شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هيا قوم يا عزيز
اتوضأ وصلي.. عشان نروح الكتاب
ولم يكن يوم السبت الذي حددته أُمي لدخول الكتّاب بعيداً.. بيني وبينه الخميس والجمعة.. ولا أنسى اليوم كيف استلقيت على فراشي، وقلبي مثقل بهم هذا الكُتّاب، الذي كان يحيى قد رسخه في ذهني وأعصابي حكاية ((الجريد الأخضر، والخيزرانة المبلولة))... وكان من الطبيعي أن استهول وأرهب، اذ لم يحدث قط، أن ذقت من أحد ((فرْشا)) أو جلدا من هذا النوع.. بل لم يحدث قط أن ضربتني أُمي أكثر من صفعة أو خفقة على كتفي.
وعندما كان النعاس يتحسس طريقة إلى عيني، كنت لا أنسى ((يحيى)) وذلك المصير الذي ينتظره من أخيه ((حسين)). كنت مع أشفاقي عليه أتمنى لو أنه يعيش معي.. ومنطقي أن الغرفة كبيرة.. والسرير يتسع لنومنا معاً.. ويحيى عنده الوافر من الحكايات، عن ((البلدان)) وهي المزارع، و ((السواني)) والحمير التي قال أنه يمكن أن يعمل سائقاً لها وصاحب المزرعة يضمن له الأكل ثلاث مرات في اليوم.. وينام في العشّة التي فيها النسوة اللائي يعملن في المزرعة مع أطفالهن.. والواقع أني كنت أتوق إلى حياة كهذه التي وصفها يحيى وعلى الأخص، أحواض البرسيم، التي قال أنها كالزمرد، وان كنت لا أدري ما هو الزمرد، ثم النخل الكثير، ومنه نخلات طويلة يمكن أن يتسلقها ليصل إلى اعشاش ((النغاري)) الصغيرة التي يمكن أن يبيعها في ((سوق الخضرة)) كل نغري صغير بربع مجيدي.
ومضى يوم الخميس، الذي سمح لي فيه أن أخرج لألعب عند ((البرحة)) بين زقاق القفل وزقاق الحبس، وفيها دكان العم صادق.. وعلى خطوات منه دكان ذلك النجار الذي قال لي يحيى أنه يصنع ((السّحارات)) ويبيعها للبدو بأربعة مجايدة، وكان العم صادق كعادته عاكفاً على قراءة القرآن من مصحف صغير بيده.. رآني، أجلس على طرف الدّكة عنده، فابتسم وسألني:
:ـ. دادتك منكْشة عندكم؟
:ـ. ما شفتها اليوم.. يمكن تكون مع ((الباجي))..
ضحك ضحكة خفيفة وهو يقول: هادي الباجي هي الطباخة.. موكدة؟؟
:ـ. هيّه الطباخة..
:ـ. يا بختها أُمك.. ما شاء الله عندها طباخة.. وعسكر يخدموها.. وكمان منكْشة.
:ـ. وكمان بابا اسماعيل.. جوز الباجي..
:ـ. طيب، وكلهم فين يقعدوا.. وفين يناموا.
:ـ. ما أدري.. لكن العساكر دايماً في دكة الدهليز.. أصلها كبيرة.. وبنادقهم معلقة فيها.. يقولوا ما يسيبوها.. ولا يروحوا عنها أبداً.
:ـ. لكن.. قل لي / هوّه ((عمك)) بيتكلم مع أُمك بالتركي، ولا بالعربي ؟؟
:ـ. بالتركي.. لكن هوّه يعرف يتكلم عربي.. زينا تمام..
:ـ. ما شاء الله..
وكانت مجموعة الأولاد، مشغولين عني فيما يبدو اذ لم يلتفت أحد منهم إلي. ولم يسألني عن زواج أُمي أو عن زوجها، وذلك ما كنت أتحسب له وأشعر بالضيق الشديد، ولا أدري ماذا أقول لهم... وحين كنت اتابع لعبة ((الكَبَتْ)) التي كانوا منهمكين فيها، رأيت ((يحيى)) قادماً من ((زقاق الحبس)).. وما كاد يلمحني حتى أسرع اليّ ضاحكاً، وهو يقول:
:ـ. يا شيخ ربنا لا يحرمنا من أُمك... هادي خلتهم كلهم يسكتوا عني.. جدي أخذني جنبه ساعة ما دخل سيدي حسين.. رفع يده، وما خلاّه يضربني.. أنت ما تدري أنو سيدي حسين يعرف أبوك.. وقال أنو ختم الختمة في صلاة التراويح.. الحاصل كلام كثير.. ثم يتوقف لحظة ليقول:
:ـ. هيّا قوم معايا أوريك النجار اللي أبغا اشتغل عنده.
:ـ. يعني ما تروح الكتّاب ؟؟
:ـ. فال الله ولا فالك.. لكن أنت رايحين يدخلوك الكتّاب.. مو كدة ؟؟
:ـ. أيوه أُمي قالت يوم السبت.. يعني بعد بكرة..
وهنا تدخل العم صادق يقول:
:ـ. رايحين يدخلوك الكتاب يا عزيز ؟؟
:ـ. كده قالت أُمي..
:ـ. لازم كُتّاب العريف ابن سالم.
:ـ. ما أدري.. لكن رايحين يدخلوني الكتّاب.. أُمي قالت لازم تدخلني الكتّاب.
:ـ. كتَّاب العريف ابن سالم هوّه اللي في باب المجيدي.. قريب من الساحة.. وهوه كمان فقي ولا كُل الفقهاء..
:ـ. يعني ((يفرش)) بالجريد الأخضر.. والخيزرانة المبلولة.
:ـ. اللي ما يحفض اللوح لازم يأكل علقة.. ولكن اللي يحفض ما أحد يضربه أبداً.. وأرتفع صوت المؤذن لصلاة الظهر.. فاذا بيحيى ينصت.. ويقول:
:ـ. هيّا سامع ؟؟ هادا صوت سيدي حسين.
وتدخل العم صادق يقول:
:ـ. أيوه.. هادا صوت حسين بخاري. ولو تقوموا لصلاة الصبح تسمعوه.. هادا المدينة كلها تقول ما في صوت زي صوته إلاَّ عبد الستار.. لكن.
والتفت أنا إلى يحيى أسأله:
:ـ. لكن أنت قلت لي أنه يشتغل عند التاجر ؟
وتدخل العم صادق يقول:
:ـ. أيوه يشتغل عند التاجر.. لكن لازم ما يترك الأذان، في المنارة ((الريِّسية)).. شيخ الحرم يدفع له مجيديين في كل شهر.
ومدّ يحيى يده، وتناول يدي وهو يمشي، حيث انطلقنا، إلى دكان النجار.. حيث رأيناه يعالج لوحاً صغيراً من الخشب.. يمسحه بما عرفت فيما بعد أنه ((الفارة)).. وقفنا نتفرج عليه ولاحظت أنهماك يحيى، في ملاحقة يد النجار وهو يقوم بعمله.. إلى أن فرغ والتفت إلينا وقطّب ما بين حاجبيه وهو يقول:
:ـ. أنتو ما تبغوا تروحوا تصلّوا.. فين أهلكم عنّكم ؟؟ وأنت يا يحيى.. اسمع الكلام اللي أقول لك هوّه.. ترى سيدك حسين طلب مني أني ما أخلّيك توقف عندي أبداً.. فاهم؟؟
وسرعان ما أحسست بيد يحيى في يدي وهو يقول:
:ـ. خلاص.. ما في فايدة..
:ـ. يعني إيه؟؟
:ـ. يعني سيدي حسين رايح يدخلني الكتّاب..
* * *
بعد صلاة العشاء يوم الجمعة، وقد تناولنا ـ أُمي وعمي وأنا ـ طعام العشاء أخذتني أُمي، بيدها إلى الحمام.. حيث كان على أرضه ((طست)) من النحاس واسع كبير.. كما كانت هناك صفيحة فيها ماء أعلم أنه حار.. وتلك هي عملية الاستحمام التي تقوم بها بنفسها إن لم يكن كل يوم، فلا بد أن تتم يوماً بعد يوم.. ولم يكن يضايقني ويحملني على البكاء شيء كهذا الصابون الذي يغمر وجهي ويتسرب إلى عيني.. ثم تلك ((الليفة)) التي تدلك بها كل جسمي، وعلى الأخص ((القدمين والساقين)) وهما في العادة الأكثر اتساخاً.
ولم أحتج إلى تفكير لأحرز أنها تعدني للذهاب إلى الكتّاب في الصباح.
وفي الغرفة، أخرجت من الدولاب الصغير، الملابس التي تعدها للنوم عادة.. ووضعت على منضدة، هناك، ثوبا مطوياً من الثياب الجديدة، التي فهمت أنها اشترتها لأرتديها في الصباح ،.. وهناك الحذاء والجورب، وهما اللذان كانت ـ رحمها الله ـ تصرّ على أن لا أُغادر البيت إلى أي مكان إلا وهما في قدمي.. حتى في تلك الأيام التي كان يتمزق فيها الحذاء، وتطل من مقدمته بعض أصابعي، كانت تحاول أن تصلح موقع التمزق.. ولي أن أقول اليوم. أني كثيراً ما تمردت على هذا الإصرار.. وتكون النتيجة حملة تأنيب وتهديد بالضرب أحسب له ألف حساب.
فرغت من اعدادي للنوم.. فأشارت بيدها أن اضطجع على السرير، وقالت محذرة:
:ـ. هيّا اغمض عينيك.. ونام علشان لازم تقوم بدري.. فاهم؟؟
ثم غادرت الغرفة بعد أن أحكمت الغطاء على جسمي.. وخفضت فتيل اللمبة العلاقي، ولاحظت أنها لم تقبلني، كما كانت تفعل في أكثر الأحيان.. بل لم تضمني إلى صدرها.. وهو ما افتقدته، في هذه الأيام.. ولابد أن أقول أن حادث زواجها كان يرتبط دائماً بما أخذ يطرأ على بعض تصرفاتها معي.. ربما كان ذلك نوعاً من خبث إحساسي بفجيعتي التي ماتزال تطحن مشاعري، رغم كل ما يغمرني به ((عمي)) من عطف وحنان ورعاية.. كان أثر الفجيعة في نفسي، ينسف أو يدمر المفروض من مشاعر الامتنان والعرفان.
* * *
ولا أدري، هل نمت فعلاً، ثم استيقظت على صوت أذان الفجر، الذي سرعان ما تذكرت أنه صوت ((حسين بخاري)).. لا شك أني نمت، ولكن توتر أعصابي، بمشاعر الرهبة من الذهاب إلى ذلك الكتّاب أيقظني في الفجر.. ولكني لم أغادر أو أتحرك عن فراشي.. ظللت مفتوح العينين وليس في ذهني إلا هذا الكتّاب.. واللوح... الذي اذا لم أحفظه، أستحق تلك ((العلقة)) التي وصفها ((يحيى)) بأنها ((الفرْش))((بالجريد الأخضر)) و ((الخيزرانة المبلولة))...
وقبيل رؤية جدار بيت الجيران، تضيئه أولى شلالات ضوء الفجر رأيت ((الباجي)) تدخل الغرفة محاذرة، متوجسة.. كأنها تتوخى أن لا تزعجني. فأغمضت عيني، متظاهراً بأني نائم أو حتى مستغرق في النوم... واقتربت، حتى حاذت السرير.. ثم أخذت توقظني بكلمات التدليل التركية.. ومعها بعض كلمات بالعربية المكسرة، وما هي إلاَّ هنيهة حتى سمعت صوت أُمي تدخل الغرفة وهي تناديني بنبرة لم تخل من استعجال واهتمام.
فتحت عيني وانقلبت بجسمي بحيث كان ظهري إلى أُمي والباجي معاً.. فكانت يد أمي هي التي تهزني.. وتقول:
:ـ. هيّا قوم يا عزيز... قوم اتوضأ وصلِّي.. عشان نروح الكتّاب.
عندما كنَّا ـ أُمي وأنا ـ نتجه إلى باب البيت للخروج، كانت هناك الدكة العريضة التي يرتفقْها الجنديان... وكان أحدهما ـ محمد علي ـ مرتديا بزته العسكرية واقفاً، ثم انطلق يفتح الباب ويتقدمنا في الخروج... كانت يدي في يد أُمي، وهي في ملاءتها ((التركية)) وقد اسدلت على وجهها ما يسمى ((البيشة))... لم أفهم مشى الجندي محمد علي أمامنا.. فسألت أُمي بصوت أقرب إلى الهمس... هل يذهب معنا ليبقى معي في الكتّاب ؟؟ وكان صوتها وهي تجيبني مختنقاً.. ربما كانت تبكي:
:ـ. لا.. لا.. بس نبغاه يعرف الكتّاب عشان يروح يجيبك، بعد العصر.. ثم مدت يدها الأخرى لأرى قفة صغيرة مزخرفة من سعف النخل ـ لها إسمها الذي انسيته اليوم ـ وقالت:
:ـ. في القفة غداك في الظهر.. شريك، وجبنه، وكمان تمر من اللي تحبه.
كان الذي يشغل ذهني منذ الليل، هو ((اللوح)) الذي تتمحور حوله مشكلة أن أحفظه فلا ((يفرشني الشيخ بالجريد الأخضر والخيزرانة المبلولة بالمويه)) وإن لم أحفظه، فلا شيء إلا ((الفرش)).. ووجدت نفسي غير عابىء لقفة الغداء.. فسألت أُمي:
:ـ. يا ففَّم.. فين اللوح؟؟
:ـ. اللوح يعطوك هوّه في الكتّاب.
وكان طريقنا إلى ((باب المجيدي)) عبر سوق الخضرة ثم الانعطاف منه يساراً إلى ((باب الرحمة))... والانطلاق مع جدار الحرم، إلى عطفة ننتهي منها إلى باب المجيدي.. لاحظت أن الجندي ـ محمد علي ـ أخذ موقعه خلفنا لأن أُمي هي التي تعرف الطريق.
* * *
وعند مدخل باب ـ المجيدي ـ العريض كان هناك المخلوق العجوز الأسود الذي عرفت فيما بعد أنه ((البواب)).. وقفت أُمي، بينما رفع هو رأسه بلحيته البيضاء المتناثرة حول وجهه يسألها:
:ـ. إيش تبغي يا أُمي؟؟
:ـ. أبغا كتاب سيدي الشيخ العريف ابن سالم.
وأشار بيده إلى اليمين.. وهو يقول: ادخلي وأوقفي عند باب الكتّاب وهوه يجي.
وعند باب الكتّاب رأيت عدداً من الأولاد، يتحدثون، بعضهم يلتهم حبات النبق، وآخر ينهش قطعة من الخبز في يده.. ووقفت أُمي، وماتزال يدي في يدها، والجندي خلفنا.. وما هي إلا ثوان حتى رأينا شاباً يلف رأسه بشال ـ عرفت فيما بعد أنه من نوع يسمى ((الغباني)) يتقدم نحونا.. وقف على مسافة من أُمي وهو يقول:
:ـ. الشيخ دحّين يجي.. اقعدي أنت والولد هناك..
وأشار إلى جزء من الساحة المسقوفة بالقرب من ((الحصوة)).. ولكن قبل أن نتحرك هتف قائلاً:ـ خلاص الشيخ وصل..
والتفتنا لنرى الشيخ العريف ابن سالم، في جبته الزرقاء وعمامته ((المدنية)) يرتفقها أكابر أهل المدينة. وقف أمام أُمي وهو يقول مشيراً بأصبعه إليّ:
:ـ. هادا ولدك يا بنتي ؟
:ـ. أيوه.. هادا ولدي يا سيدي الشيخ.
:ـ. وهادا العسكري التركي قريبكم ؟
:ـ. لا يا سيدي الشيخ.. هادا بس. جا عشان يعرف الكتّاب.. وهوه اللي يجي يأخذو بعد صلاة العصر.
:ـ. طيب فين أبو الولد يا بنتي؟ مسافر؟
:ـ. أبوه يا سيدي الشيخ.. أبوه مسافر من زمان..
:ـ. في الشام؟
:ـ. لا.. في بلاد القازاق.. سافر قبل ((سفرْ برْلك)) ولحدّ الآن ما ندري عنه.
:ـ. يعني ما جاكم خبر أنو مات؟
:ـ. ولا حس ولا خبر.
:ـ. ايش اسمه يا بنتي ؟
:ـ. اسمه زاهد.. يمكن تعرفوه يا سيدي الشيخ.. هادا ختم الختمة كلها في آخر صلاة التراويح في رمضان.
بدا على ملامح الشيخ شيء من التنبه والاهتمام.. ووجه نظراته إليّ.. ثم قال:
:ـ. أيوه يا بنتي.. كلنا نعرفه.. الشيخ حمزة خليل، هو اللي قسّم علينا كلنا الشربيت.. وموية الكادي.. وقدم له شهادة مكتومة بماء الذهب.. اسألي عنه الشيخ حمزة خليل.. يمكن عنده خبر عنه.. ودحّين تبغى تدخلي الولد عندي ؟
:ـ. أيوه يا سيدي الشيخ.. بس ما عرفت اشتري له اللوح، والمضيرْ والدواية والقلم ((البوص)) قالوا لي أنكم أنتو اللي..
وقبل أن تكمل جملتها التفت الشيخ إلى ذلك الشاب.. وقال:
:ـ. اكتب اسمه.. وعمره.. واسم أبوه و
والتفت إلى أُمي يسألها:
:ـ. ما قلتيلي ايش اسم الولد؟
:ـ. اسمه ((عزيز)).
:ـ. العزيز هو الله.. اسمه عبدالعزيز.
:ـ. ايوه هو اسمه عبدالعزيز.. لكن أنا دايماً أناديه ((عزيز)).
:ـ. خلاص.. خلّيه يدخل.
والتفت إليّ ورأى الحذاء اللامع في قدمي.. فقال:
:ـ. قبل ما تدخل.. فسخّ الكُندرة.. وحطها في الرف اللي جوّه.. رف الكنادر والمُدسْ، وتركت يد أُمي وتقدمت للدخول، وخلع ((الكندرة)) حيث وقف إلى جانبي ذلك الشاب، وغمرتني ضجة الأولاد، وهم يرفعون أصواتهم بالقراءة، وأمام كل منهم اللوح الذي عرفته الآن.. وعرفت أني سآخد مثله مع أشياء أُخرى من سيدنا ((الشيخ)).
وأرهفت سمعي، حين سمعت أُمي تقول للشيخ:
:ـ. لحْمُه لك يا سيدي الشيخ.. وعضمه..
وقاطعها الشيخ وفي صوته نبرة ضاحكة وهو يقول:
:ـ. كلهم يا بنتي.. لحمهم لنا.. وعظامهم لأمهاتهم وأبَّها تهم، كل اللي أبغاكي تفهميه طيب هوه أنُّوا لازم يحفض اللوح كل يوم... أنتي تعرفي القراية.
:ـ. أيوه يا سيدنا الشيخ أنا أقرأ وأكتب كمان..
:ـ. ما شاء الله.. بس أنتي ما قلتيلي.. أنتي بنت مين يا بنتي؟
:ـ. أنا يا سيدي الشيخ، بنت الشيخ أحمد صفا.
ورفع الشيخ صوته هاتفاً: وهو يقول:
:ـ. الشيخ أحمد صفا؟ بشريني يا بنتي.. كيف حاله؟
:ـ. أبويا مات في حلب.. مع اللي ماتوا.. أنتوا يا سيدي الشيخ ما رحتوا حلب.
:ـ. لا يا بنتي.. أنا ما خرجت من المدينة.. رحمة الله عليه ألف رحمة.. خلاص يا بنتي، اتْطمني.. ولدك هوّه ولدي..
:ـ. ربّنا يخليك ويجزيك بالخير.. متى يجي هاد العسكري عشان يأخده؟
:ـ. بيتكم في الساحة.. مو كده ؟
:ـ. أيوه في زقاق الطوال.
:ـ. زقاق الطوال ؟؟.. ولاَّ زقاق القفل ؟؟ أنا أعرف الشيخ أحمد صفا كان طول عمره في زقاق القفل.
:ـ. لا.. دحّين في بيت زوجي.. في زقاق الطوال.
:ـ. طيب.. أنا ومحمد ساكنين في زقاق الحبس.. يمكن نوصله معانا لراس زقاق الحبس وهو لابد يعرف يوصل.. وما يحتاج يجي العسكري.. لا تخافي عليه أبداً.
* * *
ومشيت خلف الشيخ وقد هب جميع الصبية واقفين إلى أن جلس على مصطبته في صدر الكتّاب وهنالك إلى جانبه، في متناول يده رأيت ((الجريدة الخضراء))، وإلى جانبه أكثر من خيزرانة... والأهم من كل ذلك ((الفلكة))... معلقة على الجدار خلفه.. أما أنا فقد أجلسني محمد بين ولدين في مثل سني.. وارتفع صوت الشيخ يقول:
:ـ. اقرأ يا ولد!!
وارتفعت أصوات الأولاد تقرأ.. وفي حجر كل منهم أو بين يديه ((اللوح)).
وكان ذلك أول يوم لي في كتّاب الشيخ ((العريف محمد بن سالم))...ولا أدري حتى اليوم ما سبب شهرته بـ ((العريف)).. رحمه الله.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :823  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 58 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج