباً أن يولد الناس شعراء في بلد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وأضيف اليوم ليس غريباً أن تكون المدينة موطناً للأصوات الندية، فالأذان عندما يرتفع من المنارة الرئيسية بالمسجد النبوي يتجاوب معه الناس في كل منعطف وحي من أحياء البلدة الطاهرة، كنت أسمع ((خالد)) يدعو والدي باسم ((يا خال)) فهناك قرابة وصلة رحم لعلّها جاءت عن طريق المرحوم الشيخ ((حسن بن عبد الله بن مرشد)).
خرج ((خالد)) الذي كان في ميعة الصبا وعنفوان الشباب، منتدباً لخارج المدينة، ثم مات فجأة، جاؤوا به إلى مسقط رأسه، شيعته الحارة، بكته النساء في خدورهن، ظل الحزن قابعاً في حوش ((عميرة)) و ((حوش سيد أحمد)) لأمد، لقد كان وحيد ((أمه)) وفريداً في أخلاقه بين أهل الحي، ولم يعد المذياع يردد أنشودته المعروفة:
الدنيا حلوة وجميلة والمدة ما هي طويلة
كثير من أصحاب الأصوات الشجية ماتوا في مقتبل العمر أذكر منهم، عقيل توفيق، محمود نعمان، السيد حسين بن إدريس هاشم، وهذا الأخير الذي ترجم له الزميل المرشد ولأسرته الكريمة التي كانت تقطن حارة الساحة، سمعته ذات ليلة يحدث صديقيه الشيخ فضل الرحمن أطال الله في عمره ومصطفى الحموي رحمه الله يحدثهما وهو واقف على عتبة دار المرحوم محمود كظلي قائلاً: أعترف أنه يؤدي مقام الحجاز أفضل مني، وما زلت إلى اليوم أتمنى أن أعرف من ذلك المنشد الذي كان يتقن هذا المقام، مع أن أبا طلال وطريف فاق كثيراً من معاصريه في المدينة في حسن الأداء، ولكنه كان يعترف للريس عبد الستار بخاري بالريادة فهو الوحيد من كبار المؤذنين والمقرئين والمنشدين الذي ظل صوته ندياً لآخر حياته، وكان الريس يحب الحياة كثيراً، ويحب إنشاد الشعر، وروى الكثير لي من أشعار سعد الدين براده، ومحمد العمري، وأنور عشقي.. ذات يوم كان صوته ينطلق من المكبرية لصلاة الظهر وكان المسجد خالياً لأن الوقت لم يكن وقت حج أو زيارة، رأيت الشيخ عارف براده في الصفوف الأولى وهو يشير بسبابته إزاء المكبرية عندما انقضت الصلاة، وقفت بالقرب من سلم ذلك المقام، سألت الريس: هل شاهدت الشيخ عارف وهو يشير إليك؟ هز رأسه وابتسم، ثم أردف: كان المقام يماني السيكة وهو مقام صعب لا يجيده إلا العارفون بهذا الفن الصوتي. وكان البرادة رحمه الله عارفاً كبقية جيله بالصوت ومخارجه فعبر لي عن سروره بحسن الأداء، ويوم ذهبت إلى مكة كان المرحوم الشيخ عبد الله بصنوي يجيد أداء يماني السيكة، ويكاني الرصد، واليوم يعتبر السيد الفاضل عباس المالكي مرجعاً في ذلك كله، وليت المريدين يأخذون عنه ما يمكن أن يدخل في باب ((النادر)) في هذا العلم الذي له أصوله، وضوابطه، كبقية العلوم الأخرى في هذه الحياة.
أعود إلى كتاب الزميل المرشد الذي لم يتميز فقط بتلك الصورة النادرة التي ضمنها بين دفتيه، وتلك الوثائق الهامة لمن أراد أن يبحث في تاريخ الحياة الاجتماعية والثقافية، والفكرية لبلد المصطفى . ولكنه تضمن توثيقاً لبعض الحوادث الاجتماعية التي شهدتها المدينة، كسفر برلك الذي يتحمل فخري باشا فيه مسؤولية نزوح عدد كبير من أهالي المدينة المنورة أثناء الحرب العالمية الأولى وما تعرضوا له من ضنك وشقاء، حتى أن أسراً كثيرة من أهالي المدينة ظلت إلى اليوم تسكن الشام، أو مصر، أو تركيا، لأن من خرج من آبائهم وأجدادهم في تلك الحقبة لم يستطع العودة، ولعلّ قصيدة الشيخ محمد العمري المتوفى سنة 1365هـ - 1945م، والتي يصور فيها حال المدينة بعد اضطرار أهلها تحت تأثير الأحداث المؤلمة للنزوح منها يصور ذلك تصويراً شعرياً بالغاً، هي الشاهد الحي على ما خلفه حادث النزوح من مآس وفتن، يقول العمري:
دار الهدى خف منك الأهل والسكن
واستفرغت جهدها في ربعك المحن
عفا المصلى، إلى سلع، إلى جشم
والحرتان، ومرأى أرضها الحسن
أقوى العقيق، إلى الجما، إلى أحد
إلى قباء التي يحيا بها الشجن
منازل شب فيها الدين واكتملت
آياته، فاستعارت نورها المدن
كما تضمن الكتاب دخول الهاتف إلى المدينة في أثناء الحرب العالمية الأولى، في الموض الذي يعرف اليوم في طريق العيون بالترسيس محطة اللاسلكي، ولقد أخبرني شخصياً الشيخ جعفر بن إبراهيم فقيه رحمه الله أن الاتصال الخارجي عن طريق الهاتف لم يكن موجوداً آنذاك في العالمين الإسلامي والعربي، وكان هناك خطان دوليان أحدهما بين ألمانيا وتركيا، والآخر بين تركيا والمدينة.
لقد كانت الدولة العثمانية الإسلامية تعتبر المدينة منطقة عسكرية، إلا أن هذه الخصوصية العسكرية أضرت بالمدينة وأهلها، ولذا فإن مأساة (سفر برلك) ما هي إلا نتيجة لهذا الأمر الذي كانت تحاول الدولة العثمانية آنذاك الحرص من خلاله على الحرمين الشريفين لأهميتهما في العالمين الإسلامي والعربي، في الوقت الذي كانت تعاني فيه الدولة من مخططات التتريك السيئة، كما أنها حاولت أحياناً إرضاء الغرب الذي كان يتربص بالعالم الإسلامي وهو ما ظهر في معاهدة سايكس بيكو المعروفة التي تقاسم العالم الأوروبي من خلالها أراضي الدولة الإسلامية.
ذكر المؤلف أن الوفد المكوّن من المشائخ: ذياب ناصر، عبد العزيز الخريجي، السيد عبيد مدني، أبو بكر الداغستاني، إضافة إلى الوالد حمدان علي - رحمه الله - ذهب إلى الطائف سنة 1344هـ للسلام على الملك عبد العزيز آل سعود - رحمه الله - بينما حقيقة التاريخ الذي ذكره لي الوالد كان في الخمسينيات الهجرية، وذلك عندما كان الشيخ ابن إبراهيم رحمه الله وكيلاً لأمير المدينة المنورة حيث ذكر لي الوالد: إن الشيخ الداغستاني اعتذر في البداية لظروف أسرته، فتكفل الشيخ ابن إبراهيم بالأسرة في أثناء فترة غيابه مع الوفد، ولعلّ وفداً آخر خرج من المدينة في مناسبة أخرى كانت في الأربعينيات الهجرية.
تحدث الأستاذ المرشد عند ترجمته للشيخ الكريم إبراهيم حسوبه - رحمه الله - عن إنشاء سكة حديد الحجاز، ومشاركة الشيخ الحسوبه في أعمال البناء ولقد عرفت من الوالد أن الشيخ محمود أبو عنق - رحمه الله - والذي عمر طويلاً عمل في المحطة مع شخص آخر من أهل المدينة وهو الشيخ علي رنقا الذي انتقل إلى جوار ربه قبل سنين قليلة ولعلّه كان آخر الشاهدين على إنشاء المحطة والمسجد الحجري الذي ما زال قائماً إلى اليوم عند مدخل المدينة. ولقد كانت البداية لانطلاق هذا المشروع سنة 1317هـ - 1900م، وتم الانتهاء منه سنة 1326هـ - 1908م (انظر: بحث د. خالد حمود السعدون في مجلة الدارة، السنة الرابعة عشرة، العدد الثاني، 1409هـ - 1988م).
إن جهد الأستاذ أحمد أمين مرشد في كتابه الذي اختار له اسماً يلائم مادته (طيبة وذكريات الأحبة) في أجزائه الثلاثة يعتبر جهداً مميزاً بين الجهود العديدة الموفقة التي تحاول رصد تاريخنا الاجتماعي الحافل بكل الصور المشرقة والمضيئة في آن.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1026  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 306 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج