شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
حارة الأغوات (3)
كانت الحارة تشتمل على معالم خاصة تتميز بها. ويسكنها أناس هم في سيرتهم وأخلاقهم جسدوا تلك المثل الحسنة التي عرف بها سكان البلدة الطاهرة من رقة ورأفة وسعة أفق.
من المعالم تلك الأماكن التي كانت تزود الحرم الشريف بالماء ويعرف المكان الذي يحتفظ فيه بالماء بارداً ونقياً باسم (السَّبيل) ومنذ أن تشق طريقك صاعداً إلى الحارة سوف تجد هذه الأماكن متوزعة بين أزقة الحارة ومنعطفاتها. فهنا سبيل ((مالاه)) وهناك سبيل (الأفندي) وفي الرحبة الأقرب إلى البقيع يوجد سبل (المنادي) و (الشريف حسن) وسوف تلمح شباباً خارجين منها يحملون (الدوارق) المصنوعة من الفخار بين أيديهم ومسرعين بها في نشوة وحماس إلى الصناديق المخصصة لها بين أروقة المسجد، وكانت قدرات هؤلاء الشباب في حمل هذه الدوارق بينها اختلاف واضح. وكان شهر رمضان المبارك كفيلاً بالتمييز بين هذه القدرات فهو الشهر الذي يزداد فيه الطلب على الماء في الحرم ويستتبع ذلك الاستعانة بعدد كبير من أبناء هذه الحرفة.
أعود إلى الوراء قليلاً بذاكرتي، وبالتحديد في بداية الثمانينات الهجرية، كنت طالباً في مدرسة دار العلوم الشرعية، وكان نظام المدرسة يسمح بخروج الطلاب من المدرسة في أثناء ما كان يسمى بـ (الفسحة الكبيرة) وهو قريب إلى النظام الذي عادت إلى الأخذ به مدارسنا في الوقت الحاضر، فطلب مني ذات يوم زميل اسمه (بشير العقيبي) مع زميل آخر مساعدته في حمل الدوارق من (السبيل) إلى الحرم، ولما كنت جاهلاً بأصول المهنة فلقد سقطت على الأرض ولم تقو يداي على حمل (شكَّة الدورق) وكانت هذه البداية في تاريخ معرفتي بهذه الأماكن، ثم قادتني الأقدار إلى الحارة في المرحلة التالية من حياتي، فإذا أنا أقضي فيها من الوقت بحكم القرب من الحرم ودراستي فيه أكثر من الوقت الذي أقضيه في حارتي التي نشأت فيها وهي (حارة العنبرية) وإذا أنا أعرف في الحارة من الناس الطيبين من كان لهم دور كبير - بعد الله - في توجيه حياتي وفي تشكيل المناحي الفكرية لدي، من هؤلاء صديقي (أحمد الزين) الذي كان فيه من طيبة القلب وسماحة الخلق وكرم النفس ما حملني على أن أؤم دَارَهُ كل صباح ومساء، يلقي علي من شعره الذي يمدح فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ويتشوق به إلى ديار الهدى والإِيمان، وأن أبيات هذا الشعر وقوافيه لتذكرك بالرواد الأوائل الذين ارتبط اسمهم بهذا الفن الشعري مثل الصحابي الجليل حسان بن ثابت رضي الله عنه أو المتأخرين الذين آثروا بإبداعاتهم المشهورة مثل البرعي والبوصيري - رحمهما الله..
وفي وقت لاحق تعرفت على شخصية كريمة كانت تسكن الحارة وبالقرب من منطقة (ذروان) وهي بئر أثرية مشهورة، ذلكم هو الأستاذ الفاضل والمربي الكريم محمد حميدة، الذي عرفته بداية فيما كان يكتبه على صفحات جريدة (المدينة المنورة) في الحقبة التي كانت تصدر فيها في المدينة المنورة. ولكن في بداية التسعينات الهجرية جلست إلى الأستاذ حميدة واستمعت إليه محدثاً يشدني ما يتسم به حديثه من صدق وتنتزع إعجابي تلك الإِحاطة الشاملة لديه بالتيارات الفكرية في العالم الإِسلامي، كان يحدثني حديث العارف عن الفكر عند محمد الغزالي السقا وأحمد جمال وأحمد عبد الغفور عطار، وينزع فيّ أحياناً إلى دنيا الشعر، فإذا هو قارئ متذّوق وناقد خبير لما يبدعه شعراء الرعيل الأول أمثال شحاته والعوّاد وضياء الدين رجب ويضع بين يدي - وبكل تواضع - خلاصة تجربته في الحياة العلمية والتربوية. لذا فأنا مدين له بالكثير فلكم قضيت من الوقت المفيد مستمعاً إليه تارة ومناقشاً له أخرى وبالقرب من مكتبه التي تحتوي على أمهات المصادر والمراجع في الفكر والتراث، ولكم زودني بما أحتاج إليه من كتب، هو والمرحوم الشيخ - جعفر فقيه - يمثلان في أخلاقهما ويجسِّدان في سلوكهما ذلك السلف الصالح من علمائنا الذين كانوا يحببون العلم إلى الناشئة ويرغبونهم بما وهبهم الله من حكمة ومعرفة في الدرس والتحصيل.
وكان يسكن الحارة أيضاً - شيخ فاضل تدنيك منه ملامح إيمانية مضيئة ويستهويك ذلك الهدوء والسكينة اللذان تنطبعُ بهما ملامح شخصيته. كان يخرج من داره الملاصقة لمنهل العين في الحارة، فإذا المقام يستقر به في ذلك المكان المعروف - بدكة - شيخ الحرم، والواقعة على يسار الخارج من باب جبريل. ويجلس إلى جانب صديقه الشيخ الجليل - جميل شيناوي - رحمه الله - ويصلي إلى جانبهما زمرة من أهل الفضل وأحد حفظة كتاب الله المعروفين في البلدة الطاهرة الشيخ حسن بخاري - رحمه الله - وكان بين الشيخين عبد الجواد والبخاري من المحبة في الله الشيء الكثير، وكان من دلائل تلك المحبة وصدقها انتقالهما إلى رحمة الله في يوم واحد.
ولقد ترك (الشيخ أحمد عبد الجواد) الذي كانت تربطه علاقة وثيقة مع شيخ الأزهر السابق الدكتور عبد الحليم محمود - رحمه الله - سلسلة العالم الإِسلامي الدعاء المستجاب من الأحاديث والكتاب) وسلسلة كتب في التعريف بدين الإِسلام باللغتين العربية والإِنجليزية - وكتاب في أسماء الله الحسنى - وكتاب في علم المواريث وأصوله، ولعلّ تأليفه لهذا الكتاب الأخير كان نتيجة طبيعية لتبحّره في عُلُوم الرياضيات التي كان يساعدنا في حل بعض مسائلها أثناء دراستنا بالمرحلتين الإِعدادية والثانوية.
وليس بعيداً عن الشيخ عبد الجواد كانت توجد دار الشيخ عبد الكريم السناري والد صديقنا الأستاذ عبد الرحمن عبد الكريم - وكان الشيخ عبد الكريم إذا ما صلى صلاة العصر تهيأ لاستقبال زواره من أهل العلم والفضل، وكان من بين الذين يأمُّون داره العلامة حسن مشاط - رحمه الله - وذلك عند حلوله في البلدة الطاهرة زائراً.
وفي الناحية الأخرى من الحارة، والتي تُسَامِت الشارع العام الذي كان يحجز الحارة عن البقيع، كان يسكن الشيخ حسن فلاته - رحمه الله - والد الصديق الدكتور عمر فلاته الأستاذ بكلية التربية بالمدينة المنورة. وكان هذا الشيخ ذا سمت حسن وأخلاق كريمة فأنت لا تكاد تحس به وهو خارج من داره لأداء الصلوات في الحرم النبوي الشريف، وكان - رحمه الله - خفيض الصوت مطمئن النفس ساكن الجوارح.
ذات يوم كنت أجلس في رحبة الحارة فإذا رجل يضع نظارة على عينيه ويلبس ما كان يعرف عند أهل المدينة المنورة بـ (السّديرية) يبادئني بالتحية ويسألني عن (حارتي) لأنني أبدو غريباً عن الحارة وأهلها، ولما أجبته ابتسم وقال: لي أنا أعرف جَدِّك لأبيك وسرد علي شيئاً من صفاته وسماته. وظل جدي - رحمه الله - يعيش في نفسي بذلك الوصف الذي سمعته منه. لقد رأيت جدي بعيني المرحوم - أحمد هندية - الذي عاش في الحارة وحيداً ومات وحيداً..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :984  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 10 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

ترجمة حياة محمد حسن فقي

[السنوات الأولى: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج