شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
تقديم
بقلم السيد الدكتور نزار عبيد مدني (1)
حين علمت أن الصديق الدكتور عاصم حمدان يعكف على إعداد مادة كتابه الموسوم (المناخة.. صور أدبية للمدينة المنورة في القرن الرابع عشر الهجري) سعدت بذلك أيما سعادة، ليس لأن الكتاب إضافة جديدة وقيّمة لمجموعة كتبه عن المدينة فحسب، ولكن لأني أملت في هذا الكتاب خيراً كثيراً لما عرفت عن مؤلفه من حبه لطيبة الطيبة وولعه بها، وتقصيه لمنعطفات تاريخها وحوادثه وأحداثه، ودأبه على تتبع سيرة رجالاتها وأعلامها وأدبائها. ثم كانت سعادتي أكبر وأعمق حين بلغني أن أخي الدكتور عاصم أفضل إلي بتقديم الكتاب الذي لبثت أرتقب مسوداته حتى حمل إلي البريد نسخة منها، ولكن حالت مشاغل وشواغل عن قراءة الكتاب حتى عرض لي سفر إلى خارج الوطن فحملته معي واتخذته سميراً حين آوي إلى فراشي بعد عناء يوم طويل واهتمامات تصحبني أطراف النهار وزلفاً من الليل.
الكتاب يتحدث عن (المناخة) وهي ذلك المكان الفسيح الذي يقع غرب المسجد النبوي الشريف إلى الشام قليلاً. وكنت آمل أن ينال الجانب التاريخي الهام للمناخة ما يستحقه من عناية واستقصاء وتوثيق من قبل المؤلف.. لما للمناخة من أهمية تراثية كبيرة. فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يتخذ من طرفها الشمالي ميداناً للتدريب على ركوب الخيل والرماية. وكان صلى الله عليه وسلم يشرف بنفسه على تدريب الصحابة الكرام وأبنائهم. وكان التدريب يشمل سباقاً للخيل ينظمه ويشرف عليه النبي القائد المربي.
أحد المواقع التي كان عليه الصلاة والسلام يتخذها مركزاً يشرف منه على التدريب معروف حتى وقتنا هذا، ومقام عليه مسجد يسمى مسجد (السبق). وهو مسجد ذو دلالة خاصة للمسلمين وعلامة مميزة في طيبة الطيبة. فهو رمز للرجولة، ورمز لإعداد العدة، ورمز للاستعداد للفداء في سبيل الله وفي سبيل إعلاء كلمة التوحيد.
وكان السبق يجري بين موقع مسجد السبق تقريباً وبين جبل سلع عند نقطة تعرف (بثنية الوداع). وهي موقع يكتسب أكثر من أهمية؛ فهي تحدد ميدان التدريب النبوي الشريف من حده الشمالي، وهي الموقع الذي كان النبي عليه الصلاة والسلام يصل إليه مع صحبه الكرام ليودعهم حين خروجهم في مهمات رسمية وخاصة القتالية منها. وقد سار عليه الصلاة والسلام على قدميه الشريفتين إلى هذا المكان مراراً. وسار على خطاه الخليفة الراشد أبو بكر، لتوديع الحملات التي كانت تخرج في أيامه. ثنية الوداع بالتالي، لها في قلوب المسلمين منزلة كبيرة تذكرهم بانطلاقة الصحابة الكرام في سبيل إعلاء كلمة الله.
(المناخة) بذلك ضاربة في تاريخ المدينة وهي جزء من التراث الطاهر الذي ارتبط بالإِسلام ارتباطاً وثيقاً لا تنفصم عراه.
والمناخة كانت دائماً ذات أهمية لطيبة الطيبة. فقد كانت مناخاً للحجيج ومناخاً للزوّار، ومن هنا اكتسبت اسمها.. (المناخة)، وهي بذلك البقعة الأولى التي تطؤها قدم الزائر للمدينة.
ولقد راقني كثيراً أن الأخ الدكتور عاصم حمدان استخدم قلمه الرشيق ببراعة وذكاء في عرض صور أدبية جميلة يفوح منها عبق الماضي.. بروعته وأصالته وجماله.
لقد شاهدت - ولا أقول قرأت - في الكتاب صوراً إنسانية ناطقة لقوم عرفتهم المدينة فأحبتهم بقدر ما أحبوها وظلت ذكراهم عابقة متوهجة. ورأيت فيه تجسيداً حياً لأماكن ومواضع اندثر معظمها ولم يبق منه إلا ذكريات وحنين وحسرة على ما فات؛ أملاً وتطلعاً إلى ما هو آت.
وصحبت الكتاب مستمتعاً مشوقاً فشدتني الأحداث والصور وراعني البيان وقرأت مأخوذاً ((.. أن أرض المدينة تنبت ثمر الدنيا كما أن ثمار الآخرة تتضاعف فيها، يأتيها الناس من أصقاع الدنيا جهلة فيتعلمون، وحيارى فيهتدون، وفقراء فيغنون، لا يبيت في هذه الأرض المباركة جائع، ولا يسكنها إلا مؤمن، ولا يتوسد أرض بقيعها إلا موحد، ولا يصلي في روضة مسجدها ويقف على قبر صاحبها عليه صلوات الله وسلامه إلا سعيد..)).
واستمعت إليه وهو يتسلل خفية في دجى الليل ويسلك دروباً طويلة ومتعرجة في طرقات المدينة، ولكنه يسلكها وهو مطمئن النفس.. ((فالمدينة - يا صديقي - دوماً تتنفس الطمأنينة، والطمأنينة وليدة الإِيمان ونبت اليقين. أنا ما زلت أعرف الطريق، فلقد أقامها الحب بين جنبات نفسي وعبّدها في داخلي ذلك الوجد الذي تعيشه جوارحي تجاه تلك الربى الطاهرة، لا يستطيع - يا عزيزي - أحد أن يغير معالم استقرت في تلك الأعماق السحيقة من النفس وما زلت لصيقاً بها حتى وإن اختفت من عالم الحس، فعالم الروح أعظم اتساعاً وأكثر رونقاً وبهاء)).
وما زلت معه وهو يرسم صوراً أخاذة يصف في إحداها ليالي المدينة وكيف يمضيها القوم في داخل الدور والمنازل أو في البساتين أو على (المراكيز) في المقاهي التي كانت تزخر بها المناخة.
ويصور في أخرى.. ((يوم ترعد السماء ويهطل المطر ويسيل الوادي ويتجمع الناس من أطراف المدينة ليروا سيل (أبي جيدة)، ويسمعون في الليل هدير المياه وهي منحدرة من قباء وقربان، تقتلع في طريقها الأحجار وتدفع بها إلى منطقة (السيح). وفي عصر اليوم التالي تكون منطقة باب قباء قد تزينت. إنه عرس الأرض وهي تستقبل رحمة السماء، (الروَّاشين) مفتوحة، البيوت يفوح منها الشذى..)).
ويبرز في ثالثة الأدب الرفيع الذي كان يتعامل به القوم مع بعضهم.. ((إنهم - يا سيدي - لا يعرفون الحقد، ولا يسيرون خلف الباطل، ولا يثنيهم شيء في هذه الدنيا عن قول الحق… أفتبخل بهذا السلوك على من أكرمهم الله بأن تطل دورهم على مسجد نبيه - عليه صلوات الله وسلامه - وتمر أجسادهم من أمام ضريحه لتضاجع أكرم تربة، وتنعم بخير جوار..؟)).
إن كتاب الدكتور عاصم حمدان ليفيض على قارئه في كل فصل ولعاً بالمدينة التي تغذي وجدانه بحبها، وتعلقت نفسه بساحاتها، ودورها، ودروبها، ومرابعها، ومجالس الخير فيها؛ ولا غرو في ذلك، فهذه بقعة من الأرض ما تغيرت، تضم في أحشائها رهط السابقين من الرجال الرجال، الذين حين رأوا عرفوا، وحين عرفوا آمنوا، وحين آمنوا انطلقوا بالنور فأضاءوا الأرض، لم يلووا على شيء، ولا التوت أعناقهم لغير السماء..
لقد شدني الكتاب وأثار في نفسي العديد من الذكريات والمشاعر والأحاسيس عن المدينة، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. وتذكرت فيما تذكرت كتاباً كنت قد قرأته فيما مضى من الزمن يصف فيه المستشرق النمساوي محمد أسد، الذي منّ الله عليه بالإسلام، الوضع الذي كانت عليه المدينة وأسواقها ومجتمعها وسمات أهلها منذ ما ينيف على الستين عاماً.. وصفاً أحسب أنه لا يزال يميز المدينة إلى وقتنا هذا، بل وأكاد أجزم أنه سيظل أبداً سمة من سماتها وعلامة من علاماتها الفارقة..
يصف محمد أسد دخوله المدينة واجتيازه الساحة العظيمة المكشوفة المسماة (بالمناخة) إلى جدار المدينة الداخلي عن طريق باب المصري الذي يجلس تحت قوسه الكبير الصرافون يخشخشون بنقودهم الذهبية والفضية، ودخوله إلى السوق الرئيسة وهي عبارة عن شارع لا يتجاوز عرضه الإثني عشر قدماً، مليء بالحوانيت، ويموج بخليط عجيب من الناس من أهل المدينة وممن يقيمون فيها أو يزورونها من مختلف أصقاع الدنيا، يمتدح الباعة فيه بضائعهم بأغنيات سارة بهيجة، ويجلس صائغو الفضة القرفصاء خلف صناديق من الزجاج مليئة بالأساور والعقود والأقراط، ويعرض باعة الروائح العطرية فيه أكواماً من الحناء والطيب وقوارير متعددة الألوان والأشكال مليئة بالزيوت والعطور.
بيد أنه، على الرغم من هذا الخليط العجيب من الناس، وبالرغم من ضيق الشارع. فلا تدافع ولا تزاحم ولا تصادم؛ لأن الوقت في المدينة المنورة لا يطارد الناس.
ولكن ما يبدو أغرب وأعجب هو أن كل الناس الذين يعيشون في هذه المدينة، أو حتى يقيمون فيها بصورة مؤقتة، سريعاً ما يصبح لهم ما يمكن أن يسمى بالمزاج المشترك، وبالتالي السلوك المشترك والتعبير الوجهي المشترك. ذلك أنهم جميعاً قد جذبتهم شخصية النبي صلى الله عليه وسلم الذي كانت هذه المدينة مدينته وهم ضيوفها الآن.
فحتى بعد أربعة عشر قرناً لا يزال وجوده الروحي صلى الله عليه وسلم حياً هنا كما كان يومذاك. لقد كان من أجله وحده أن أصبحت مجموعة القرى التي كانت تدعى فيما مضى (يثرب) مدينة أحبها المسلمون حتى يومنا هذا كما لم تحب مدينة غيرها في أي مكان آخر من العالم. وليس لها حتى اسم خاص بها، فمنذ أكثر من أربعة عشر قرناً التقت هنا سيول لا تحصى من الحب بحيث اكتسبت جميع الأشكال والحركات نوعاً من التشابه العائلي، وجميع الفروق في المظاهر تتحد في لحن مشترك واحد.
هذه هي السعادة التي يشعر بها كل واحد هنا دائماً، هذا التناغم الموحد. وبالرغم من أن الحياة في المدينة اليوم لا تتصل بعهد النبوة إلا اتصالاً ظاهرياً بعيداً، إلا أن صلة عاطفية لا يمكن وصفها بماضيها الروحي العظيم قد بقي حياً حتى يومنا هذا. ليس هناك من مدينة أحبها الناس إلى هذا الحد من أجل شخصية واحدة، وليس هناك من رجل مضى على وفاته أكثر من ألف وأربعمائة عام قد أصاب مثل هذا الحب ومن قبل هذا العدد من الأفئدة والقلوب مثل المصطفى صلوات الله وسلامه عليه.
لقد بقي هذا الحب بعد وفاته، وهو لا يزال حياً في قلوب المسلمين حتى اليوم، وسيظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. إنه حي في المدينة لا يزال ينطق به كل حجر من أحجارها، وإنك لتكاد تستطيع أن تلمسه بيديك، ولكنك لا تستطيع له صوغاً في كلمات.
وبعد، فإني منذ قرأت كتاب أخي الدكتور عاصم حمدان، مشوّق إلى لقائه لأحدثه عن كتابه وأستزيده علماً بحوادثه وما جاء فيه، ولأناشده أن يسخر ما حباه الله به من قدرات علمية وأكاديمية، وما قيض الله له من خلفيات اجتماعية وثقافية عن المدينة المنورة وتاريخها، وما عرف عنه من جلد على البحث والاستقصاء، في الاستمرار في الكتابة عن المدينة المنورة وإبراز دورها التاريخي العظيم بالشكل الذي يليق بمكانتها ومنزلتها، مع إعطاء الجانب العلمي والأكاديمي والتوثيقي جانباً أكبر من العناية والاهتمام.
والله يجزيه ما يجزي كل مؤمن عامل مخلص، ويزيده توفيقاً في كتبه وأبحاثه ومؤلفاته المرجوة.
وهو ولي التوفيق..
نزار عبيد مدني
محرم 1414هـ
 
طباعة

تعليق

 القراءات :938  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 31 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور معراج نواب مرزا

المؤرخ والجغرافي والباحث التراثي المعروف.