شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أشجان الشامية (1)
لم أكن لأتصور أن يأتي يوم فأكتب سطوراً مثل هذه عن هذا الحي وأهله وشجونه فلقد تَشكل لدي ما يشبه الاعتقاد بأنَّ عيني لن تفارق مرأى هذا الحي، ما حييت أبداً. فالشامية هي الحي الذي سكنته بعد أن دفعت بي ظروف الحياة إلى البلد الأمين فعرفتُ من أهله صفوة من الرجال فيهم العلماء الذين تُردِّد جنبات البيت الحرام صدى أصواتهم في سكينة وخشوع، وفيهم القوم الذين يتحلون بأخلاق أهل العلم من هيبة ووقار، ووداعة وحب، وشجاعة في قول الحق ووفاء مع ذوي المروءة والفضل.
ولعلّ صلتي تعود بداية بهذا الحي إلى أواخر الثمانينات الهجرية. فلقد تعرفت في تلك الحقبة على وجيه من وجهائه وهو الشيخ عبد الوهاب خياط - رحمه الله - والد صديقنا الأستاذ فوزي خياط...
كان أهل مكة لا يطيب لهم المقام في كثير من المناسبات إلا في طيبة الطيبة، يأتونها زائرين بقلوب ملؤها الحب ونفوس تؤرقها الأشواق إلى رؤية مقام سيد الخلق - ولا يكاد يجاري أحد أهل البلد الحرام في حبهم لبلد الحبيب المصطفى عليه صلوات الله وسلامه. فهم يمشون فيه متأدبين وينتقلون بين أرجائه متعظين، وهم يرضون فيه بالقليل من الزاد والبسيط من المسكن. تكفيهم في رحابه ركعات يؤدونها في روضته، ووقفات صادقة أمام حضرته الشريفة. وهم مع سعة صدورهم وولعهم بالمزاح البريء، إلا أنهم في طيبة الطيبة يخفضون الصوت ويذرفون الدمع ويحضرون مجالس الخير وقد حفتهم تلك الطمأنينة التي يخص الله بها كل متأدب في مواطن قداسته وربوع هديه وكل من حفته نفحات تلك الطمأنينة، فهو في سعادة لا شقاء بعدها، ونعيم لا كدر معه، وحب تنتفي معه كل جفوة مذمومة..
كان الشيخ (الخياط) يقيم في المدينة، ونلتف حوله نسعد بأحاديثه التي كان يلقيها على مسامعنا وكنا - يومها في مطلع العمر - فإذا أحاديثه تُقرِّبنا من شخصه وتحببه إلينا. ولا شك أن الأخوين الكريمين محمد إبراهيم عبد الستار والأستاذ مالك درار، يتذكران عن هذه الشخصية مثل ما أتذكر ويحتفظان في نفوسهما بالحب لأبي مصطفى مثل ما أحتفظ بعد مرور أكثر من ربع قرن من الزمن، على لقاءاتنا في قباء، والتاجوري والمناخة.
جئتُ مكة زائراً فسألت عن طريق الشامية فقدماي لم تسلكه من قبل وصعدت درجات مرتفع لم أعرف له مثيلاً في أحياء المدينة التي تتميز أرضها بالانبساط ووقفت على درجات الباب فإذا الشيخ الجليل - رحمه الله - يرحب بي ويحتضنني بكثير من الحب الذي كان يعمر نفسه الشغوفة بالآخرين ومعرفتهم والاستئناس بهم. أتذكر سؤاله لي: هل تريد أن ترى الدكتور هاشم؟ إنه يسكن هنا بالقرب منا. كنت على عجل؛ فقضيت سحابة ذلك اليوم في دار الشيخ الكريم وأبنائه، ولم يقيض الله لي رؤية (الدكتور) وهو لقب لرجل من أهل الشامية. ولكنني رأيت الرجل بعد سنوات عدة وهو يدخل من باب جبريل في المدينة وكان قد بلغ من العمر عتيا. ويوم زرت أخي فوزي بعد استقراري في مكة رأيته يحيط صورة والده بأبيات شعرية لعلها من شعر نزار قباني. وتذكرت مقام الرجل بالمدينة وحبه للشعر والصوت الشجي، وحديثه الممتع للنفس، فذرفت دمعة صادقة عليه. وعندما حَدَّثتُ الشيخ الوالد عبد الله بصنوي يوماً عنه أجابني: ذاك رجل من خيار الناس. ولم أكن أعلم يومها أنني سوف أذرف من الدمع أغزره على أحباب عرفتهم في هذا الحي فيما بعد، وأنَّ صور القوم الذين لقيتهم في الأرض المباركة سوف تسكن أعماق نفسي ولن يكون مرور الأيام بقادر على انتزاعها من موضع استقرت فيه، وطاب مكوثها فيه.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :787  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 55 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج