شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
قراءة نقدية في بيان حمزة شحاتة الشعري (5)
إن من يقرأ هذه المقدمة التي كتبها شحاتة قبل حوالي نصف قرن من الزمن (1370هـ)، لكتاب (شعراء الحجاز في العصر الحديث) لا بد أن يقرأ فيها نتاج عقل مثقف، وشخصية موسوعية، وأديب متعدد المواهب والتي انصقلت إلى موهبة على نمط عجيب من التفرد والنصوصية والعمق. ولقد دافع الأستاذ الناقد السيد إبراهيم هاشم فيلالي عن هذه المقدمة في كتابه المعروف (المرصاد)، وكان الأستاذ الفيلالي، مع رصيفه الأستاذ الكبير عبد الله عبد الجبار من أوائل من عنوا بالنقد وطرقه ومناهجه عن وعي وأصالة في بلادنا. يقول الناقد الفيلالي في حديثه عن هذه المقدمة: ((والواقع الذي لا شك فيه أن القارىء الحصيف، الدقيق النظر، يشعر عند قراءتها أن كاتبها توخّى الدقة فيما كتب. وكان يعني ما يقول بكل كلمة سطرها، وليس العيب إذن في المقدمة بل في الذهن المعوج، والفهم السقيم (1) .
يضع الأستاذ الفيلالي، بما يملكه من حس مرهف، يده على أهم موضوع نقدي ناقشته هذه المقدمة، وهو الأسلوب فيقول: ((اقرأ معي رأي الكاتب في أهمية ((الأسلوب)) للشعر، ثم احكم - وحدك - له، أو عليه، وخبّرني، أهو كلام إنشائي منمق، أم هو رأي قيم لكل كلمة فيه دلالتها وفحواها ومعناها الخاص؟)) (2) .
إن ولع ((شحاتة)) بالجمال في الأسلوب نابع من مقومات شخصيته فهو فنان قدير. وقد ذكر لي الأستاذ المربي عبد الرحمن كابلي (نقلاً عن الفنان الدكتور هاشم هاشم من رجالات حي الشامية) أن حمزة كان يجيد العزف على أكثر من آلة موسيقية، بينما ذكر لي الأستاذ السيد علي حسين عامر - رحمه الله - الشاعر والأديب المعروف، أن شاعرنا كان يجيد العزف فقط، على آلة العود، عزف هواية ذاتية لا احتراف فيها وهو في هذا يشبه المرحوم الفنان الكبير سعيد شاولي، الذي كان أيضاً فناناً في صنعته (التصوير)، وكان إذا جلس بجانب المرحوم حمزة قزاز، صاحب الصوت الشجي، فإنه ما يلفت نظرك، تلك الأناقة المتوائمة مع مما ينبعث من صوت ((حمزة)) من شجن، وما ينبعث من بين أنامل ((سعيد)) من نغم أصيل ورائع.
وقد أشار الأستاذ الكبير عزيز ضياء رحمه الله، إلى هذه الناحية المهمة في شخصية شحاتة - أي الجمال - فذكر في بحثه الذي يظل أفضل ما دُوّن عن ((حمزة)) لمعرفة أبي ضياء الشخصية معرفة دقيقة لعوامل عدة لعل من بينها وشائج صلة الرحم التي تربط عائلتيهما. ذكر الأستاذ عزيز الجمال غير المتصنّع في هندام (حمزة) وحديثه. فقال: ((ولا بد أن أذكر في هذه اللحظات إعجابي البالغ بالمثال الذي بدا - لي - رائعاً للأناقة في هندام حمزة وملابسه. كان له ذلك المظهر السري الذي يذكرك بإحساسه ببواعث الشباب ونوازعه، وما يستتبعانه من تعلق بالترف، وحرص على التأنق، في إطار من صرامة الرجولة، ودفقة عنفوانها، واعتزاز بالشخصية وإحساس بالوزن الفكير تُحلق به مشاعر النبل وليس التنبُّل، والرفعة وليس الترفُّع، وصدق العاطفة فيما يفضي به عن ذات نفسه، وخلوصها وليس افتعالهما أو التظاهر بهما)) (3) .
كان ((شحاتة)) من الذكاء بحيث تجده في السطور التالية يتحدث عن الصلة بين الشاعر والفنان ودور الجمال في كل منهما، لأنه الوسيلة المثلى لإحداث التأثير المطلوب عند المتلقي وما يترتب على ذلك من الارتقاء بالنفس الإنسانية والتحليق بها في عوالم الطهر والصفاء والحب الإنساني. لقد كان (شحاتة) يتحدث عن شخصية الشاعر والفنان التي نُسجت خيوطها على نحو بديع في ذاته المُحلقة في هذه الأجواء جميعها، يقول هذا الفنان والمبدع: ((فإن كان الشعر فناً، والشاعر فناناً، أو كانا صناعة وصانعاً، فالحقيقة لا تختلف وهي أن الشعر موضوعه وغايته الجمال والتأثير في كل مدخل ومخرج من مداخله ومخارجه، وإلا كان كل كلام يُغني عن الشعر، وكل مبين عما يحس ويتخيل ويبتغي يُغني عن الشاعر)). (4)
نستطيع أن نلحظ تأثير الغناء والإنشاد في شخصية (حمزة) من خلال قوله: ((والتأثير في كل مدخل ومخرج من مداخله ومخارجه)). فالمداخل والمخارج مصطلح يعرفه من أجادوا مخارج الأصوات اعتماداً على الذبذبات التي تحملها. فالمنشد المجيد لفنه هو من إذا بدأ مثلاً بـ ((نغم)) (الرصد) وانتقل منه إلى (الجاركة) أو (الحجاز)، فإن المحط عنده يجب أن يكون من مقام الرصد أيضاً، والمحط هو ما عناه شاعرنا بالمخرج.
وإذا كان (شحاتة) قد فضل القول في الأسلوب وجماله والتأثير أو الإيحاء من خلال هذا الجمال، فإن هذا التوجه له دلالته المهمة، وهو معرفة (حمزة) بما كانت تصطخب به ساحة الأدب والإبداع في العالم العربي بمناحي التجديد في القصيدة العربية على أسس قوية، ومفاهيم محددة بعيداً عن المصطلحات الغربية والغامضة، وكان تأثير هذه المناحي قوياً على القصيدة العربية وتطورها الطبيعي، فنحن مثلاً، نجد كاتباً كبيراً، مثل الدكتور زكي نجيب محمود يخص قضية الأسلوب بكثير من التحليل والتفسير متخذاً (العقاد) وأسلوبه محوراً لهذه القضية النقدية الهامة، ولك على ضوء ما ذكرنا أن تقرأ أدباءنا أصحاب الأساليب لترى هل تستطيع حقاً أن تبين الرجل في أسلوبه؟ ها هو ذا (العقاد) الإنسان، وهذه في كتابته، فأفرض أنك لم تقابل العقاد، ولم تتحدث إليه ولم تعلم من أمر حياته الشخصية قليلاً ولا كثيراً، فماذا تراك مستدلاً من كتابته عن حقيقته وطبيعته؟ لا تتصنع القول ولا تفتعله، بل كوّن أحكامك لنفسك - وهذه نصيحة أسوقها لك عابرة في حياتك الأدبية كلها - فماذا ترى؟ أليست هي كتابة فيها الجد والصرامة، وهكذا (العقاد) الإنسان فهو رجل يسير على الجادة المستقيمة لا يسهل إغراؤه لينحرف هنا أو هناك، أليست هي كتابة لم يرد صاحبها أن يُسري عن القارىء همومه، وأن يستجلب لعينيه النعاس، بل أراد أن ينبهه ويطرد عنه النوم؟ وهكذا ((العقاد)) الإنسان، إنه لا يتزلف القارىء ولا يمالئه، ولا يكتب له ما يسليه، بل هو يتحداه وهو يعلمه، وهو يوقظه وهو يقلقه ويؤرقه، ثم ألست تشعر من كتابته أنها كتابة رجل عزوف صلب عنيد؟، وهكذا العقاد الإنسان)) (5) .
الكاتب والمفكر زكي نجيب محمود قد كان ربط بين الكاتب العقاد وصفاته الشخصية من قوة وجد صرامة، وبين أسلوبه الذي يوقظ العقل وينبهه، بحيث يمكنك التعرف على أسلوب العقاد إذا كنت من قرائه أو عشاق أدبه حتى ولو كان ما بين يديك من نتاج فكره وأدبه لا يحمل اسمه، بل هو يحمل روح الكاتب التي تسري في كل عبارة، أو جملة، أو كلمة - ولعل هذه الروح الأدبية هي التي جعلت الأستاذ الكبير محمد حسين زيدان - وكان من عشاق أدب شحاتة - يتعرف على (شحاتة) من خلال جرس الكلمة التي اتسم بها أسلوبه الخاص والمتميز... يقول ((الزيدان)) في هذا الشأن: ((وتحدثت، طويلاً في بيت الأفندي نصيف، فأغرقني جرسك في حب العاشقين لك حتى إذا قرأت لك مقالاً موقعاً بحرف ((قاف)) في جريدة ((صوت الحجاز))، وأنا في ((رانجون)) ألقيت الجريدة من يدي، وقلت لصاحبي، بعد أن رفعت صوتي أتذوق جرسك فيما تكتب أقول لصاحبي، إن ((قاف)) هو ((حمزة شحاتة))، ورجعت إلى المدينة، وسألت لأصدق معرفتي لك، فإذا أنت كاتب المقال، لم يكن هذا عن ذكاء. وإنما كان عن زكاء كبر به)) (6) .
ومن رائعة (القنديل) في رثاء صديقه حمزة شحاتة نختار هذه الأبيات:
أخي يا رفيق الدّرب... والعمر... والمنى
ودنيا فنون الشّعر... والفكر... والحبّ
أخيراً... على كرّ الزمان وفرّه
وفي غفلة قادتك طوعاً وفي غصْب
لقد عدّت ((للمعلاة)) نعشاً... وجثة
فوارتك في صمت المقابر والركب
جنيناً يبطن الغيب عاد... كما أتى
من الأمس ذكرى لن تضيع مع الغيب
وسفراً بأذهان الرجال سطوره
مبعثرة حول الرفوف بلا كتب
وهبت لهم دنياك كنزاً من الحجى
فواروك دوني بين هول وفي رعب
سألقاك روحاً... أو أحاذيك جثة
تنام بساح الأرض غالية الترب
متى جاء ميعادي فكلّ لحينه
وما الموت إلا السلم أو هدنة الحرب
 
طباعة

تعليق

 القراءات :676  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 269 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج