شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
قراءة نقدية في بيان حمزة شحاتة الشعري (10)
يبدو أن ((شحاتة)) في المقدمة التي كتبها لمؤلف الأستاذ الساسي ((الشعراء الثلاثة)) كان معنياً بنقد الحركة الأدبية الحديثة في بلادنا نقداً موضوعياً فلقد تفتحت عيناه على هذه الحياة وقد سبقها إليه جيل أو جيلان كما أنه عاصر عدداً كبيراً من الأدباء والشعراء الذين ينتمون إلى هذا الجيل أو تلك الأجيال، وهذه المعاصرة منحته الفرصة الكافية لينفتح - في بداية حياته - على مجايليه، ويخالطهم بما هيأ له دواعي معرفة ما يدور في الساحة الأدبية، ولا بد أن شيئاً منها لم يرق لشاعرنا ونظرته إلى دور المثقف والأديب والشاعر في الحياة، ولهذا تجده يشير إلى شيء من هذا بقوله ((وهذا - أي مصطلح أدب التقديم)) - ولا أكتم القارىء، مزاح ثقيل الوطأة على مزاجي وعقلي، أو هو امتحان عنيف لطبيعتي بما لا تواتيني عليه، فما يسهل علي أن أنزل منزلة المعلن، أو قارع الجرس، أو السمسار يروج السلعة بالباطل أو بما يدخل تحته من صور الحق والجد المصنوعة الجاهزة للطلب)) (1) .
ثم ينتقل الناقد ((شحاتة)) ليعرّف دور الناقد - من وجهة نظره - مثبتاً له ما يليق به ونافياً عنه ما لا يليق: ((والمقدم - وهو هنا. إذا كان القارىء لا يعلم - وسيط بين الشاعر وقرائه فأول ما ينبغي أن يتصف به أمانة الوسطاء في دفع أسباب الخداع، والتضليل، ووضوح البراءة منهما، ويشهد القارىء الجاد أني فعلتها بما قلت وإن كنت لم أفتح الباب على مصراعيه، اعتماداً على فطنة الناس وزكانتهم)).
لقد كان ((شحاتة)) في فهمه لوظيفة النقد ودوره التوجيهي الخالص من أسباب المجاملة ودواعي الخداع والتضليل ينطلق من الفهم والوعي نفسه الذي ينطلق منه الأستاذ الكبير د. ((محمد مندور)) الذي تحدد هذه العبارات التالية رؤيته للنقد الذي يفترض أن تكون له موازينه الدقيقة، ومعاييره الموضوعية البعيدة عن أسلوبي السباب والإعلان.
يقول الأستاذ د. ((مندور)) - رحمه الله -: ((وسار الزمن سيرته فلم نعد نرى ((موازين)) حتى أصبح النقد، إما سباباً أو إعلاناً، فهذا يريد أن يحطم ((الأصنام)) والجمهرة العظمى لا هم لها إلا أن ترضي هذا أو ذاك بالإعلان عن كتبه إعلاناً متنكراً في صيغة النقد الأدبي وأكبر الظن أن معظم هؤلاء النقاد المحترفين لا يقرأون ما يكتبون عنه فيما عدا العنوان وبعض الصفحات)) (2) .
ولا نعلم إذا كان د. ((مندور)) عنى بمحطم الأصنام اثنين من كبار النقاد الذين سبقوه، وهما الأستاذ ((عباس محمود العقاد)) والدكتور ((طه حسين)) الذي تتلمذ عليه د. مندور ثم دبّ الخلاف بينهما، وقد كان ذلك نتيجة لصراع الأجيال الناشئة في ميادين الأدب جميعها، والنقد يدخل في إطار هذه المنظومة، بل ويشكل أهم قواعدها.
يرفض (شحاتة) أن يكون قارع جرس، أو حامل طبلة، أو سمساراً، فهل كان (شحاتة) يوجه عباراته إلى أقلام لم تحسن صناعة الشعر والنقد؟ وخصوصاً أن (شحاتة) رفض أن يكون من بين الأدباء والشعراء الذين ضم كتاب (وحي الصحراء) شيئاً من إنتاجهم وتضاربت الأقوال حول هذا الرفض، ولكننا لا نريد أن ندخل في قضية لا نملك إزاءها الدليل والبرهان.
يقول ((شحاتة)) في توضيح ملامح المنهج النقدي الذي يؤمن به، ولا يرضى بالحيدة عنه: ((ولقائل أن يقول: ولكن الناس يعرفون، أو هذا المفروض فيهم، فما ضرورة تنبيههم إلى المساوىء؟ أو يجهلون فما حكمة أن تفتح عيونهم على ما يسوء ويغثي؟
في أن الإنسان الطبيعي إنما يستهدف حتى من تحمل الخير الخالص نفعاً لنفسه، ولو جاء هذا النفع من باب اللذة والارتياح، وإذن، فلا أقل لمن يقدم مجموعة من الشعر كهذه من أن يدفع التهمة عن رأيه، وفطنته، وبصره، وإلا كان قارع جرس، أو حامل طبلة، أو سمساراً، وما أحسب أن الجامع يبطن الرضاء لي بهذه المنزلة، وعلى أعين القراء، وأسماعهم، وفي هذا المقام الذي لم يحملني على التعرض لأذاه المؤكد إلا هو ومن استعان بهم علي... نعم إنه لكذلك وإلا كان شر ما في الدنيا صداقة جامعي الشعر، وحاشدي الشعراء.
لقد كان ((حمزة)) يشد قارئه عن طريق طرح الأسئلة، ثم محاولة الإجابة عنها حتى يتخلص من تبعات ما قد يوجد من مثالب في المجموعة الشعرية التي قدم لها، وترى بين السطور محاولة (شحاتة) المستميتة في ألا تهتز صورته في أعين القراء كناقد، وهم الذين عرفوه شاعراً متميزاً، وخطيباً مفوهاً، وشخصية تؤمن بالقوة والتفرد في كل شيء، والتي نجد آثار إيمانه بها، في هذه الجزئية التي ضمنها محاضرته الشهيرة ((وفي هذا الشأن يقول ((شحاتة)):
والآن إلى القوة.
فرصة الحياة شائعة يأخذ كل فرد في الجماعة بنصيبه منها.
هذا يطارد الغزال، وهذا يمكن له.
هذا يصيد أكثر لأنه أكثر قوة وحيلة.
وهذا لا يصيد لأنه أقل قوة وحيلة.
لا يصيد كثيراً إلا القوي.
هذان طفلان يموتان في مطلع حياتهما بسبب ظاهر أو خفي.
وهذا طفل يعيش.
هذا قوي يسقط من شجرة فيموت.
وهذا قوي تطبق عليه صخرة فيموت.
هذا قوي يصارع الرجال فيغلبهم ((قوي)).
هذا قوي يصرع الأسود ويصطادها ((أقوى)).
هذه مقارنة ثم: ((خوف، حسد، تسليم، بطولة، زعامة)).
هكذا آمن الإنسان بالقوة، وبمظاهر اقتدارها.
وهكذا آمن بالحظ والزعامة... والبطولة.
وهكذا قارن واستنتج (3) .
يذكر الأستاذ الشاعر صالح باخطمة الذي لازم الشاعر في أخريات حياته بمصر أن (شحاتة) كان معجباً بالزعامات العالمية القوية. كما يذكر الأستاذ أحمد عائل فقيهي أنه طرح سؤالاً على الأستاذ عزيز ضياء رحمه الله عند إلقائه محاضرة في نادي جازان الأدبي عن شخصية ((شحاتة))، إذا ما كان ((شحاتة)) مؤمناً بفلسفة القوة عند المفكرين الألمان، فأجاب الأستاذ عزيز بالإيجاب.
ولكن، ما هي البواعث التي جعلت ((شحاتة)) يعتنق فلسفة كهذه إن صح ذلك؟ هل تكوينه الجسماني المتميز الذي يصفه الأستاذ ((عزيز ضياء)) بقوله ((وسمعت الشيخ صالح باخطمة، يهمس ((انظر... هذا الشاب... أبو نضارة))، وأشار بأصبعه، فرأيت شاباً فارع القامة، وثيق البنيان، عالي الجبهة، أسمر اللون))؟ انظر (في أدبنا قمة عرفت ولم تكتشف) (4) .
هل ذلك التكوين المتميز الذي وهبه الله لهذا الإنسان حتى إن الناس في الماضي كانت تشرئب منها الأنظار بصورة خاصة إلى هذا الفتى الناشىء عندما كان يسير في حواري ((جدة)) كما ذكره لي الشيخ يوسف شكري - رحمه الله - الذي توفي قبل حوالي عامين بعد أن تجاوز المائة، وكان يعرف عن ((جدة)) ورجالاتها الشيء الكثير مما كان يجعلني أولي حديثه الكثير من الاهتمام عندما كنت أزوره بحانوته المعروف في سوق الندى.
هل هذا التكوين مع ما عرف عن حمزة من نبوغ مبكر، وإجادة لفنون الأدب المعروفة في زمانه إجادة تامة؟ إضافة إلى ما كان يملكه من مزايا ومواهب أخرى، ثم ارتطام ذلك بجدارة الحياة وواقعها المغاير لما دأب ((حمزة)) إلى التطلع إليه أو نشدانه وهو ما عبر عنه الأستاذ محمد حسين زيدان في هذه العبارة الموجزة: ((لقد كان حمزة، كما قال الرافعي في الأمير شكيب إرسلان. لو لم يكن شاعراً مجيداً، لكان كاتباً مجيداً، ولكن القصور وفقدان الحظوة جعلا من حمزة غير ما يستحق)).
هل هذا كله، مع تعمق حمزة في قراءة الفلسفة وتمكنه من إجادة فن المنطق الذي كان يسعى للتمكن من وسائله وأدواته العلماء والأدباء على حد سواء في الحقبة الماضية، يفسر اعتناق ((شحاتة)) لمفهوم القوة واعتزازه بهذا المفهوم، وإشاراته المتعددة إليه فيما يكتبه من شعر ونثر؟ ولقد أشار الأستاذ المرحوم ((أحمد قنديل)) إلى شيء من هذا في مرثيته الفريدة في صديقه ((شحاتة) التي توضح كذلك غربة المثقف بين بني قومه وسواهم.
يقول الأستاذ القنديل راثياً، ومصوراً، ومبدعاً:
أخي... يا رفيق الدّرب والعمر والمنى
ودنيا فنون الشعر والفكر والحبّ
أتسمعني... طبعاً... فأنت بجانبي
حياة... بها عشنا للحياة... على الدّرب
غريبين في الدنيا... تباعد أهلها
تباعاً... ولما ينأى جنبك عن جنبي
نطوف بأكوان العوالم... حسرة
ونأوي لركن ساحر الشدّ والجذب
نقضي سواد الليل للصّبح... نجتلي
أمانينا موصولة البعد... والقرب
على الرمل كم نصغي لسقراط... والأولى
أقاموا صروح الفكر... بالشرق... بالغرب
على الصخر... كم نبني من الشعر جنة
نفتّت بعض الصخر بالألسن الذرب
على البحر... كم نمشي مع الموج ساكناً
وفي الصدر موج هادر النبض والوثب
نريد لأهلينا الحياة... طليقة
فيسخر أهلونا، ونأسف للجدب
 
طباعة

تعليق

 القراءات :584  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 274 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.