شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أشجان الشامية (2)
تعينني الذاكرة - بحمد الله - على تذكر مشاهدتي الأولى لك، الزمن هو عام 1387هـ - والمكان هو شارع (العينية) المؤدي إلى الحرم النبوي الشريف، كان الناس يعتبرونه في الماضي الشارع المتفرد باستقامته بين شوارع البلدة الطاهرة، تزينه عقود نُحتت من الحجر، كما أن أرضه أدركتها في طفولتي وهي مفروشة بالحجر الذي تنبعث منه النسمات الندية عندما كان يرش بماء القرب (وهي أوعية لحفظ الماء مصنوعة من الجلد)، كان هذا الشارع يمتلئ بالناس في مواسم معينة وكان سكان البلد الحرام من أكثر الناس تردداً على بلد الرسول صلى الله عليه وسلم، كان لباسهم مميزاً وحديثهم مميزاً وكنت سمعت كبار القوم في المدينة يقولون: أهل مكة يحسنون الأدب في جوار المصطفى صلى الله عليه وسلم. كان والدي يرحمه الله يحدثني عن كبار القوم من المكيين الذي اتخذوا المدينة موطناً لهم وفي مقدمتهم: آل الوزنة، محمد سلطان، حسن موسى. وهذا الأخير كان صديقاً لوالدي. يحدثني الوالد - رحمه الله قائلاً: كان حانوته في برحة باب السلام مواجهاً للحرم النبوي. فجأة يأتيه رجل ويتمتم في أذنه بكلمات. يقول محدثي: علمت فيما بعد أنه كان له ثأر عند أحدهم فسمعنا بالواقعة في اليوم التالي، وإنما جاء لحسن موسى لمكانته ليستشيره في الأمر إياه.
بعد صلاة الظهر دخلت الدار في التحسينية، رأيت الرجل الذي شاهدته مع صديق له وهما يؤمان المسجد للصلاة فيه، وللسلام على الحبيب المصطفى عليه صلوات الله وسلامه وعلى رفيقيه رضي الله عنهما. ولكنني لم أجرؤ على دخول مجلس الرجال - هكذا علمونا في الطفولة - وإن دخلنا جلسنا في مؤخرة المجلس نسكب الشاي أو القهوة للضيوف، ولكن حذار من أن تمتد أيدينا إلى شيء من ذلك. لا نجرؤ على رفع الصوت بين الكبار، وإذا ما خاطبناهم كانت عبارة الجمع لا المفرد، هي الصيغة المفضلة التي تنبئ عن التربية الحسنة والمهذبة في آن.
وانقضى ذلك الاجتماع في تحسينية قباء، وأكرم الله الفتى بأن يذهب إلى مكة وهو متعلق بها أيما تعلق، ومعجب برجال العلم والفكر فيها أيما إعجاب. وكان (المسجد) مزدحماً بحلقات العلم علماء يجيدون فنوناً عدة من المعرفة. الواحد منهم فقيه، ومحدث، ولغوي، وأديب، ومرب روحي. فجاء وجلس في الصحن أمام الكعبة المشرفة، حيث تتنزل الرحمات، وتمحق الذنوب، وتستجاب الدعوات، لمحت عيناه رجلاً طويل القامة، خافض الرأس أدباً مع الله وشعائره لا ذلاً - لأحد من الخلق - يطوف بالبيت العتيق، وينتقل بين الحجر والمقام، إنه ذلك الرجل الذي رآه في (شارع العينية) وفي (التحسينية) منذ زمن. لم يخرج الرجل من المسجد إلا بعد أن أشرقت الشمس، لحق به الفتى حتى إذا ما استقر في مجلسه بالحي الذي يطل على المسجد الذي تشع منه الأنوار اقترب منه وسلم عليه، ولم ينكره الرجل فقد عرفه تماماً. لم يكن الفتى ليعلم أن هذا الرجل الذي كان يجلس في (مركازه) بالشامية ليقضي حوائج الناس من كل مكان، يزور مريضهم، ويواسي فقيرهم، ويسعى في قضاياهم قبل أن يسعى في قضايا نفسه، لم يكن صاحبنا ليعلم أن حياة هذا الرجل هي أسطورة لما تنطوي عليه من قيم ومثل رفيعة. فلقد أضحى يسمع قرع نعاله قبل أن يرتفع الآذان من المقام، ورآه يعود في أيام الصيف الشديد الحرارة، ويدخل داره للراحة، فإذا بالباب يُقرع، وإذا بصاحب الدار يسرع في النزول ليفتح الباب للطارق، ثم يعود أدراجه ليقضي حاجة من قرع باب داره، يقضيها ولا ترى في وجهه ما يدل على انزعاج أو قلق، همس في أذني ذات يوم، وقال: يوم طلب مني الشيخان صالح شطا وعطا إلياس - رحمهما الله - أن أكون عمدة لحي الشامية، هربت إلى جدة، عند صديقي صالح نوّار. كنت أنوي ركوب البحر خوفاً من تبعات عمل كهذا، ولكنهما أبيا فرجعت. كنت أشعر يومها أنني أستطيع أن أقابل (الحارة) بأكملها، إلا أن الشيخ ((البصنوي)) الذي أعطاه الله بسطة في العلم والجسم، استطاع أن يقود السفينة في خضم بحر متماوج وكان سلاحه في ذلك الحلم والصبر والكلمة الطيبة، لقد استحوذ على قلوب الناس في كل مكان لأنه استطاع أن يصنع (الحب) في قلوب عارفيه كباراً وصغاراً. كان غضب الرجل الأسطورة لا يتجاوز الثواني، وكان عطاؤه يصل إلى كل مكان ومع هذا فلا يشعرك بفضل ولا تسمع منه مطلقاً كلمة مَنٍّ. أتراني يا أبا محمد بمستطيع أن أنقل للآخرين صورة صادقة عن حياتك التي ختمتها (بأذان) تؤديه وأنت تتمدد في عيادة الطبيب ليكشف على قلبك الذي كان يتسع حباً لجميع الناس في البلد الطاهر؟ لقد رفعت الأذان من فوق منائر بيت الله لأكثر من نصف قرن، وكنت رجل الشامية وعمدتها، وأباً، وأخاً، وصديقاً للناس فيها لزمن طويل. ما زال الناس يتذكرون قامتك الشامخة، ووجهك الإيماني المضيء، صوتك الذي لا يرتفع إلا عندما تقف في المقام لتكبر لصلاة الجمعة والعيدين، ثم إذا أنت جلست بين الناس، كان حديثك همساً، وقولك ليناً فرحمك الله يا من يتجدد حزني عليه كلما حلت ذكراه.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :666  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 56 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.