شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
سلالة الساكن والأشباح والكنز
دخلت الدادة، وهي تحمل هذه المرة في يدها زنبيلا لاحظت أنه جديد لم يسبق أن رأيته بين الأشياء القليلة التافهة التي كنت اراها في البيت... ومع أنه كان من الواضح أنها متعبة مرهقة فقد كان وجهها يعبر عن رضا وارتياح، وربما عن رغبة في أن تعبر عن هذا الرضا... إذا ما كدنا نعود إلى الديوان، وتضع هي الزنبيل على الأرض، حتى أسرعت تخرج من الزنبيل ما تسوقته من السوق الذي قالت أنه عند ((حوش الجمال))... أغذية ومأكولات كثيرة كان ما لفت نظري منها ذلك الرطب الأحمر، وليس مقاسا واحدا، بل مقاسان... كبير طول الواحدة منه طول الأصبع، وصغير لا يزيد طول الواحدة، عن عقلة الأصبع... وقد عرفت فيما بعد مع الأيام أن الكبير يسمى ((الحلوة أو الشلبية)) وأن الصغير يسمى ((الحِلَية))... بل عرفت أن تمر ((الحليّة)) هذه، يستهلك لشرب الشاي ((الطَّلْخ))... أي غير المحلى بالسكر، كنوع من المزاج.
واستعجلتُ أمي، وأنا أتناول رطبة بعد أخرى، أن تصنع ((الحيسة)) التي قالت أنها هي التي تصنعها... ولكنها اسكتتني ضاحكة وهي تقول:
:ـ ما أحد يأكل الحيسة، إلا في الليل أو في الصبح... دحّين نبغا نتغدى.
وأخذت الدادة تعيد جمع الأشياء في الزنبيل، ثم مدّت يدها ببضع قطع النقد من النيكل والنحاس، فهمت أنها ما بقي من المجيدي، كأنها تطمئن أمي على أن كل ما بقي من المجيدي هو هذه القطع... وقالت لها أمي بالعربية هذه المرة.
:ـ طيب... طيب... انت دحين لكي عندي واحد مجيدي... وخلي الباقي دحين بعدين، نتحاسب.
ثم سألتها وهي تفتح صرّة اخرجتها ـ كالعادة ـ من صدرها وتبسط محتواها من الجنيهات العسمنلي التي جاء بها العم الذي استأجر الدكانين.
ـ الجنيه يجيب كم مجيدي؟
وحملقت الدادة عينيها، بل رأيت هذين الحملاقين كأنهما يدوران في كل اتجاه، وهي ترى هذه الجنيهات، ثم حكت بيدها السمراء، طرف جبهتها الملفعة بغطاء رأسها وقالت كلمة واحدة فقط، أعرف أنا معناها وهي: ((لا أعرف)). ثم أخذت ترطن كلاما كثيرا، قالت لي أمي فيما بعد، أنها حذرتها من أن يرى أحد هذه الجنيهات الذهب، لأن الذين نهبوا البيوت بعد خروج فخري باشا من المدينة، كانوا يكسرون الدواليب والصناديق ((السيسم)) الكبيرة وحتى الحديد، بحثا عن الذهب... بل أنهم قتلوا أحد عبيد بيت الصافي، لأنه قاومهم وهم يكسرون أحد الصناديق.
ولا شك أن أمي، كانت سعيدة جدا بأنها أصبحت تملك هذه الجنيهات الستة بعد أن كانت لا تملك إلا ريالا مجيديا واحدا، لفترة طويلة امتدت طوال الرحلة من حلب، وحتى باب بيتنا في زقاق القفل... وبعد أن قضت بضع لحظات تقلب الجنيهات وتهزها في كفها، شرعت تعيد صرها لتضعها ـ كالعادة في صدرها.. وهنا استوقفتها الدادة، وأخذت تقول كلاما طويلا لم أفهم منه شيئا، ولكني لاحظت أن أمي كانت شديدة الاهتمام بما تسمع، فلم أملك إلا أن أسألها عما تقول، فاستمهلتني إلى أن تفرغ الدادة من كلامها ثم قالت:
:ـ هادي دادتك بتقول يا عزيز، كلام يخوف... بتقول، أنو هادول الناس اللي نهبوا البيوت برضهم بينهبوا... بيدخلوا البيوت اللي أهلها ما رجعوا من الشام... وبينهبوها وانها بتسمع أنهم كمان بيقتلوا أي واحد يلتقوه في هادي البيوت... بتقول أنها سمعت من السوق... انهم قتلوا واحد رجال في المناخة... عشان صاح لما شافهم وقال: حرامية... حرامية...
احسست أن أمي قد داخلها الخوف هي أيضا ولا شك أنها خافت، على الجنيهات الستة ثم علينا جميعا من القتل... وكان أهم ما روّعها كما فهمت فيما بعد، أن يقتلوا رجلا في المناخة... أي على مرأى ومسمع من الناس... والمناخة في المدينة المنورة ساحة كبيرة جدا تكون غاصة بالناس، فكيف يمكن أن يقتلوا أحدا فيها، لأنه صاح يقول: ((الحرامية....)) رأيتها تلتفت إلى الدادة، ويدور بينهما حوار، أحسست أنه طويل وكنت أشعر بالجوع فقلت:
:ـ ياففَّم... أنا جيعان...
والتفتت إلىّ منفعلة وأشارت إلى الرطب أمامي وقالت:
:ـ عندك الرطب... كل، ولا تهرج أبدا...
كان ذلك يعني أنها تواجه أزمة جعلتها تنسى، كل شيء عن الأكل، رغم أن الزنبيل مشحون بالمأكولات، ومنها الدقيق، والسمن، وحتى السكر، والتمر، الذي تصنع منه الحيسة. وكانت الشمس قد استقرت صفراء شاحبة، على أطراف ((الجلا))... وكأن أمي قد لاحظتني وأنا أرفع رأسي وأرى الشمس... فرفعت هي أيضا رأسَها، وقالت:
:فاتنا العصر، الشمس صفرت...
ثم نهضت مسرعة، ولحقت بها الدادة... ولكن قبل أن تدخلا الحنيَّة حيث زير الماء توقفت وقد تذكرت كل منهما ((الساكن))... والعجيب أن الدادة التي كانت تدخل الحنيَّة، ترددت بل تراجعت، ثم ذهبت إلى ((اللمبة)). اشتعلتها، وحملتها في يدها، ودخلت بها الحنيَّة وهي تقرأ أو تردد ((بسم الله... وأعوذ بالله... الخ...))... دخلت الحنيَّة واللمبة المشعلة في يدها... ولكن أمي لم تدخل وراءها... ظلت واقفة عند المدخل... وعادت الدادة، تحمل في يدها الثانية أبريقا من الفخار... ظلت تسكب منه الماء وأمي تتوضأ... ولأول مرة رأيت أمي تقوم بسكب الماء على يدي الدادة وهي أيضا تتوضأ... فهمت أنا، ليس فقط أنهما تخافات دخول هذه الحنيَّة التي كان يكمن فيها ذلك ((الساكن))، وانما أيضا أن لا سبيل، لا إلى ((الحيسة)) الموعودة، ولا إلى غيرها، ما دامت كل أواني الطهو، في الحنيَّة، ولم يعد أحد يجرؤ على دخولها... وما هي إلا بضع دقائق، حتى ارتفع صوت المؤذن عن بعد... لا أدري ما الذي جعل أمي تصغي إليه ثم تقول فيما يشبه الهمس.
ـ النجدى...
ولم أفهم لحظتها شيئا، ولكن فيما بعد فهمت، أن في المدينة المنورة... مجموعة من المؤذنين الذين يرفعون الآذان من مآذن المسجد النبيوي الشريف في كل وقت من أوقات الصلاة الخمس... وأن لهم رئيسا هو الذي يرفع الآذان من منارة اسمها ((الريّسية))، وهي المتميزة بشكل يختلف عن المآذن الأخرى...ومن هؤلاء المؤذنين ثلاثة عرفوا بأصواتهم الجميلة القوية وكان معيار القوة في هذه الأصوات، أنها كانت تسمع في ((أبيار على)) وعلى الأخص في أوقات الفجر، والعشاء... وعرفت مع الأيام، أن جميع أهل المدينة يعرفون ويميزون صوت مؤذن ما عن أصوات الآخرين، فلا يكادون يسمعون الصوت، حتى ينصتون، ويقول أحدهم للآخر:
:ـ حسين...
فإذا ارتفع صوت الآخر يقول المستمع:
:ـ وهادا عبد الستار.
ويرتفع صوت المؤذن الثالث فيقول المستمع الآخر
:ـ وهاد النجدي.
وكانوا يصفون صوت ((النجدي)) بأنه ((داوودي)) وكثيرون يعجبهم ويرتاحون إليه، لأنه صوت عريض يختلف عن صوتي حسين بخاري، وزميله عبد الستار بخاري، ليس بجماله فقط، إذ كلهم متميزون في المدينة كلها بجمال أصواتهم، بل قيل أو يقال، أن المؤذن في مآذن الحرم النبوي الشريف، كان وظيفة أو ((مقاما)) من وظائف الشرف، التي لا يكفي في الحصول عليها مجرد جمال الصوت أو قوته، بل هناك شروط أخرى من أهمها أن يكون من عائلة حسنة السمعة والمكانة اضافة إلى حسن السيرة والسلوك... أما الموافقة على تعيينه في هذا المقام الكبير، فلا بد أن تصدر من الاستانة نفسها بعد سلسلة من الاجراءات تتم بمعرفة ((شيخ الحرم)) وقاضي المحكمة والائمة والقراء.
بعد أن صلتا المغرب ـ الدادة وأمي ـ دار بينهما حوار قصير لم أفهم منه شيئا، ولكن رأيت الدادة، تعالج بُقْشة تضعها في أحد الأركان، ثم تخرج منها مصحفا من القطع الكبير، ما كادت أمي تتناوله منها، حتى أخذت تسألها أسئلة متتالية وبنبرة لم تخل من حدّة... وفهمت فيما بعد، أنه من الكتب الكثيرة التي تركها جدّي في ((المأخر)) ولعل الأسئلة كانت تتركز عن الذين نهبوا كل ما كان في البيت من أثاث... هل نهبوا الكتب أيضا؟؟؟ وماذا يصنعون بها؟؟؟ ثم إذا بالاسئلة تتطور، عن الدادة نفسها... هل كانت في البيت عندما دخله الذين نهبوه؟؟ هل دخلوه عنوة وبالقوة بعد أن كسروا الباب... أم أنها هي التي فتحته لهم... ومتى كان ذلك... في الليل أم في النهار... وفي أي وقت من النهار... ثم كان السؤال الذي ما زلت ألمح فيه فطنة أمي وذكاءها، في نفس الوقت عجز الدادة عن الاجابة المعقولة عليه... وهو: بعدكم من الأيام من خروج فخري باشا، جاء اللصوص الذين نهبوا البيت؟؟؟ وكم كان عدد هؤلاء اللصوص... وكيف؟؟ بأي وسيلة استطاعوا أن ينقلوا كل ذلك الأثاث، وعلى الأخص منه ((الفرش)) وهو مكون من عدد كبير من الطواويل والمساند، والمتكآت، بل هناك الصناديق الكبيرة، المشحونة بالكثيرة الثقيل من الصيني والنحاس... ثم الخيام، والقدور الكبيرة والتباسي الضخمة الخ.... الخ.... بأي وسيلة نقلوا كل هذا.... وفي كم يوم؟؟ واضافت وهي تحدثني فيما بعد عن تشكيكها فيما كانت تقوله الدادة.
:ـ ما في أي عربية ((فَرْش)) يجرها الحصان أو الحمار، يمكن أن تدخل زقاق القفل.... وحتى إذا دخلت، فلا يمكن أن تستدير لتخرج.... فكيف استطاع اللصوص أن ينقلوا كل شيء دون أن يتركوا إلا، ذلك المسند اليتيم؟؟؟
واني لاتساءل اليوم.... ترى ما الذي دار في ذهن أمي وهي تلاحق منكشة بهذه الأسئلة؟؟؟ هل كانت تتهمها؟؟؟ ولكن بماذا؟؟؟ بأنها هي التي سرقت كل هذا؟؟؟ ولكن كيف؟؟؟ وأين ذهبت به، وهي امرأة. لا أهل لها وما أكثر ما قالت أمي أنها ((عندنا)) منذ كانت أمي طفلة.... وبعد سنين طويلة جدا.... وكانت منكشه قد ماتت، وأصبحت ذكرى بعيدة. كان التعليل الوحيد امّا أنها قد تواطأت مع اللصوص، ليس قبل خروج الباشا من المدينة، وانما في الأيام الأخيرة قبل خروجه... حيث ظلوا ينقلون الأثاث على دفعات طوال أيام، ولكن دون أن يلفتوا النظر أو أن يحس بهم أحد... وأنهم قد دفعوا لها مبلغا من المال اشتروا به سكوتها... وأما أنها قد تواطأت مع اللصوص الذي انفلتوا ينهبون البيوت الخالية في المدينة، بعد خروج فخري باشا من المدينة... وكان دورها في التواطؤ ـ راضية أو مرغمة ـ أن تلتزم الصمت طوال أيام، كانوا ينقلون خلالها الأثاث والأمتعة على مهل. ولا بد أنهم كافأوها على ذلك بشيء من المال.
ومع ذلك، وبعد مضي سنين طويلة، فان أمّي، رغم شكوكها والظلال القاتمة التي كانت تلقيها على ذكرى منكشة، فإنها كانت تترحم عليها، وتنهي حكاياها عنها بأنها قد ماتت في الرباط، فقيرة معدمة... فلو كان لها ضلع في النهب أو السرقة، لوجدوا عندها شيئا من المال... وتختم الحديث عنها، وهي تقول:
:ـ استغفر الله العظيم من ذنبها... استغفر الله...
* * *
كنت بعد أن فرغتا من الصلاة، وذلك الحوار الحاد، بمناسبة المصحف من القطع الكبير الذي قالت أمي أنه من الكتب التي تركها جدّي في ((المأخر)).... كنت أنتظر أن نتناول عشاء ما. وبطبيعة الحال، استبعدت أي أمل في ((الحيسة))، ما دامت الحنيَّة قد أصبحت منطقة مخيفة رأيت أن الدادة نفسها أصبحت تتخوف من الدخول فيها... ولكن من مكاني بالقرب من مجلس أمي التي انصرفت إلى القراءة التمست أن أرى تلك ((المسرجة)) التي تعلمت أن الدادة تستعين بضوئها وهي تدخل الحنيّة اللعينة. كانت هناك، في مكانها من طرف الدكة... ولم أفهم لم لا، تقوم الدادة باشعالها، وقدّرت أن الموقف، أو هو الجوع الذي أخذ احساسي به يتزايد يستلزم أن أقول شيئا، خصوصا وأن الدادة، كانت من جانبها تواجه القبلة، وفي يدها مسبحة تحرك حبّاتها ببطء وواحدة بعد الأخرى.... لم أملك إلا أن أرفع صوتي وأقول:
:ـ يعني يا ففَّم.... ما نبغا نتعشى....؟؟؟
وكانت المفاجأة أنها التفت إليّ وفي ملامحها توتر، وانفعال لتقول:
:ـ لا.... ما في عشا.... عندك الرطب.
:ـ طيب، شوفي ((المسرجة)) هناك.... ليه ما تولعها الدادة، وتدخل تولع النار في الحنيّة.
:ـ يعني طلع لك لسان.... وسرت تعرف تهرج.... بأقول لك ما في عشا.... عندك الرطب.... وكان لها ما أرادت، التزمت الصمت.... واتجهت إلى الزمبيل، وأخذت أتناول حبّات من الرطب الكبير، واحدة بعد الأخرى، وفي ذهني، أن هناك شيئا قد حدث، تصر أمي على أن تخفيه عنّي.... وان هذا الذي حدث، له علاقة بهذه الحنيّة اللعينة.... وقبل ذلك بالكلام الطويل الذي ظلت الدادة تقوله لأمي خلال الحوار بعد ظهور المصحف الكبير.... لابد أنها قالت شيئا جعل أمي تعفيها من الدخول في الحنيّة، حتى مع وجود تلك ((المسرجة)) أو حتى ((اللمبة)).
لكن لم يطل انتظاري، إذ رأيت أمي تنهض، فتضع المصحف فوق الرف... تشرع في ارتداء ملايتها... وتنهض الدادة معها... ترى إلى أين؟؟؟ والدنيا ليل... وعندما رفعت رأسي إلى ((الجِلا)) لم يكن على حافته اثر للضوء... والتفتت أمي إليّ وهي تقول:
:ـ هيا قوم... امشي..
:ـ على فين يا ففَّم... شوفي الدنيا ظلام...
:ـ بأقول لك امشي...
ومشيت معهما... على ضوء اللمبة التي حملتها الدادة... وفتحنا الباب.. وخرجنا إلى الزقاق... وقفت أمي لحظات قبل أن تخطو أي خطوة... كان الزقاق مظلما وزاد من ظلامه أن هبت ريح، اطفأت ((اللمبة)) التي تحملها الدادة... داخلني رعب ساحق... فالتمست يد أمي التي سمعتها تقول للدادة:
:ـ روحي دقي الباب.
ثم تردف هذه الجملة، بكلام اللغة التركية لم أفهم منه شيئا ولكنه لم يخل من حدة وتوتر.. ومشت الدادة إلى الباب المقابل... باب بيت الخالة فاطمة جادة والعم محمد سعيد.. طرقته... مرة وثانية.. لنسمع وقع خطوات ((بقبقاب)) على الأرض الحجرية في الدهليز... وسمعنا صوت العم محمد سعيد يقول:
:ـ مين هادا؟؟؟
وتقدمت أمي من الباب الآن وقالت:
:ـ نحن يا عم محمد سعيد... فاطمة والولد ودادة منكشة...
ولا شك أن الرجل كان يتوجس، وقد داخله خوف وشكوك... فتردد لحظات... ثم فتح الباب فتحة مواربة، وفي يده هو أيضا ((المسرجة)) وهو يقول:
:ـ خير إن شاء الله؟؟؟ ايش بكم؟؟
:ـ خلونا يا عم ندخل، وبعدين أقول لكم..
وباهتمام واضح، فتح الباب فتحة تتسع لدخولنا وهو يقول:
:ـ ادخلوا يا بنتي... بس عسى خير...؟؟؟
وما كدنا نجد أنفسنا في الدهليز، حتى أسرع العم محمد سعيد يغلق الباب، ويحكم اغلاقه بمزلاج من الحديد... وأخذ يتقدمنا، وقبل أن نخطو خطوات، سمعنا صوت الخالة فاطمة قادمة وهي تتساءل:
:ـ مين اللي جا؟؟؟
:ـ هادى بنت الشيخ افندي، وولدها ودادتها..
:ـ عسى خير؟؟؟ عسى خير يا فاطمة يا بنتي؟؟؟
* * *
وفي ديوان هذا البيت الذي سبق أن رأيناه خلال الضجة التي صاحبت مجيء الشيخ الزاكور اخراج ((الساكن)) من الحنيّة))، جلسنا، في شبه حلقة، نصغي إلى أمي وهي تروي ما سمعته من الدادة وما ارغمها على أن تترك البيت، وتلجأ إلى بيت الجيران.
وكانت الدادة منكشة جالسة، في ركن من الديوان، لا تقول شيئا، ولكنها تهزّ رأسها مؤكدة أن كل ما ترويه أمي، عنها صحيح.
والقصة قصيرة، ولكنها خطيرة، وخليقة بأن تخلع قلب امرأة شابة وطفلها الصغير في بيت، هو بيتها دون شك، وقد ولدت فيه هي وأختها وأخوها عمر... ولكن ما تقول الدادة أنه واقع، وتهز رأسها، موكدا أنه حقيقة، شيء آخر... لابد أنه قد طرأ، أثناء غياب أهل البيت عنه...
خلاصة القصة... اضافة إلى حكاية ((الساكن)) الذي رأينا أن الشيخ ((الزاكور)) قد اخرجه وحمله معه... ان للساكن سلالة كبيرة من الأبناء، وانهم منتشرون في البيت... قالت الدادة، انها رأتهم، في المجالس العلوية... وفي المؤخرات.. وحتى في الدهليز وانها سمعت، ـ لم تقل ممن ـ أن هذه السلالة، لابد أن تخرج، ما دام الساكن نفسه قد غادر البيت.
وليس هذا كل مافي الأمر فقد أضافت الدادة ـ فيما روته أمي عنها ـ أنها كثيرا ما رأت في البيت، اشباحا... مشايخ، يلبسون ثيابا بيضاء وخضراء، ولهم لحى طويلة بيضاء تصل إلى ((الصرُّة))... ولكنهم لا يكادون يظهرون حتى يختفون... ثم هناك تلك الرؤيا التي رأتها أكثر من مرة... وهي ذلك العجوز، الذي مشى أمامها، وادخلها الحنيّة ووقف بها على حجر في الأرض... وقال لها: ((تحت هذا الحجر... كنز... كنز...))... ولكن لا يفتح إلا على دم...
وكان فك كل من العم محمد سعيد والخالة فاطمة، قد سقط دهشة وذهولا وخوفا... أما أنا فقد عصر قلبي الخوف... والجوع... ومع ذلك غلبني النعاس..
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :706  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 30 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.