شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
قراءة نقدية في بيان حمزة شحاتة الشعري (4)
لقد كان (حمزة شحاتة) من عمق الثقافة، واتساع الأفق، والقدرة على التعبير عما يعتمل في داخله من البحث عن السبل التي ترتقي بالحركة الشعرية في الجزيرة العربية، بحيث تمكن من تشخيص ما تعانيه القصيدة من اضطراب وخلل. وهو يرى أن هذا الاضطراب أو ذاك الخلل سببه الاهتمام ببعض المظاهر الخارجية التي لا تستطيع أن تُحدث الأثر الوجداني على المتلقي للإبداع الشعري.
وهذا الخلل سببه عدم التمكن من الأدوات الفنية، وهذا يعود إلى ضعف الموهبة التي هي الأساس في كل فن تنهض به الذات الإنسانية، أو إلى عدم القدرة على فهم حركة التجديد التي تحتاجها القصيدة العربية بالوصف والتعبير عن الإحساس الداخلي بمظاهر الحياة الحديثة بعيداً عن رص الكلمات، ونظم العبارات التي تكتفي بالشكل الخارجي للأشياء فيما تقع عليه العين الإنسانية.
(شحاتة) الذي يرى أنه يجب أن تتوافر للأثر الشعري مقومات الجمال الحقيقية التي يفتقر إليها أي أثر إبداعي خارج دائرة الكلمة الشعرية، يقول: ((ولنذهب أبعد من هذا المذهب فتصور جمالاً توازنت فيه معنويات الروح المعبرة المنطلقة، على مقاييس جمال الجسد، وحسن شارته، ولكنه فقد جمال الاتساق في التصرف، وبراعة الحركة في المشي، والالتفات، والإيماء، والاستجابة، أو فقد لبوس النشاط المستمد من حذق القدرة وترفها في الإدراك والفطنة واللمح والحنكة والدربة المكتملة في استخدام المفاتن، أو استخدام ما تدور عليه من انسجام الزينة والملبس! أفلا يكون بهذه ((العنجهية)) جمالاً يستثير العطف والرحمة والإشفاق أو ربما استثار السخرية، لما طرأ على جملة أسلوبه من النقص والاضطراب والمفارقة بسبب فقدان هذه العوامل التي هي أسلوب أو تكميل له؟ فالأسلوب في هذه الحالة، هو فن القدرة على استخدام المظاهر وتطويعها للتعبير عما ترمز إليه تعبيراً تنهض به الفتنة ويستقيم التأثير)) (1) .
إن العبارة الأخيرة الخاصة بالأسلوب هي محصلة ذلك النقاش الفلسفي الذي استخدم فيه فلسفة الجمال، وما يتصل بها من براعة وحركة والتفات وإيماء واستجابة، وهذه العبارة الأخيرة التي حدد بها مهمة الأسلوب أو دوره الفعال تذكرنا بمقولة الأستاذ العقاد الذي انتقد الصورة الشكلية القديمة، ووضح مفهوم الصورة التي يقوم عليها الأسلوب من منطق تجديدي خالص أخذت به (مدرسة الديوان) الذي كان العقاد مع زميليه (عبد الرحمن شكري) و(إبراهيم المازني) تصدوا من خلالها لنقد الشاعر الكبير أحمد شوقي ومجايليه: ((وإنما هي قدرة الشاعر التي تصرفنا عن ظواهر المحسوسات إلى واقع الموصوفات في النفس والخاطر لأن شعوره يصدر من داخل - نفسه - وخاطره، ويمتلىء به وعيه، ولا يصدر عن تلفيقات الظواهر والأشكال)) (2) .
ولقد شارك العقاد في الحملة على المنهج البلاغي كل من طه حسين وميخائيل نعيمة، وإن كانت مشاربهم شتى كما يذكر ذلك الباحث حسين الواد (3) .
وإذا كنا نبحث عن تفسير لاستفاضة (حمزة شحاتة) المتشعبة عن (الأسلوب) وضربه الأمثلة المتعددة من الحياة أو الفنون الأخرى حتى يصل إلى النتيجة المبتغاة بعد كد للذهن لا يقوى عليه إلا العظماء من ذوي الإبداع في كل فن، فإننا لن نعثر على ما نتطلع إليه إلا عند رفيق مسيرته الأديب والناقد الكبير الأستاذ ((عزيز ضياء)) - رحمه الله - يقول عزيز مفصلاً هذا المنحى المهم في حياة ((شحاتة)) من مختلف وجوهها: ((إن خصيصة حمزة التي تبدو خليقة من خلائق العبقرية النادرة، هي القدرة على إتقان ما يولع بإتقانه، بحيث لم يكن يرضى قط إلا بأقصى مراتب التفوق فيما يعن له أن يعنى بمعرفته ودرسه، كان لا يكتفي بمجرد الإلمام، على قاعدة الأخذ من كل فن بطرف، وإنما الذي يجهد نفسه فيه، هو استغراق واستيعاب كل ما يستهدفه من عناصر تكوينه مادة وجوده، ولا يقف ما كان يولع به عند الشِّعر، أو النثر أو الفلسفة، أو علوم اللغة العربية، وتاريخها، وأدبها القديم والحديث أو ما يتصل بكل ذلك من المعارف وألوان الثقافة وأغذية الفكر، فحسب بل ينسحب هذا الحرص على التفوق، والاتقان حتى على أسباب اللهو)) (4) .
هذا ما حاول من خلاله الأستاذ (عزيز) أن يكشف ولع ((شحاتة)) بإتقان كل ما يتوجه إليه أو يتعشقه في هذه الحياة، وهو مظهر من مظاهر عبقريته النادرة. وإذا كان المرحوم (عزيز) قد عبر عن ذلك بأسلوبه النثري المتمكن فإن الشاعر الكبير السيد (محمد حسن فقي) - شفاه الله - استطاع من خلال مرثيته الشهيرة في صديقه ((شحاتة)) أن يرسم لنا صورة صادقة ومؤثرة عن هذا النمط الفريد من الرواد في تاريخنا الفكري والأدبي المعاصر:
يقول السيد (الفقي) راثياً ومنشداً ومصوراً:
يا صاحب الفكر الحصيف تجسدت
فيه الرؤى، ونعمن في أغواره
ألقى إليك الروض كل زهوره
رغباً، وألقى الحقل كل ثماره
ورنا الغني إليك في أطلاسه
ورنا الفقير إليك في أطماره
يجدون فيك الألمعي مناضلاً
دنياه... منطوياً على أوتاره
قد لازم الدار العتيقة واحتوى
من كان... أو ما كان... خارج داره
فإذا بها، والكون في جنباتها
بسعوده، ونحوسه، ومداره
وإذا به يجلو الدّجى بيمينه
فنرى الحقيقة جهرة... ويساره
بعض الفرار من الثبات، وربما
نال المجاهد أجره بفراره
إن الذي خلق الحياة حفيلة
بالشر، أنقذنا ببعض خياره
أكاد أجزم بأن هذه الأبيات الأخيرة التي ختم بها الرائد (الفقي) رائعته لا تقل في جودتها ومداها الشعري العميق عن شوارد المتنبي وأبي العلاء وشوقي.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :683  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 268 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.