شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة الأغوات (2)
كانت الحارة تشتق اسمها من (الأغوات) الذين كانوا يهبون أنفسهم لخدمة الحرمين الشريفين. ففي المدينة كانوا يقومون بتنظيف المسجد وتهيئته نهاراً وحراسته ليلاً بعد أن تقفل أبوابه، كان نظامهم الذي أرجح أنه يعود إلى العصر المملوكي نظاماً يقوم على الدقة والإِتقان يأتون في موعد محدد وينصرفون بعد أن يكون كل واحد منهم قد أدى ما يوكل إليه من عمل، كان لا يسمح لهم بالدخول من باب جبريل بل يجب أن يدخلوا من الباب الآخر المجاور له فدخولهم من هذا الباب يمكن الشيخ أو نائبه أو رأس الخيالة من معرفة الوقت الذي دخل فيه الشخص المكلّف بأداء الخدمة من بينهم.
مع ارتفاع صوت الأذان الأول من المنارة الرئيسة في المسجد والذي كان يخترق سكون الليل في سماء المدينة كنت تسمع صوت باب يفتح هنا وآخر يوصد هناك ووقع خطوات واثقة تتلمس طريقها وسط الظلام الذي كان يلف منعطفات الحارة ويغطي منازلها بغلالته السوداء ولم يكن ليخفي على أحد عندئذٍ أن القوم يتجهون إلى المسجد فهم من أول الناس دخولاً له كما أنهم آخرهم خروجاً منه.
كانت الغالبية منهم تأتي من بلاد السودان ولكن كتب تاريخ المدينة وخصوصاً ابن فرحون في (نصيحة المشاور وتعزية المجاور) يتحدث عن أجناس مختلفة منهم. ولقد حدثني الشيخ مصطفى العلوي أمد الله في عمره وكان كاتباً لأغوات المدينة لحقبة من الزمن بأنه أدرك اثنين من الأغوات يعودان إلى أصل تركي ويشتركان في اسم واحد هو ((سليم)). وهما من عتقاء عبد الله باشا، وقد أهداهما لمسجد المدينة. وكان من بين أغوات المدينة من اشتهر بالعلم والتفقه في الدين مثل خليل آغا الذي تولى مشيخة أغوات المدينة بعد الستينات الهجرية. وكان قد قرأ القرآن على الشيخ مصطفى الذي أتينا على ذكره قبل قليل كما اشتهروا بعمل الخيرات ومساعدة المحتاجين من الناس فخليل آغا بنى مسجداً في حي قباء لا يزال موجوداً ويعرف باسم مسجد الآغا كما أوقف رباطاً على الفقراء لا يزال يحمل اسمه في حي باب الشامي، وحي العنبرية مدخل المدينة للقادم من مكة، وجدّه يقال إن اسمه مشتق من ((عنبر آغا)) كما يوجد مسجد على يسار الداخل من شارع العنبرية ينسب إلى حافظ إبراهيم آغا.
كان الأغوات الذين أدركتهم تتوزع منازلهم في أماكن مختلفة من الحارة. وكان البعض منهم قد نذر نفسه بالكلية لعبادة الله وخدمة مسجد رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يعرف من المدينة إلا مسجدها وموضع سكناه، كما أن بعضهم قد بلغ من كرم اليد وسماحة النفس شأواً عظيماً كان بينهم شخص اسمه ((أحمد)) وينطقونه في الحارة ((هكذا)) ((أحمدو)).. ولا أعرف من أين جاء للغة المدنيين هذا الإشباع للحرف الأخير مِن الاسم.
كان أحمد هذا لا يسمع عن واجب عند أحد من أهل الحارة إلا وأرسل إليه ما يعينه على أداء واجبه وكان إذا طلب من أحد قضاء حاجة ولم يجد ما يكافئه على قضائها له نزع ساعته من يده وأهداها إليه.. هكذا سمعت من سكان الحارة وبالتواتر بعد وفاة هذا الإِنسان وانتقاله إلى رحمة الله.
ولا أنسى موقفاً حدث لي مع واحد منهم اسمه ((الضوء)) كنت صغيراً أسير في الحارة مع أحد أصدقائي وكان الضوء ينظر إلينا من نافذة منزله وما إن سلمنا عليه حتى بادرنا بهدية قذفها علينا من أعلى داره المطلة على واحد من تلك الأزقة الضيقة التي كانت تشتهر بها الحارة أما ((جاه الله)) الذي شارف عمره على المائة بحسب أقوال زملائه في المهنة.. فهو مواظب منذ عرفته على أداء الصلوات في المسجد لا يتخلف عن فرض ولا يسكت لسانه عن ذكر ولا تنقطع يداه عن صدقة، رأيته قبل عام واحد فقط من كتابة هذه السطور وهو يسير بين الدكتين ((دكة الأغوات)) و ((دكة شيخ الحرم)) فإذا هو منتصب القامة لا يتوكأ على عصا ولا يتباطأ في مشية ولقد عرفته على هذا النحو منذ ما يقرب من ربع قرن من الزمن (جاه الله) واحد من الأغوات الذين قدموا المدينة فلم يعرفوا منها غير المكان المطهر الذي أتوا من بلادهم بقصد الخدمة فيه.
عندما تميل الشمس إلى المغيب تعمر رحبة الحارة بالناس ومن بينهم فئة الأدلاء العاملين بالحرم فتتهادى إلى أذنيك بين الحين والآخر أصوات من ضحكاتهم البريئة وأحاديثهم المسلية، فيخرج الأغوات من منازلهم التي تحيط بها الحوانيت من كل ناحية يجلس أحدهم واسمه ((محمد حسن)) كان سمح الوجه ويميل لونه إلى شيء من البياض، فلا يمر طفل إلا ويداعبه ويقدم له شيئاً من الحلوى التي غالباً ما يتهالك الأطفال على الحصول عليها ويميلون بطبيعتهم إلى من يتوددون بها إليهم.
رحم الله القوم فلقد كانت الوجوه منهم مستبشرة والصدور منهم متسعة والأيدي منهم سخية، ورحم زماناً عاشوا فيه كانت القلوب فيه عامرة بالإيمان، والألسنة لا تنقطع عن الذكر، والدور لا يتردد فيها غير آي من الذكر الحكيم أو مقاطع من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1105  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 9 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

يت الفنانين التشكيليين بجدة

الذي لعب دوراً في خارطة العمل الإبداعي، وشجع كثيراً من المواهب الفنية.