شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هُتَافٌ منْ باب السَّلام؟ (2)
لم يكن يا بني يُغري أباك في صِبَاهُ ما كان يُغري أنداده من لهْوٍ بريء، كان يَرَى شباب الحي يؤْمُون بالمقْلاع، وينْقُرُون بأصابعهم على الأواني الحديدية الفارغة، ويرفعُون أصواتَهم بـ ((الزُّومان))، ثم يحركون أرجلهم في الأرض - وكانت لم تعرف بعد التَّمهيد والتَّشييد - بل كان الغبار تتطاير ذرَّاته أمام الأنظار ومن فوق الرؤوس - حتى إذا ما لامست الأقدام هذه الأرض ازداد تطاير وتصاعد تلك الذرات حتى ينشأ من ذلك كله هالة تشبه السَّحاب، فلا يكاد الإنسان يرى صديقه أو يتبين ملامحه، وسمعهم في ((السَّيْح)) ((وحوش عَميرة)) ((وحوش منَّاع))، وزقاق ((سيد أحمد)) يتغنون باسم شاب اسمه ((علي البدوي))، ولقد كان التغني - يا بني - يتصل بشجاعته وقدرته على القشاع بكلتا يديه، وطوحت الأيام بـ ((يَعْسُوب)) ((المناخة)) ثم عاد وقد فقد شيئاً من نظره، ويوم عاد كنت يا بني قد شددت الرحل إلى ((مكة)) ووجدتهم في ((الشِّعب)) و((المسفلة)) يسألونني عنه، فأروي لهم ما أسمعه عنه، وجئت المدينة - زائراً - وكان - اليوم - يوم جمعة، استجمعت شجاعتي وهمست في أذن أحدهم: كيف حال علي؟ خفض رأسه وأغمض عينيه وقال لي بشيء من الأسى والحزن: يعطيك - عمره - لقد حملناه قبل أيام وواريناه الثرى، وأردف يقول عندما خرج من الدنيا - كان - نقياً وصافياً، وتذكرت - يا بني - صديقي - معاذ - وكيف أن قناديل الحب والرحمة أشعلت في الليلة التي ارتفعت الروح منه إلى عالم الملكوت، لقد كانت الليلة - يا صغيري - ليلة جمعة. وكان الوقت وقت سحر، وتذكرت حديثه لي في ((فرْش، الحجر))، وفي ((دكة الأغوات))، وفي ((الحصوة الحمراء))، كان يتنهد والدمع ينسكب من أجفانه ثم يتمتم قائلاً: سوف يكرمني الله بحسن الختام.
لقد طُويت مراحل حياة أبيك في مرحلة واحدة، هي مرحلة الصرامة في كل شيء، وكثيراً ما كان يحس بقسوة الحياة وهو يطوي الدرب بين السيح وحارة الأغوات أو بين الشامية والهجلة، أو بين النقا والدحلة في الشعب، لقد كانت خطواته تُسرعُ به حتى ليحس أنه في سباق مع الزمن، وكان قلبه يخفق بحب الحياة، ولكن الطريق طالت به، والدروب تشعبت أمامه فما أدرك شيئاً مما كان يخفق له القلب وأدرك أن هذه المضغة منه لم تخلق لشيء من هذه المتعة.
ولعلّك سائل نفسك - يوماً - هذا السؤال، لماذا اتشحت حياة أبيك بهذه الغلالة من الحزن؟ وما وراء هذا الأنين، وذلك التنهد، وتلك العبرات؟ ولماذا لم يطب العيش له كما طاب لرصفائه؟ وكيف اختفت الأقمار من سماء حياته، ليشع نورها في مواضع أخرى؟
سوف يضيع السؤال في صخب الحياة التي عاشها بقلب فُطر على طبيعة سوية يغلب عليها شيء يدعونه بـ ((الطَّيبة، وتتغلغل في حناياها بواعث الرحمة ودواعي الشفقة، لقد كان من الصعب عليه - يا بني - أن يرى قلباً كسيراً، أو جناحاً مهيضاً، ولكن كثيراً ما يتذكر عندما يأوي إلى فراشه كيف أن الآخرين كانوا لا يتورعون عن الإساءة إلى المشاعر في غمرة الزهو بالنفس اللوامة، والاعتداد بسراب القوة ثم يسيرون في دروب الحياة لا يبالون بما صنعوا ولا يتذكرون في تلك الغمرة، وذلك الزهو أن قوة في هذا الكون هي أشد من قوتهم، وأن هناك بأساً لن يطيقوا تحمله إذا ما نزل بهم، فاللهم أرنا رحمتك ولا ترنا عذابك وأشهدنا لطائف الصنع منك فنحن ضعاف يقودنا الهوى إلى هذا الدرك السحيق وذلك الشعور الكاذب.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :698  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 105 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.