شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أخبار الزاكور
وأخبار الدادة ((منكشة)) ملقاة على الأرض
ولكن، قبل أن نخرج من باب الديوان، ترامت إلى أسماعنا ضجة، أو لغط أصوات رجال وأطفال... وحين كان العم محمد سعيد يدخل، كانت أمي، ويدها في يدي، قد أخذت طريقها إلى باب الزقاق... اللغط الذي كنا نسمعه، جعلنا نسرع الخطى، كأننا قد خشينا أن يفوتنا مشهد هذا المجهول، الذي جمع من نسمع اصواتهم من الناس... وهؤلاء كانوا متزاحمين على باب بيتنا، فتوقّفت أمّي، لنرى العم صادق، يسبق الشيخ (الزاكور)، ويفسح له الطريق وهو يقول:
:ـ ما يسير يا خواننا... ما يسير توقفوا كده... انتو تآذوا الشيخ.
وكان الشيخ (الزاكور) واقفا خلف العم صادق وفي يده اليسرى كيس داكن اللون جمع فوهته بين اصابعه، وما كاد المتزاحمون عند الباب يفسحون له الطريق، ويخطو خطوته الأولى للخروج حتى زلزلنا جميعا رعب صاعق... لأن احدهم صرخ صرخة عالية مزعجة وهو يقول:
:ـ شوفوه... شوفوه بيتحرك... بيتحرك..
وانزاح جميع الواقفين، واخذوا يتجهون في طريق الخروج من الزقاق، ومشى العم صادق، إلى جانب الشيخ (الزاكور) خلفهم... ومع أن الصرخة قد ملأتني رعبا، فأني لم أدرك،... لم أفهم ما يعنيه بكلمة (شوفوه.. شوفوه..) ثم من الذي يتحرك ولكن، سرعان ما فهمت كل شئ، فقد كان شئ ما في الكيس الذي يحمله الشيخ الزاكور وقد أحكم قبضة يده على فوهّته... شئ ما يتحرك، حركة من يحاول الافلات من محبسه... وسمعت أمّي، تهمس بتلاوة آيات من القرآن، وأحسست بيدها ترتعش، وهي ممسكة بيدي.... واستطاعت أن تتغلب على خوفها، لترفع صوتها منادية العم صادق:
:ـ يا عم صادق... من فضلك..
والتفت العم صادق، وبدلا من أن يقف، رأيت يده ترتفع إلى فمه يشير إلينا أن نلتزم الصمت... كأنّه يحذّرنا من أن نتسبب في شئ... وكان ذلك الشئ في الكيس في يد الشيخ (الزاكور)، مايزال يتحرّك... ولكن، رغم ذلك قالت أمّي:
:ـ يا عم صادق، دادة منكشة...
والتفت العم صادق، ومرة أخرى، دون أن يرفع صوته بكلمة، أشار بيده ما فهمنا منه، ان نلحق به... كان باب البيت مفتوحا... ألقت أمي نظرة عليه... وكأنها لم تر ضرورة لاغلاقه... فاتجهت، وماتزال تمسك بيدي في يدها، تلحق بالعم صادق... وعند مدخل الزقاق، كان هناك جمع آخر من الناس، واقفين وفي نظراتهم الترقب والفضول والرغبة في اكتشاف، ما فعله الشيخ ((الزاكور))... وكان اللَّغط الدائر بينهم هو، عن ((الساكن)) ... هل اخرجه الزاكور فعلا؟ أو انه لم يستطع أن يصل اليه. وكأن العم صادق، كان يدرك ما في نفوسهم، إذ ما كاد الشيخ ((الزاكور)) ينطلق في طريقه وذلك الكيس في يده، حتى قال العم صادق:
:ـ خلاص ياخواننا... الزاكور اخرج الساكن... وأخذه معاه... هيا فارقونا عاد... وأخذ بعضهم ينصرف إلى حال سبيله، بينما فضل آخرون أن يمشوا خلف الزاكور ونظراتهم لا تفارق ذلك الكيس داكن اللون، الذي يرون فيه شيئا يتحرك، ويحاول الافلات.
وكان ما يشغل بال أمي أكثر من أي شئ آخر، هو الدادة منكشة... فوقفت عند دكة دكان العم صادق، منتظرة أن يفرغ لها، ثم قالت:
:ـ يا عم صادق... الدادة...
:ـ أيوه يا بنتي... الحقيقة، عمك الشيخ الزاكور، شافها، ولكن قال هوه ماله شغل...
:ـ ماله شغل؟ طيب يعني، هيه زي ما سيبناها... مرمية على الأرض؟
:ـ الحقيقة... أنا لمّا الشيخ الزاكور، قال كده... أنا كمان خفت... وما أدري ايش لازم نسوى. الشيخ الزاكور، قال لازم واحد من أهل طريقة تانية... ما قال ليّ على اسمها...
وهنا سمعت أمي تردد: ((حسبي الله))... ثم قالت وفي صوتها حيرة وخوف:
:ـ بس يا عم صادق... الدادة معانا في البيت... أنا ما عندي أحد غيرها.
يعني... يعني ما يسير اشوفها مرميّة على الأرض، وما اداويها... يعني أشوف لها أحد يقوّمها.
:ـ انت باين عليكي خايفة منها... زي ما قلت لك... تعالي انت والولد عندنا.
البنات... أمونة، وأم السعد، يفرحوا بكم، وتتسلوا مع بعض.
:ـ عشت يا عم... بس أنت عارف... نحن من زمان... من يوم ما ركبنا البابور من المدينة إلى الشام، ونحن... أقصد أنا وهادا الولد... مِهَجْولين... زي الضايعين... حمدنا الله، اللى قدّر ولطف، ورجعنا المدينة... رجعنا بيتنا...
:ـ لك حق يا بنتى... بس كيف تسوّى... وأنت لوحدك مع هادا الجاهل... وهادى اللى مسكوها حقون رأسها... وما ندري هيه رايحة تقوم... ولا...
وقاطعته أمي، تقول:
:ـ يعني... يعنى يا عم صادق، يمكن تموت؟
:ـ الموت والحياة بيد الله... لكن أنا سمعت عن ناس... رجال وحريم، تجيهم هادي اللي يسمّوها ((القرينة))... وما تفكهم الين تاخذ عمرهم...
:ـ هيه دي اللي يسمّوها ((القريبة))؟
:ـ اظن كده... والعياذ بالله... بس... بس أقول لك... ليه، ما نشوف لك اننى والولد، مجلس عند ناس من اللى يأجروا بيوتهم للحجاج... لكن... لكن هادا يبغالو فلوس.
:ـ أنا يا عم صادق... عندي فلوس... لكن... ما هو هاين عليه، أسيّب البيت اللى ولدت فيه أنا، وخديجة، وعمر الله يرحمهم... وأروح اسكن في بيت مع ناس ما أعرفهم ولا يعرفوني...
:ـ لكى حق يا بنتي... وما أدري ايش أقول لك غير ربّنا يكون في عونك
:ـ طيب يا عم صادق... أنا أروح أشوف خالة فاطمة ايش تقول...
:ـ خالتك فاطمة؟ جماعة، محمد سعيد؟؟ همّا وصلوا من الشام؟؟
:ـ هوه أنت ما شفتو؟... الا... وصلوا اليوم... والعم محمد سعيد جاكم لمّا كنتو معاه.
:ـ لا... ما شفتو... كنت في الحنّية... خلاص اتوكلي على الله... واسكنى معاهم... البيت مقابل البيت... أنا لمّا كنت أجى اسلم على شيخ أفندى ـ رحمة الله عليه، في المقعد الصغير، كنت أسمع صوت خالتك فاطمة هادى كأنه معانا... وكان شيخ أفندي يتضايق كتير... وما انسى مرة، كنت عنده، وسمع صوتها بتهرج، يمكن مع أمك رحمه الله، عليها... ما قدر يصبر... قام... وفتح باب البيت، وصاح عليهم... سكتهم...
:ـ طيب يا عم صادق... يا ريت تتكرّم تيجي معايا، نشوف الدادة... نقوّمها ولا نداويها... ولكن العم صادق، بدا، أنه يخاف من ((القرينة)) أو من الحالة التي أصيبت بها الدادة فلم يتردد في أن يقول لأمي.
:ـ اسمعي يا بنتي يا فاطمة... أنا عندي اخواتك، أمونة... وأم السعد... أخاف عليهم من هادى المصايب... سامحيني... ما اقدر أروح معاكي... شوفي خالتك فاطمة جادة.
:ـ ليه... هيّه القرينة، تعدى... يعني زي الحصبة والجدرى...
:ـ اللي ما ادرى عنه... بس أنا باسمع عن هادى القرينة بتصيب كثير من البنات.
:ـ طيب يا عم صادق... ربنا يخليك ولا يحرمنا منك... أنا تعبتك معايا كتير.
:ـ لا يا بنتى... ما تعبتيني... انت بنت شيخ أفندي اللى كان بركتنا في الساحة كلها... بس خلينى بعيد عن هادى الدادة...
طيب... في أمان الله.
:ـ في أمان الكريم...
وتناولت أمي يدى في يدها... ودخلنا الزقاق في طريقنا إلى البيت... وكانت المفاجأة التي، جعلت أمي تخفق صدرها بيدها اليمنى، أننا رأينا ((الدادة منكشة)) بلحمها وشحمها تمشي في اتجاهنا. وما كادت ترانا... حتى أخذت تخرج من صدرها منديلا، تمسح به عينيها ووقفت تنتظرنا... أسرعنا اليها... ولم تر أمي ما يمنع ان ترفع صوتها وهي في الزقاق تتكلم بالتركية، عبارات، أفهم انها تعنى الفرحة والدهشة.: وما كدنا نقف أمام الدادة حتى انحنت المسكينة، تلتمس يد أمي تحاول تقبيلها... بينما تناولت أمي رأسها وهي تكرر عبارات الحمد لله...الخ...
وكان أهم ما تساءلت عنه الدادة، هو ((الساكن))... وعندما دخلنا الديوان في بيتنا كانت أمي تقص عليها تفاصيل ما حدث، وتؤكد لها أن الشيخ ((الزاكور)) قد أخرج الساكن وأخذه معه، والحمدلله... وأخذت الدادة بدورها تردد بالتركية كلمات ((الحمد لله))... أمّا عن الذي أصابها واسقطها على الأرض مغمى عليها، والتشنج، أو التخشب الذي شوهد عليها، فكانت المفاجأة الثانية، انها لا تدرى عن شئ مما نقول... كل الذي تذكره انها استيقظت من غفوتها، لتجد نفسها ملقاة على الأرض... وبلعومها أو حنجرتها جافة كالحطب... لم تجد من تطلب منه ماء... وخافت أن تدخل الحنية... فهي الآن تكاد تموت من العطش... أسرعت أمي إلى الحنية، وقد أخذتنى في يدها، ربّما لأنها خافت أن تدخلها وحدها... ومن الزير الفخار الصغير في الركن، ملأت كوز الماء النحاس... وجئنا به... تناولته الدادة ملهوفة وشربت منه، ثم دلقت ما بقى فيه على وجهها ورأسها... وتنفست الصعداء... ثم كررت عبارات الحمد لله.
كانت الدادة منكشة، هي التي ذكرتنا أننا لم نأكل شيئا منذ وجبة ((الرز البخاري)) وأنا من جانبي، استغربت، انى طوال ما يقرب من يوم، لم أشعر بالجوع... ولكن الآن، والدادة تسأل أمي عمّا اذا كانت قد تناولت فطورها، فقد أحسست كأن شيئا في احشائي يتمزق... وأسرعت أقول لأمي:
:ـ ايوه يا ففَّم... نحن ما نبغا نأكل اليوم؟
:ـ الا ياحبيبي... دحين...
ثم أخذت تتحدث إلى الدادة، عن الجنية ((العسمنلى)) الذي استلمته من الرجل الذي جاء يستأجر الدكاكين... اخرجته ملفوفا أو مصرورا في منديل من صدرها... وكانت تحاول أن تخرجه من المنديل، عندما رفعت الدادة يدها تستمهلها.... بينما أدخلت هي يدها في صدرها وأخرجت منديلا، وقد صرّت فيه نقودا... فكت الصرة، وأخرجت ريالا مجيديا، وأخذت تتحدث حديثا ادركت أنها تنصح به أمي أن لا تتصرف في الجنية الآن... وان ما عندها يكفي لشراء ما نحتاج اليه من الأكل... ثم نهضت متثاقلة، مرهقة، وتلفعت بما تستر به رأسها وكتفيها... وقالت انها ستذهب لتتسوق من دكان على مدخل ((حوش الجمال))... وكان ما اقترحت أمي أن تشتريه لنا، إلى جانب أشياء أخرى كالشاي والسكر، البيض والسمن واللحم، والجبنة ((الزقزق)) والدقيق، والتمر... والتفتت إلى أمي وهي تبتسم لتقول:
:ـ أنت، كنت بتقول ليّ ونحن على الجمل من ينبع... انك تبغا تأكل ((حيسة))، موكده؟ ولم أملك، دهشتنى، وأنا أسمع كلمة ((الحيسة)) هذه، إذ سألتها بفرحة غامرة.
:ـ يعنى، أمي منكشة رايحة تشتري لنا حيسة؟
لا... الحيسة ما يبيعوها... الحيسة أنا أسويها هنا في البيت... بس لما تجيب السمن والدقيق والتمر.
وبخروج الدادة، يبدو أن امي احست ـ ربما لأول مرة ـ بوحشة وفراغ البيت الذي قالت للعم صادق، انها ولدت فيه، هي وخديجة وعمر... ولا أدري ما الذي جعلني أنا أيضا أشعر بما حملني على أن أترك مكاني على طرف الدكة، لأجلس إلى جانبها ثم التمس أن تضمنى إلى صدرها... كانت الشمس، تفترش أرض الديوان، فلم يكن الظلام مثلا هو مبعث التخوف أو الرهبة أو الوحشة... لا... كان هناك الاحساس، بأننا ـ هي وأنا ـ وحدنا... وحيدين، ليس في هذا البيت فحسب... وانما في الدنيا كلها... ولعلى، لا أنسى حتى اليوم تلك اللحظات في ذلك اليوم، التي امتدت فيها يد أمي إلى وجهى... احتضنته بين كفيها، ورفعته لارى عينيها، تجول فيهما عبرات، ما لبثت أن أخذت تنذرف... ظلت ممسكة بوجهي هكذا، ثم تركتني، والتمست منديلها من صدرها، تجفف به دموعها... ثم تأوهت آهة قصيرة عميقة لتقول العبارة التي ما أكثر ما سمعتها ترددها منذ ذلك اليوم:
: وبعدين... وبعدين يا عزيز؟
ثم تعود فتحضننى، وتضمنى إلى صدرها بحرارة، ثم تقول في حرقة.
:ـ يا رب... يا رب... يا عزيز قول يا رب...
ومع انى أحسست، وأنا أرى دموعها، واحتقان وجهها، انها تتألم، الا انى لم ادرك شيئا من تلك المشاعر التي كانت تملأ قلبها خوفا من ذلك المجهول الملفع بالضباب... الذي لا شك انها لم تكن تدرى كيف يمكن أن تشق معى طريقها فيه... واستسلمت لضغط ذراعها حولي وهي تضمنى إلى صدرها، كأنها تخاف أن تفقدني أنا أيضا كما فقدت كل الذين ظلت تردد دائما انهم: ((راحو... كلهم راحو...)). كررت كلماتها:
ـ يا رب... يا رب... يا عزيز قول يا رب.
فأسرعت كمن تنبه من غفوة أقول بصوت منكسر خفيض...
:ـ يارب... يارب...
ولعلها المرة الأولى التي وجدت نفسي اختنق بالبكاء... فأبكى بحرقة، واتطلع إلى وجهها وعينيها، ثم أردد.
:ـ يارب.... يارب.
كانت المشكلة التي تحسبت لها من جانبي هي فتح الباب... باب الزقاق اذا ما طرقه أحد... كانت العتمة في الدهليز شبه مستقرة لا تتغير، حتى اذا كانت الشمس تفترش أرض الديوان... الدادة عندها المفتاح... لا تطرق الباب... ولكن الباب يطرق فعلا... سمعناه ـ أمى وأنا ـ فتشبثت بمكاني إلى جانبها وذراعها ماتزال حول جسمى.
ولكن عاد الباب يطرق بوضوح، وبأكثر شدة... ادركت أمي انى أتخوف الذهاب لفتحه... فنهضت، وأسرعت تضع على رأسها شرشف الصلاة... وقالت:
:ـ هيّا قوم نروح نشوف الباب سوا... لا تخاف...
ومشيت معها، وكان الباب مغلقا... وقبل أن نصل اليه عاد الطارق، يطرقه مرة أخرى... يظهر أن أمي كانت أكثر تحسبا وخوفا مني... ولا أدري ما الذي جعلها تشعر بهذا الخوف... واذا كان لا بد ليّ أن أعلل لذلك اليوم، وأنا أكتب هذه السطور، فليس من تعليل سوى. أحداث ((الساكن)) والزاكور.... وما اصاب الدادة منكشة، والاحساس الغامر بأنى واياها وحيدان... وحيدان تماما في هذا العالم... وامام المجهول الرهيب.
رفعت صوتا خفيضا تقول:
:ـ مين؟
فأجابها صوت الرجل الذي دفع الجنية ((العسمنلى)) ووعد أن يجيئها بالخمسة الباقية غدا... قال:
:ـ بنت الشيخ أفندى موجودة؟
:ـ ايوه يا عمى... أنا فاطمة...
:ـ يا بنتى... أنا قلت لك أجى في الضحى... أجيب لك الخمسة جنيهات... لكن حصل خير... أتأخرت... هيا خدى الخمسة جنيهات... وامضى لىّ السند...
: ـ لكن يا عمى... مسألة الشهود. دحين ما نلتقى أحد.
:ـ الشهود بكرة... ولا بعد بكرة... انت ما دام تمضى السند بخط يدك... ما في خوف هيا من فضلك خدى الفلوس... وأنا ترى بسطت الدكاكين خلاص... زىْ ما اتفقنا...موكدة؟
:ـ إلاَّ يا عمّى... ربنا يبارك لك...
: ـ طيب هيّا افتحي الباب... وخدى الفلوس.
وتقدمت أمي خطوات قليلة، ودفعتني أمامها، وفتحت الباب مواربا...
وقالت للرجل:
:ـ خلى الفلوس عندك ياعمى... عشان أنا دحين ما عندي قلم ولا دواية...
وحتى المُهر اللى عندي... يبغاله حبر...
وهنا لم يسع الرجل الا أن يقول:
:ـ يا بنتى، ما دام أنا بسطت الدكانين... ما يجوز إنى ما أدفع الفلوس...
خلاص من فضلك... استلمى الفلوس... وأنا أجى بكرة أجيب لك السند
وتكونى أنت حضرتى القلم والحبر...
. ومدّ الرجل يده من فجوة الباب... ودفعتنى أمي، وهي تقول:
:ـ استلم من عمّك يا عزيز
ومددت يدى، وأخذ الرجل يضع فيها الجنيهات ((العسمنلي)) الخمسة واحدا بعد الآخر وهو يرفع صوته كلما وضع واحدا قائلا:
:ـ واحد... اتنين... تلاته...
وكان هذا أول تعامل مالي في حياتي... حادث أن استلم... أو أن يضع رجل هذا المبلغ من الجنيهات ((العسمنلي)) الذهبية في يدي... كان لون الذهب مغريا بأن اتأمله... وسرعان ما تذكرت القنبلتين النحاسيتين اللتين حملتهما من حافة القلعة في حلب... تذكرت أني حملتهما لتبيعهما أمي، كما باع جدي لها أسورة ذهبية بمبلغ من الريالات المجيدي بعد حادث السطو على منزلنا في حماة.
وانتظر الرجل، إلى أن تناولت أمي المبلغ من يدي، وسمعها تقول له:
:ـ عشت يا عمي... وبكره ان شاء الله... احضر الدواية والقلم...
:ـ وأنت يا بنتي ما قصرّتي... ورحمة الله على شيخ أفندي... في أمان الله.
:ـ في أمان الله.
وقبل أن أغلق الباب... كانت خطوات الدادة منكشة، تقترب، ورآها الرجل، فضحك يقول لها بلغة تركية مكسرّة... ما يعني، شيئا من الترحيب...
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1008  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 29 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج