شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة المناخة (3)
لا أتذكر (المناخة) إلا وأتذكر هذه (العين) على مقربة من مسجد سيدنا أبي بكر الصديق، رضي الله عنه. ولعلّه كان يقوم بينها وبين المسجد الآخر الذي يطلق عليه اسم سيدنا علي بن أبي طلب - رضي الله عنه - تقوم بعض الدور التي كان يسكنها بعض من أهالي البلدة الطاهرة. وكان يلي هذه الدور أشهر المقاهي وأكثرها ازدحاماً بالناس وهي (مقهى الحادي) - وأحاول رسم ملامح المنطقة التي تجاور العين، ولربما أسعفتني الذاكرة بشيء من هذا. فهناك - أي بالقرب من العين - كانت تقوم (مقهى عبد الواحد) ووقعت عيناي على صورة تضمنها كتاب (مرآة الحرمين) لإِبراهيم رفعت باشا، فأرى موضعاً أقرب ما يكون شبهاً بالحلة التي كانت تقوم في منتصف شارع المناخة. وما تذكرت المناخة إلا وتذكرت رجالها، الشيوخ منهم منهمكين في تحصيل الرزق أو السعي وراء أسبابه والشباب منهم يقبلون على الحياة في توثب وطموح. وكان (ابن الحارة) مع اعتزازه بنفسه وترفعه عما يكون فيه خدش لكرامته إلا أنه لم يكن حريصاً على شيء مثل حرصه على توقير من هم أكبر منه سناً، خصوصاً إذا كان هؤلاء من أصدقاء والده أو جلسائه. فهو إذا جلس في مجلسهم استمع إلى أحاديثهم في أدب، وإن دُعِي إلى المشاركة في رأي يتداولونه فهو لا يتجاوز هذه المشاركة، مثلاً إلى ما يُعَدُّ ضَرْباً من ضروب الاستهتار بالآخرين أو تسفيه آرائهم. وكنا في تلك الحقبة إذا ما لمحنا واحداً من هؤلاء الكبار أسرعنا للسلام عليه. ولعلّه يسألنا عن الوجهة التي نريدها فنخبره دون أن نجانب الصدق فيما نقول. ولعلّ سؤالهم عن مثل هذه الأشياء كان يقصد به التأكد من حسن السلوك. وما أحوج الناشئة، وخصوصاً في المراحل الأولى من حياتهم، إلى من يرعاهم ويهتم بهم، ويأخذ بهم عبر الحياة وهم في منأى عن السيئ من الأخلاق والقبيح من الأفعال.
إذا ما جئتُ المناخة ضُحىً شاهدت هذا الرجل الذي قليلاً - ما يفارق مجلس والدي - نحيل الجسم، مشرق الوجه، عذب الحديث. يذهبان إلى المسجد سوية وإذا خرجا منه عرجا على بعض الحوانيت التي كانت تنتشر بين (باب المَصْرِي) و (سوق الحراج)، فأصحاب هذه الحوانيت هم أيضاً من الأصدقاء. والسؤال عن الصديق لا يماثله في الأهمية عند أولئك القوم إلا زيارة مريض أو مواساة قريب. وإن لم تكن هناك مندوحة عن ذكر الأسماء، فهذا الرجل الذي كان يحبه القوم في السوق ويأنسُون إلى أحاديثه العذبة هو المرحوم (عثمان أبو عوف). وكيف تخطؤه عيناك؟ فهو هناك عند مدخل باب المصري، ويقابله في الجهة الأخرى من مجلسه خَالُه: (حسين نافع)، رحمهم الله جميعاً وأسكنهم فسيح جناته..
لم يكن العم (عثمان أبو عوف) وحده الذي تأنس نفسي إلى حديثه. فهناك ثلة أخرى من الرجال تعشقهم العين منك، تريد أن تحملهم معك أينما ذهبت وأنى يكون لك ذلك؟ ولعلّ السر في هذا التعلق بهم هو أن قلوبهم لا تنطوي على حقد أبداً، وسلوكياتهم أبعد ما تكون عن التناقض الذي ينصرف الإِنسان عن أصحابه بالفطرة، إن قلوبهم لتشبه في نقائها وسلامتها، تلك العمائم البيضاء التي يحسنون وضعها على رؤوسهم. وإن هم أحسنوا في اختيار ما يلبسونه من حيث تناسقه وملاءمته للذوق السائد في الحقبة التي عاشوها، فإنهم كانوا على حسن اختيار ما يتفوهون به من قول ويخوضون فيه من حديث أكثر توفيقاً وتمكناً.
ترى من منهم ذلك الرجل الذي ينشغل لسانه دائماً بذكر الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وإذا تحدث كان صوته خفيضاً على الرغم من أن أصوات جلسائه كانت تتميز بحدتها وارتفاع نبرتها؟ إِنه الشيخ يوسف شكري - أمد الله في عُمره - من سُكَّان العنبرية في المدينة المنورة ثم حارة الشام في جدة. ومن هو الآخر الذي يخرج من حوش (عَمِيرة) أو (السَّاحة)، في كل مرة يسمع فيها الآذان من المنارة الرئيسة بالمسجد الطاهر؟ يعشق أهل السوق حديثه عن بلاد ظل معظم حياته متنقلاً بين أرجائها. قال لي الأستاذ عبد الستار بخاري رحمه الله: كان السَّيد صالح حلواني يحدثنا عن طرائف الأشياء، فلا نجد شخصاً آخر قادراً على انتزاع البسمة منا كما كان يفعل أبو سعد، رحمه الله. ثم يعظنا بما يحفظه من أحاديث نبوية؛ فنخرج من مجلسنا وقد ترقرق الدمع في أعيننا ورقت من حيث لا ندري مشاعرنا أما ذلك الرجل الطويل القامة الذي يخرج من (زقاق الطيار) المؤدِّي إلى (المناخة) وقد ارتدى تلك العباءة الجميلة فوق كتفيه وأحسن وضع عمامته فوق رأسه فهو المرحوم عباس حَمَّاد، واحد من خيرة الرجال في السوق في بيعه وشرائه. كنت أجلس على بعد وقد بلغت من العمر عقداً واحداً - أو ربما زدت عليه شيئاً يسيراً - فشاهدت السيد عباس يداعب صديقه أَبَا عوف بكلمات تُجسِّدُ ذلك الحب الأخوي الذي كان يربط بين هذه الفئة من الناس؛ وكان الآخر يبتسم ثم يذهب الثلاثة: ((عباس وأبو عوف وحمدان)) للغداء سوية فلم يكن الواحد منهم يتصور أَنْ تُوقَدُ النار في بيته لصنع طعام مدني متميز دون أن يخبر الخلص من أصدقائه وجلسائه بهذا الأمر، ويدعوهم لمشاركته الطعام. تلك كانت شمائل القوم الذين أكرمهم الله بجيرة مرقد نبيه ومُصْطَفَاهُ من خلقه، عليه صلوات الله وسلامه، الصدق في القول، والتجرد في العمل، والإِيثار في حق الأهل والجيران والأصدقاء. ألم تصفهم آيات الكتاب الحكيم بذلك قال عز من قائل: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (الحشر: 9).
 
طباعة

تعليق

 القراءات :632  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 35 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج