شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أنا اللي أوديك الكتاب
ظل يحي معي في الغرفة، ولكنه كان لا ينسى أن (سيده حسين)، لابد انه الآن يبحث عنه وانه لا يكاد يجدُه، حتى يهوي علي جسده بالعصا، أو بجُمْع يده... وبالكَفْ (اللي يصرع) على وجهه... ثم (مَصْع الاذنين) إلى أن يكاد ينتزعهما... كان يضف لي ما يقع عليه من أخيه، مؤكدا ان هذا ما ينتظره في اللحظة التي تقع فيه عيناه عليه. ولذلك فهو لا يدري ماذا ينبغي ان يفعل.... وبعد أن تناولنا طعام الغذاء الذي جاءتنا به (الباجي)... وهو يحدثني عن مرات كثيرة تعرض فيها لسخط اخيه وضربه.. وعجْزِ امه عن ان تفعل شيئا غير صيحاتها المتوالية (يتوب... يتوب). قال فجأة:
: ـ. اسمع يا عزيز... انا خليني اخرج...
: ـ. لكن... لكن فين ؟؟.. فين تروح ؟؟؟ اخوك
: ـ. ما ادري فين أروح ؟؟؟ لكن لازم أخرج... امك اذا أخذتني لسيدي حسين.. رايح يُرجني العلقة، وما أنام الا وانا عضامي مكسَّرة...
: ـ. لكن امي رايحة تتشفَع لك... هيه بنفسها قالت تعرف سيدك العجوز..
: ـ. هادا سيدي حسين.. كل ما واحد يتشفع.. كل ما يزيد هوَه في العلقة... ينتظر... يسكت إلين اللي يتشفَع لي يروح.. وبعدين (فين يوجعك)..
: ـ. طيب بس فين تروح.؟؟؟
: ـ. أروح العوالي... انت ما تعرف العوالي ؟؟؟ هادي فيها (بِلْدان) وأصحاب البلدان يبغوا اللي يسوق لهم حمار السواني... هوه يسوق حمار السَّواني... وهم يخلوه ياكل مع أولادهم وعيالهم... يعني ما يجوع...
وقطعت أمي حوارنا، حين دخلت علينا، وهي تبتسم... وبعد ان جلست على طرف السرير التفتت إلى يحيي، وقالت: ـ.
: ـ. انت خايف من سيدك حسين ؟؟؟
: ـ. لازم اخاف يا خالة... هادا يضرب على أقل شيء... وأنا اليوم مع عزيز حصل مننا اللي ما يمكن أبدا، انو يسكت عنه...
: ـ. طيب... لكن انت ليه سوّيت كده؟؟؟ ليه تبغا تشيل قُفة وتشتغل...
: ـ. عشان اجيب فلوس... ما هو عزيز كمان.. كان اشترى القفة عشان يشتغل ويجيب فلوس. وهنا التفتت اليّ وفي وجهها تعبير عن الدهشة وقالت:ـ.
: ـ. الله؟؟؟ هوة عزيز اللي اشترى القفة ؟؟؟ بكم اشتراها ؟؟
:ـ. ايوه.. هوة اللي اشتراها بخمستاشر قرش...
:ـ. بخمستاشر قرش؟؟؟
والتفت اليّ أمي وفي وجهها ذلك الانفعال والتوتر الذي أعرفه.. ومع انها نادرا ما تضربني، ولكنها تهدد بالضرب... وقالت:
:ـ. خمستاشر قرش ؟؟؟ ومنين جبت الفلوس يا عزيز ؟؟؟ أهرج قوام..
ولم يمهلها يحي... أو هو لم يمهلني لأقول شيئا.. فقد اسرع يقول:
:ـ. أنا.. أنا ياخالة... انا اللي ديّنته مجيدي براسه.. اشترى منه القفة بخمستاشر قرش.. والباقي اشترينا نبق، وسكرية.. وعنده كم قرش دحين..
وهدأت أمي... ولكنها قالت:
:ـ. يعني انت يا عزيز اتديّنت الفلوس.. وانت يا يحي منين ؟؟؟ منين جيبت المجيدي براسه.
:ـ. من العيديات... ومن الهلله والهللتين اللي تجيني من أمي.. ومن سيدي عبدالنبي
:ـ. طيب وانت يا عزيز... منين رايح تعطيله المجيدي اللي اخدته من يحي.
والتزمت الصمت.. وطال صمتي اذْ لم اكن ادري في الواقع من اين استطيع ان ادفع المجيدي وقد ضاعت القفة.. واصبح من المستحيل الآن ان (اشتغل... وأجيب فلوس) كما كنت اعتزم واخطط.
وهنا تدخل يحي يقول:
:ـ. خلاص المجيدي راح... والقفة راحتْ... واللي قدّامي هو العلقة... وخلاص.
ضحكت أمي... وقالت:
:ـ. اذا اعطيتك المجيدي اللي براسه... تروح معايا البيت... واتشفع لك... ولكن (تتوب). وما كاد يحيي يسمع هذه الكلمات حتى هب يهتف:
:ـ. والله... والله يا خالة... اتوب...اتوب.
:ـ. لكن انت... عزيز بيقول... ما تبغا تروح الكتاب.
:ـ. ايوه يا خاله... ما ابغا اروح الكتاب... الفرش... بالجريد الأخضر... وبالخيرزانه.
:ـ. لكن اذا حفضت اللوح... مافي فرش... ولا جريد اخضر...
:ـ. أنا ابغا اتعلم صنعة... ابغا اسير نجار..
وضحكت أمي مرة اخرى وقالت:ـ.
:ـ. وليه نجار يا يحي ؟؟؟
:ـ. عشان فيه واحد نجّار هنا في الساحة... شفته بنفسي يسوّي (السحّارة)، ويبيعها للبدوي بأربعة مجايدة... وأنا شايف أني أقدر أسوّي السحّارة... والنشّابة... وحتى المِنْسج.. أنا أوقف عنده... وأشوفُه وهوّه بيشتغل.. وهُوّه يبغا واحد صبي صنعة زيّي..
ونهضت أُمّي، وهي تضع يدها في صدرها، وتخرج منديلاً.. تخرج منه مجيديا.. تعطيه يحيى.. وهي تقول:
:ـ. هادا المجيدي.. وأنت قلت تتوب.. أنا رايحة أتشفع لك... وما دام تبغا تتعلم صنعة.. أنا كمان أقول لأمّك وسيدك حسين.. يخلّوك تتعلم الصنعة اللي تبغاها وما كدت أنا أسمعها تتسامح في حكاية تعلم الصنعة حتى أسرعت أقول باهتمام:
:ـ. وأنا كمان يا أُمّي.. أنا كمان أبغا أتعلم صنعة.. أنا أعرف دكان هادا النجار أللي بيقول عليه يحيى...
وانتفضت.. وهي تلتفت إليّ تقول:
:ـ. أنت يوم السبت تروح الكتّاب... وتتعلم... وبعدين تشتغل شغل الناس الكبار. وقاطعها يحيى بجرأته المعتادة يقول:
:ـ. يا خالة.. كيف تبغيه يشتغل شغل الناس الكبار.. وهوّه صغير.. أصغر مني ؟؟ ومرة أُخرى زايلها عبوسها وتوترها وضحكت وهي تقول:
:ـ. الناس الكبار يا يحيى همّ المشايخ.. اللي لازم بْتشوفهم في الحصوة في الحرم والناس قاعدين حواليهم.. يسمعوا منهم العلم.. القرآن.. والتفسير.. والحديث.. وعشان الواحد يسير زي هادول المشايخ.. ويسير صاحب حلقة في الحصوة.. لازم يروح الكتّاب.. ويتعلم.. وكمان يمكن يشتغل شغل الأفندية.. يعني ((باشكاتب)) ويمكن (محاسبجي).. ولاّ يمكن (حكيم) يعني دكتور.. وكمان يمكن (ضابط)...
:ـ. وهادول اللي بتقولي عليهم.. منين يجيبو فلوس ؟؟ مين يعطيهم فلوس؟؟
:ـ. أنت بتقول سيدك حسين بيشتغل كاتب عند التاجر..
:ـ. أيوه.. بس الفلوس اللي بيعطيله هيّه ما تكفي.. النجار بيبيع السحارة بأربعة مجايدة.. والتاجر ما يعطي سيدي حسين في آخر الشهر إلا سبعة مجايدة بس... يعني النجار يبيع سحارتين في اليوم.. ويجيب فلوس أحسن من اللي بيأخذها سيدي حسين من التاجر في الشهر بطوله.
:ـ. بس برضه، رايح يجي يوم، وسيدك حسين يمكن هوّه يتعلم التجارة ويسير تاجر... وفي التفاتها للخروج عنّا قالت:
:ـ. أنا بعد شويّه أناديكم.. أنت يا عزيزي تلبس الشراب والكُندرة.. وشوف التوب النضيف معلق.. غسّل وجهك أنت ويحيى.. لا أشوفكم وسخين... ونروح سوابيت العم عبدالنبي. وخرجت.. وما كادت، حتى فتح يحيي يده يتأمل المجيدي الذي أخذه من أُمّي.. وقال وعيناه تبرقان بفرحة:
:ـ. هادا المجيدي ورجع لي.. والقُفة.. لابد الأفندي تركها عند راعي الدكان.
* * *
كنت في السن التي أصبحت أعرف فيها أن اليوم الذي يلي يوم الجمعة هو يوم السبت.. وقد انقضى يوم الجمعة، دون أن يسمح لي بالخروج للعب.. وأصبح مفهوماً ومقرراً في ذهني أني لابد أن أذهب إلى الكتّاب يوم السبت.. ولكن لم يكن في ذهني شيء عن الطريقة التي يذهب الأولاد فيها إلى هذا الكتّاب.. ثم أين هو؟؟ وكيف أهتدي إليه وحدي ؟؟ لابد أن أحداً ما سيأخذني إليه؟؟ فمن هو ؟؟ ثم هذا اللوح.. ما هو ؟؟ وكيف يحفظونه؟؟ وكيف يعرف الشيخ...، شيخ الكتّاب، أن الولد لم يحفظه؟؟ أسئلة كثيرة ظلت تتردد وتدور في ذهني.. وقد زاد في احساسي بالضيق والكرب، أن أمُي وعمي، ومعهما الباجي العجوز.. وغيرهم لا يتكلمون إلا التركية.. وعندما أكون جالساً مع أُمي وعمي.. لتناول الغذاء أو العشاء قد يقولان لي شيئاً بالعربية.. في حدود الفاظ التدليل أو التحبب، أو ما إلى ذلك.. ولكن بعد ذلك يظل الحوار بينهما يدور بالتركية..
وفي الليل.. مساء الجمعة.. ونحن على مائدة العشاء.. دار بين أُمي وعمي حوار بالتركية أدركت أنه حول ذهابي إلى الكتّاب غداً.. ولفت نظري أن عمي كان مسروراً وهو يتحدث عني وينظر إلي.. واذ كنت أتابع الحوار في محاولة لفهم ما يدور.. التفت اليّ.. وربّت خدي بيده وهو يقول:
:ـ. أنت لازم تسير ولد شاطر كتير..
ولم أدر بماذا أُجيب... ولكني ابتسمت. وقلت في نفسي..
:ـ. أنه اللوح الذي لا بد أن أحفظه لأكون الولد الشاطر.. واذا لم أحفظه فالجريد الأخضر.. والخيزرانة... ووجدت في نفسي شيئاً من الجرأة لأقول:
:ـ. بس فين اللوح يا ففَّم ؟؟
:ـ. لوح إيه؟؟
:ـ. اللوح الِّلي إذا ما حفظته يفرشني الشيخ بالجريد الأخضر..
ضحكت أمي وضحك معها عمي أيضاً.. وأخذ يقول:
:ـ. الشيخ يضرب بالجريد الأخضر ؟؟
وأسرعت أقول:
:ـ. أيوه... اللي ما يحفض اللوح الشيخ يفرشه بالجريد الأخضر.. وبالخيزرانة كمان.
وقالت أمّي:
:ـ. لكن أنت رايح تحفض اللوح.. واللي يحفض. ما أحد يفرشه أبدا.
وقاطعها يقول:
:ـ. لكن ليه بالجريد.. بالخيزرانة ؟؟ حرام.. هادا ولد صغير..
:ـ. يعني عندكم في اسطمبول.. الشيخ ما يضرب اللي ما يحفض اللوح؟ وضحك ضحكة خفيفة وهو يقول:
:ـ. في اسطمبول. الشيخ يضرب.. لكن بعصاية صغيرة. على اليد.. جريد أخضر ما في في اسطمبول.. كمان لوح ما في.. فيه كِتابْ... فيه لوح ((أردواز)).. تباشير...
:ـ.... نحن عندنا فيه اللوح.. وفيه الشيخ اللي يضرب بالجريد.. وبالخيزرانة... لكن ما يضرب اللي يحفض اللوح.
وهنا وجدت نفسي أسألها باهتمام:
:ـ. لكن.. فين اللوح ؟؟؟ من فين أجيب اللوح... وكيف أشيل اللوح.. ؟؟
:ـ. أشوف لسانك طلع ؟؟ اللوح، يعطوك هوّه في الكتّاب.. وتشيله تحت باطكْ..
ولأول مرة في حياتي فهمت أن هذا اللوح، ليس شيئاً ضخماً، كتلك الألواح التي ترسل إلى الأفران، لخبز أقراص العيش..
واذ كنت قد فرغت من العشاء.. نهضت عن المائدة.. واتجهت للخروج إلى الغرفة التي أصبحت مخصصة لي.. وأدركتني أُمي فيها... ونبهتني إلى غسل يدي وفمي.. فلما فرغت، وعدت إلى الغرفة.. رأيتها تقف.. وتأخذني في حضنها.. تضمني ثم تقول:
:ـ. هيّا نام يا عزيز.. وعبّي نفسك بكرة للكتّاب..
:ـ. لكن فين ؟؟ فين الكتّاب ؟؟ كيف أروح له ؟؟
وعادت تضمني.. وتقبلني.. وجلست على السرير إلى جانبي وهي تقول:
:ـ. أنا.. أنا اللي آخذك، وأروح معاك الكتّاب... وأنا كمان أخلي اسماعيل يجيبك..
هيّا لا تخاف. خّليك رجّال...
ونهضت.. وغادرت الغرفة.. وكلمة (خليك رجال) هذه تتردد في ذهني.. اذ تذكرت تلك المرة التي قالت لي فيها هي.. ثم بدرية: (إنت رجّال البيت). فمن هو الآن رجّال البيت ؟؟.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :696  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 57 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الغربال، قراءة في حياة وآثار الأديب السعودي الراحل محمد سعيد عبد المقصود خوجه

[قراءة في حياة وآثار الأديب السعودي الراحل محمد سعيد عبد المقصود خوجه: 1999]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج