شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة الأغوات (23)
في حارة الأغوات وبعد أن نجتاز سبيل ((المنادي)) في طريقنا إلى (البقيع) كان يقع رباط (ياقوت المظفري) والذي يعود بناؤه إلى بداية القرن الثامن الهجري ((607هـ)) كما كانت تشير الكتابة المنقوشة على بابه، في ذلك الرباط كان يسكن نفر من المهاجرين، عرفت منهم الحاج عبد الله وصديقه الحاج النور - رحمهما الله - محافظين على أداء الصلوات في المسجد النبوي مع أنهما فقدا نعمة البصر في آخر حياتهما، لا يعرفان من المدينة إلا دكة الأغوات ((في المسجد.. و ((الرُّستمية)) في الحارة، يؤمان هذا الموضع الأخير بعد عصر كل يوم حيث يلتئم الشمل، ويطيب الحديث ويتذكر القوم أياماً خلت وعهوداً انقضت.
ذات عام من الأعوام، وفي يوم عرفة حيث تنطبع أجواء المدينة بهدوء غريب، ويخيم عليها طمأنينة الإيمان وسكينته، والصلاة تقام في المحراب النبوي بالروضة الشريفة وصفوف المصلين قليلة العدد. في ذلك اليوم الذي يعود إلى بدايات التسعينات الهجرية ذهبت إلى ((الرُّستمية)) فهي المكان الذي كنت أحمل إليه كتبي حتى تتسنى لي فرصة القراءة والاطلاع وهي موضع أنسي وجلاء خاطري، وكان يشاركني هذا الشعور من بين أصدقائي الأستاذ أسامة أحمد السنوسي، فشاهدت يومها الأستاذ أحمد عثمان - رحمه لله - واحد من جملة أساتذتي في دار العلوم الشرعية، يدخل من باب المبنى العتيق يقبل رؤوس كبار أهل الحارة ((طيفور، والعم حسب الله)) ويقول: ((كُل عام وأنتم بخير)) أنتم بركة الحارة.. وتطفر دمعة من عيني على هذا الشعور الإِنساني الرفيع وهذا التواصل الذي كان سمة من سمات مجتمع بلد المصطفى صلى الله عليه وسلم بكل طبقاته.
وبالمناسبة فأستاذنا أحمد عثمان هو شقيق لأستاذ الجيل عبد الرحمن عثمان - رحمهما الله - وكان هو الآخر مدرساً بمدرسة دار العلوم الشرعية، وكان شاعراً مجيداً، قرأت له شيئاً من شعره في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، ولعلّي عرفت مما قرأت له المنبع الذي تتدفق منه شاعرية صاحب (واستوت على الجودي) ابنه الأستاذ الدكتور أسامة عبد الرحمن عثمان، وشقيقه أنس، صاحب (الموانئ التي أبحرت). وإذا كان أسامة وأنس شاعرين مجيدين في زمن أصبح قول الشعر فيه لكل من هب ودب، وأصبح يلج ساحته كل متطفل وجاهل، وهذا من جناية بعض صفحات الثقافة التي أضحت تعنى بالغث، وتستبعد الأصيل، وتمعن في إفساد الذوق تحت مسميات الحداثة والغموض.
إذا كان المذكوران شاعرين مطبوعين فإن أخاً ثالثاً لهما يملك مقومات الناقد المتمكن، والباحث المتعمق في آداب اللغات الأخرى، وهو الصديق الدكتور نُعيمان عثمان، ولكن نُعيمان مثل إخوته الكرام يؤثر الصمت ويكره الضجيج، مع أن الساحة النقدية في حاجة إلى معرفته واطلاعه بعد أن كثر الأدعياء الذين يهرفون بما لا يعرفون، ويدعون الاطلاع على آداب الأمم الأخرى وهم لا يفقهون من أبجدياتها شيئاً، فبإمكانهم أن يتحدثوا في كل شيء ولكنني أتوسل إليهم أن يصمتوا فنحن أحوج في هذا الحقل إلى مقولات المتخصصين فيه من أمثال (الدَّكاترة) عزت خطاب وسعد البازعي ونعيمان عثمان الذي دفعنا الحديث عن أسرته إلى هذه العطفة حول هذا المطلب النقدي الهام.
في باب المجيدي عرفت رباط ((عزت باشا)) لا أعلم إذا ما كان وقفه ينتمي لأسرة أسعد العابد مستشار السلطان عبد الحميد آخر سلاطين الدولة العثمانية الذي اتخذ من هذا الأخير ومن السيد أحمد أسعد الجد الأكبر لأسرة آل أسعد مستشارين له في الآستانة، ولم أعرف الرباط وحده ولكنني عرفت أيضاً بعض ساكنيه منهم إبراهيم ولي - رحمه الله - الذي كان شيخاً للرباط ومن قبله كان الشيخ عبد الله الرفاعي - أسكنه الله فسيح جناته - لم أدرك هذا الأخير ولكني عرفت عدداً من أبنائه منهم الأستاذ زكي الرفاعي وأخوه سليمان.
لقد غاب عن عيني رجل من المجاورين اسمه عثمان كنت دوماً أراه بالقرب من شجرة السدر التي كانت تقوم في سوق الفاكهة والذي هو في الأصل موضع ((الخان القديم)) في المدينة، عثمان كان، مع مجموعة من أصحاب القلوب الطيبة، يقوم بطحن الحبوب بوسيلة بدائية كانت موجودة في الحقبة الماضية في المدينة وهي المهراس الذي يصنع عادة من الخشب، ولكن الذي أغراني بالحديث عن عثمان الذي علمتُ من أحد اصدقائي أنه توفي قبل شهور بعيداً عن الأرض المحبوبة - على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم - نعم أغراني عدم احتفائه بالدنيا وزهده في متاعها الفاني، كان يمشي حاسر الرأس، حافي القدمين، لا يكاد يلتفت إلى شيء، ولكنه مثل بقية المجاورين، جاءوا إلى هذه الأرض حُبًّا في ساكنها فهم المتأدبون في جواره، والمتبعون لسنته والنافرون من كل دعاوى الجهل وسبل الباطل.
حدثني يا صديقي أين اختفت الوجوه؟وكيف تفرق الجمع؟ أسمعني صوت الحادي، فلطالما أثار في نفسي الشوق وأنتزع من عينيّ الدَّمْع، وأغرقني في بحر الحب، فنفسي قد كبلها القيد، والقيد يا صديقي من صنع نفسي وآثار يدي، متى نتطهر من حب الدنيا الذي تملكنا وتلبس مشاعرنا فنسينا قريباً أضحى متطلعاً إلى سؤال الأهل عنه، وتغافلنا عن صديق كنا في الماضي نلتف حوله؟
إننا يا صديقي نلهث دون أن نسأل أنفسنا، هل وعينا دورنا في هذه الحياة؟ هل أدينا حقوقاً افترضها الله علينا؟ هل استأثرت منا القلوب بمثل تلك الرعية التي نوليها لمظاهرنا أو أشكال بيوتنا؟ هل استطعنا حقاً أن نضبط سلوكياتنا فلا نبني مستقبلنا على حساب هدم ذوات الآخرين؟ هل كاشفنا نفوسنا بمثالبها وقاومنا جموحها وداوينا أنانيتها؟
إننا يا صديقي إن لم نفعل ذلك فوا أسفاه على علم ندعيه، ومعرفة نتباهى بها، وسوف يكون هذا العلم وتلك المعرفة شاهدي حق علينا في دنيانا هذه يوم نرحل عنها، وبين يدي الخالق الأعظم في آخرتنا عندما تنصب الموازين القسط وتوفي كل نفس بما كسبت.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1073  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 30 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج