شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة المناخة (2)
هذه أصواتهم تخترق سكون الليل في سماء البلدة الطاهرة. يجلسون فوق هذه المراكيز، وهي في الغالب كراس مستطيلة صنعت من الشريط المأخوذ من سعف النخيل. وكانت المناخة، إذا ما دنت الشمس للمغيب، تزينت مقاهيها بهذا الصنف من الكراسي الذي يخف الناس لأخذ مجلسهم منها، والعاملون في هذه المقاهي يعرفون تماماً ما يريده المترددون عليها، أقداحاً من الشاي الخفيف، بينما يفضله البعض في مدن أخرى (ثقيلاً) لا أعلم إن كان الأمر مرده إلى عادة تأصلت عند الناس أم أن طبيعة ((الجو)) هي التي تتدخل في لون الشاي ثقلاً وخفة، وما يضاف إليه من روائح زكية. أما لماذا كان الناس يختارون المناخة ليلاً للتجمع فيها؟ فهو أمر لم أتبينه، ولكن عباراتهم كانت توحي بأنه يعود إلى تلك النسمات العليلة التي كانت تنبعث من أرض توحي بأنه يعود إلى تلك النسمات العليلة التي كانت تنبعث من أرض هذا الشارع الذي كان يخترق وسط المدينة القديمة. ولعلّ وجود الأشجار بصورة لافتة للنظر كان له دوره في تلطيف الجو وخصوصاً في ليالي الصيف الشديد الحرارة والجفاف معاً، وكان بعض هذه الأشجار من الضخامة بحيث تسمح بتجمّع الناس تحتها، بعضهم يقضي سحابة نهاره في صنعة يدوية تدر عليه شيئاً من الرزق الحلال، والبعض الآخر يلذ له النوم تحت ظلالها الوارفة نهاراً بعد عنت السعي وراء العيش. وبعضهم لا يروق له النوم ليلاً إلا تحت أغْصَانها وأوراقها الكثيفة؛ وكان أكثر هذه الأشجار ضخامة ما يقوم على مدخل الحارة التي تقوم فيها أحواش (جعفر) و (خميس) و (السيد). وكثيراً ما لاحظت أن عروق هذه الأشجار الضخمة تمتد إلى أعماق سحيقة في الأرض. ولعلّ هذا ما يوحي بأن الحقبة التي زرعت فيها هذه الأشجار قديمة بعض الشيء، ولكن كتب التاريخ لا تساعدنا على معرفة بدايات هذه الأشياء المهمة في حياة المدن وإن بدا لنا أحياناً أنها بسيطة لا تحتاج إلى هذا التوقف الطويل عندها.
لم أرهم يتجمَّعونَ في المناخة كما كانوا يتجمعون في الأعياد. ولا أعلم لماذا ظل هذا المنظر عالقاً بذهني؟ لقد رأيت رجلاً يجلس مع أنداده من كبار السن يلبس ذلك (الكوت) الأبيض الذي كان يرتديه أهل المدينة فوق ثيابهم الناصعة البياض نصاعة قلوبهم الطاهرة وطهارة ألسنتهم. كان رجلاً حلو الحديث؛ إذا ما جلس أزاح عمامته من فوق رأسه وأخذ يتحدث إلى رفاقه، فإذا كلهم آذان صاغية وأحاسيس متوثبة. كان يتحدث بذلك الصوت الجهوري فإذا هو يتوقف عن الحديث فجأة.. يرفع يديه إلى السماء ثم يدعو.
لقد كان ذلك اليوم هو يوم التاسع من شهر ذي الحجة، لقد ابتلت لحيته الكثة بالدموع وبكى الجمع من حوله لبكائه، ثم مد يده إلى عمامته يضعها فوق رأسه ثم غادر تلك الصفوة من الرجال. أيام قليلة انقضت، سمعت بعدها أن ذلك الرجل قد انتقل إلى رحمة الله. هكذا انسل من بين أهله ورفاقه في دعة وهدوء.
يا رفيق القلب، حدثني عن ليل كانت تضيئه الوجوه السمحة، وعن صبح تشهد طلعته الألسنة الذاكرة - حدثني عن (العين) و (القبة) و (المزار). حدثني: أي هاتف هتف بك من مقامات الغيب فاستجيب له؟ كأنك وحدك المعني به. حدثني: من أي نبع كانت تمتح عيونكم؟ فلا يحدثكم واحد بحديث من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم إلا وتنتحبون، كأني أسمعكم وأنتم تقولون: ((ذكره يحيي النفوس)). تُرى ما الذي يُحيي نُفوساً منا ملأها حب هذه الدنيا الفانية؟ وما الذي يُوقظ أحاسيس تبلدت من داء يدعونه حب الذات؟.. إنني أتلفَّت فلا ألقاك جَالِساً؛ فأجدني جارياً صوب تلك الشجرة الخضراء التي لم يكن يسقيها أحد، ولكنها كانت تشرب من ماء القلوب الطاهرة؛ فهي دائمة الاخضرار. ولكنني ضللت الطريق ونسيت الدرب، فقدت العلامة، وضاع من بين يدي ذلك السر.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :663  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 34 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.