شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ذكريات من باب العنبرية (1)
ينقل الفتى خطاه في شيء من الحنين والشوق من المدرج في العنبرية، هذه دكة الترجمان والتي كان الناس يقصدون هذا المكان لأمرين كان لهما دلالتهما الاجتماعية في تلك الحقبة الماضية من تاريخ البلدة الطاهرة. ففي الدكة كان يقوم كُتَّاب المعلمة زينب مغربل - رحمها الله - وكثير من سيدات المجتمع المدني اللاتي تعلمن القراءة والكتابة وعلوماً أخرى يرجعن الفضل في تلقي العلم قبل أن تكون هناك مدارس نظامية لتعليم المرأة إلى المعلمة - المغربلية -. وشعرت بشيء من الحزن لأن هذه الرائدة توفيت قبل سنوات قليلة بعد وفاة زوجها الذي كان يدعونه في المدينة بـ(الباشا) لأناقته، دون أن ينوه بدورها التربوي وريادتها العلمية واحدة ممن عرفنها وتلقين العلم عنها.
لقد كان العم طه مغربل صهراً، ولهذا عرف الفتى كتاب المرأة التي ظلت وفية له إلى أن بلغ من العمر ما يقرب من مائة عام. وكان الفتى يصطحب أخته الكبرى من المدرج في (السيح) ومن دارهم المطلة على مجرى سيل (أبي جيدة) إلى الكتّاب. وكان يلفت نظر الفتى ذلك البناء المميز والمقابل لـ(دكة الترجمان)، ويتوسط هذا البناء مسجد صغير يدعى بمسجد سيدنا بلال - رضي الله عنه - ويحيط بالبناء فناء تظلله شجرة من أشجار السدر التي كانت تظلل شوارع البلدة الطاهرة وأسواقها، ثم اختفى السدر واختفت معه النخلة، وتلاشت ملامح كانت تميز عاصمة الإسلام الأولى، وتلاشى معها ماض جميل قضاه جيلنا، أي جيل تعني يا رفيق العمر؟ وأي ماض ترسخ في أعماق النفس طيبه وشذاه وكيف تتطلع لأن أقتلع من النفس حباً تمكن!! أو أن أمحو من الذاكرة مشاهد انطبعت أو قل إن شئت ترسخت في الأعماق السحيقة أو البعيدة من هذا الذي يسمونه شعوراً؟ وهي تسمية تحاول الاقتراب من تلك المنابع الأولى للتكوين العقلي والنفسي ولكنها تعجز عن الإحاطة بها فالمعنى يحاول الانفلات من لفظ التعريف هذا، واللفظ يحاول اللحاق ويظل ما هو مجهول في هذا الكون أكثر مما هو معروف. وكثيراً ما عبر اللفظ عن قصور معرفة هذا الإنسان؟ إن لم يكن جهله الذي يحاول إخفاءه أو التعمية عليه. وأن شيئاً من هذا الجهل يقود البعض أحياناً إلى تكبّر وصلف شديدين يجنيان عليه وربما أبعداه عن الطريق السوي.
أعود إلى الأمر الذي كان من سمات (الدكة) والتي تعد من مشاهد حي (العنبرية) مثل (التكية المصرية) و(القشلة) ومحطة سكة حديد الحجاز ومقر الجامعة الإسلامية القديمة التي كان ينوي السلطان عبد الحميد إنشاءها، ثم تحول مكانها مقراً لثانوية طيبة. هذا الأمر هو وجود ما كان يعرف بـ(الحمّام) الذي يقصده الزوار عند قدومهم إلى المدينة وإقامتهم فيها زائرين ومسلّمين ومتأدبين.
لم يكن حمّام (ذروان) أو حمّام (الدكة) الذي يعمل فيه رجل صالح يسكن بالقرب من المنزل الذي نشأ فيه الفتى حيث زقاق السيد أحمد، لم يكن القوم الذين يقصدون هذه الحمامات من الزائرين فقط، فلقد كان يستمتع بالماء الدافىء فيها والذي يستخدم فيه البخار استخداماً طبيعياً في تسخين الماء الذي ينسكب من منابع متعددة تثبت أنابيبها على الجدار المصنوع من الحجر والطوب ومادة الجير أو ما يسمى - النورة -. لقد كان يستمتع به الأهالي، فالمرأة تقصده بعد أربعين يوماً من ولادة الطفل، والرجل يصطحب معه أقرب الناس إليه ويذهب للاغتسال في الحمام ليلة عرسه.
يا ماء كان ينساب قوياً في المسيال، يا قطرات ندية كانت تتساقط على الأجساد في (البرحة) وما بين المصلى والمحراب، يا نفساً كانت تحلم بفجر تسطع فيه الشمس البهية بين الحصوة وباب السلام، يا أذناً تعودت على صوت ندي وخاشع يرتفع بالقرب من القبة والمقام. يا أحباباً اختفت منهم الوجوه في زحمة الحياة. يا نفوساً طاهرة وبريئة جنت عليها قسوة وغلظة طاغيتين، وبدد آمالها جفوة ما كنا نحسبها أنها ستضحي لغة من نصبوا أنفسهم حماة للرأي الواحد المتسلط، وقواماً على الفكر الذي تجرد كلياً من عاطفة الإنسان. إنه التيه الذي دخلت فيه أمة كان الحب هو نبضها الذي به تعيش!! والتعايش والوئام والقبول بالآخر هو الذي أعطاها قوة الصمود والتحدي على مر التاريخ، وجاء من يسلبها عنوة هذا الحب الذي كانت به تعيش وعليه تتغذى، وعلى نسماته تنتعش وتنمو.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :777  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 127 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج