شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((تحت هدا الحجر كنز.. كنز..
ولكن لا يفتح إلا على دم))
لأول مرة منذ أيامنا في حلب، وعلى التحديد منذ تلك الأيام التي عشناها في قصر الكيخيا، ثم في رعاية ((لتافت باجي))، في المنزل الذي استأجره جدّي منها، وشهد رحيل خالتي خديجة ثم رحيل ذلك الجد الحبيب... لأول مرة منذ تلك الأيام، استيقظ في الفجر لأرى نفسي إلى جانب أمي على فراش نظيف وثير... أجل، فأننا بعد سقوط حلب وخروج الاتراك منها، وبعد أن ظلّت أمّي تبيع كل ما يمكن أن يباع من النفايات أو التفاهات الصغيرة... لم يبق لنا ما ننام عليه صيفا وشتاء سوى ذلك اللحاف، والوسادتين الصغيرتين وبقشة تجمع عددا محدودا جدا من قطع الملابس المهترئة التي أذكر اليوم، كم كانت أمي بارعة، في العناية بها، تنظيفا ورتقا، و ((تمسيدا)) بحيث تبدو لائقة بالمظهر الكريم الذي كانت تحرص عليه ليس فقط بالنسبة لها، وهي في أوائل العشرين من عمرها، وإنما بالنسبة لي أنا، إذ كنت أشعر أنها ترامقني في اسمالي البالية وحذائي الممزّق، بنظراتها المحتقنة الحائرة. وفي ذهنها أني مخلوق تعس الحظ قالت أكثر من مرة أنها لا تدري، كيف قدر ليّ أن أجئ إلى الدنيا، مع هذه الحرب، وكيف تركني أبي رضيعا في حضنها ولم يعد، ثم انقطعت أخباره منذ قيل أنها ((الحرب)) أو هي ((السفر برلك)) كما يسمّيها الناس في تلك الأيّام... بل كيف مات المئات والألوف من الناس في الشام وحلب، جياعا أو ضحايا حمى التيفوس، بل مات كل من خرج من الأسرة معنا في ((البابور))، ونجوت أنا، حتى من مغامرة حمل القنبلتين من حافة القلعة بفكرة أنهما الذهب الذي يباع، فتشتري أمي بالثمن ما نحتاج إليه من الغذاء... وقد كان الغذاء... والغذاء وحده هو كل شيء... قالت كلاما كهذا أكثر من مرة، ثم ـ رغم كل ذلك ـ ترفع كفيها، وتردد: ((الحمد لله))... ولا شك أنها كانت تحمده سبحانه على أن بقى لها هذا المخلوق التعس.
وكان الفراش النظيف الوثير الذي وجدت نفسي إلى جانبها عليه، في دكة ديوان الخالة فاطمة جادة، والعم محمد سعيد... كانت أمّي مستغرقة في نوم عميق، وعندما أخذت أتأمل ما حولي، رأيت هناك، على أرض الديوان، وعلى طوّالة، الدادة منكشة، مستغرقة هي أيضا في نوم عميق جدا، بحيث كان شخيرها المرتفع المزعج يؤكد أنها لا تشعر بشيء... وتذكرت وأنا أراها كل ما قالت ليّ أنها سمعته منها... عن سلالة الساكن، والأشباح، وذلك العجوز، والكنز... كانوا جميعا يصغون إلى أمي وهي تروي ما سمعت... من جانبي، لم أكن في السن التي تدرك شيئا، مما أسمع... ولكن حين رأيتهم خائفين، داخلني الفزع، ومع الفزع، أخذت تتكون في ذهني صور للساكن... الذي رأيته يتحرك في ذلك الكيس في يد الزاكور.. أنه قطعا مخلوق يتحرك، ولكن أي نوع من المخلوقات... لم أدرك أنه ثعبان إلا بعد سنين... أمّا سلالته فما معنى ((سلالة)) هذه؟؟؟ قالو لي أنهم أبناء وزوجات الثعبان قالت الدادة أنها رأتهم بعيني رأسها في المجالس والمأخرات... ولا تنتهي الصور التي ظلت تتكون في ذهني للأشباح وللعجوز... ثم للكنز... الذي لا يفتح إلا على الدم.
كان ضوء النهار، قد أخذ يملأ الديوان، ومع ذلك ادهشني أن أمي والدادة ظلتا على غير عادتهما. نائمتين... ومع ضوء النهار لم يبق في نفسي شيء من الرعب، وأحسست كأن أحشائي تتمزق... كنت جائعا، كما لم أجع قط في حياتي... جلست في الفراش... وتأملت وجه أمي ولا أدري لم تهيّبت أن أوقظها... كأني أشفقت عليها، فقد كان وجهها ضامرا ممصوصا كما كان لونها أقرب إلى الصفرة والشحوب... واليوم ـ أعني وأنا أكتب هذه السطور ـ أدرك، أن ذلك اليوم أو تلك اللحظات، وهي مستغرقة في النوم، وأنا اتأمل وجهها الحزين، كان البداية الحقيقة الأولى لمشاعر التعاطف والأسى تملأ القلب، فتشغله عن الأحشاء التي يكاد يمزّقها الجوع... لم اجرؤ أن أناديها كالعادة ففَّم، وهي الكلمة التي أعني بها، أو تعودت منذ بدأت النطق أن أعني بها اسمها: ((فاطمة))... كان كل من في البيت، جدي، وخالتي، وأخرون، ينادونها ((فاطمة))... وإذ لم أستطع نطق الاسم كما ينطقونه، فقد درجت على أن أناديها ففَّم... والمضحك بعد ذلك، أني ظللت ردحا طويلا من العمر، بل إلى أن بلغت مرحلة الشباب، أناديها ((فقم)) فقط.. وربمّا كان السبب، هو أني لم أكن أشعر بفارق السن بيني وبينها... كانت تكبرني بست عشرة سنة فقط، فهي لا تختلف عن الصبايا، بنات الجيران اللائي كنت أراهن يجلسن معها يواسينها بعد موت جدّي في حلب.. فلمّا بلغت مرحلة الشباب، في مكة، بعد سنين، كانت تبدو هي فتاة شابّة، لم أر ما يحملني على أن أغير شيئا من سلوكي العفوي معها... ظلت هي ففَّم وظللت أنا ((الولد)) لا أكثر ولا أقل...
سمعت وراء باب الديوان وقع خطوات حذرة ـ أو هكذا ظننت ـ ولكن بالقبقات، وسرعان ما انقطع شخير الدادة، فقد ايقظها صوت طرقعة القبقاب على حجر الدهليز... فتحت عينين بدتا وراء جفنيها الأسمرين محمرتين إلى حد مخيف.. دارت بحملاقيها حولها.. ورأتني جالسا، فأسرعت تجلس هي أيضا... ثم نهضت وشرعت تحكم لف الغطاء الذي اعتادت أن تسدله على رأسها... وفي خطوات ثقيلة اتجهت نحو الباب... ويبدو أن أميّ قد سمعت هي أيضا صوت طرقعة القبقاب، وحركة الدادة، فاستيقظت، والتفتت إليّ في مكاني، وقبل أن تنهض وتجلس لفت حولي ذراعها وضمتني إلى صدرها... وهي تقول:
:ـ. انت جيعان... موكده؟؟؟
ولم أجبها بشيء... ولكن ما أشد ما أحسست بالدعة والأمان، في استسلامي لاحتضانها وذراعها حول جسمي الصغير... رفعت وجهي اتأمل محياها، لأسمعها تقول:
:ـ. ما عليه... دحّين نفطر...
ولقد كنت جائعا أشد الجوع فعلا، ولكن مشاعر التعاطف معها كانت اليوم أقوى من الجوع رفعت يدي، وأخذت امر بكفي على وجهها... يبدو أنها كانت المرة الأولى التي أمارس فيها هذه الحركة... فإذا بها تحضني بذراعيها معا، وتشدّني إلى صدرها، وحين رفعت وجهي مرة أخرى أتأملها رأيت عينيها دامعتين... ولم تقل شيئا... تركتني، ونهضت مسرعة وأخذت يدي في يدها واتجهنا معا إلى ((بيت الماء)) كما كانوا يسمون ((الحمّام)) في تلك الأيام...
* * *
كانت وجبة الفطور التي قدّمتها الخالة فاطمة، وجبة شهية، منها ((الشريك أبو السمسم)) الذي قالت الخالة، أنهم لم يأكلوه إلا في ذلك الصباح... وأضافت أن السوق عند ((باب السلام))، عاد كما كان... فيه هذا الشريك، و ((العيش الصامولي))، وفيه أيضا الفول و ((الجبنة الزقزق))، والزيتون، ولكن المطبّق والهريسة، لا يجدهما العم محمد سعيد الاّ في ((باب المصري))... ومع الشريك أبو السمسم، كانت ((الجبنة الزقزق)) وأكواب الشاي الكبيرة التي تحمد الله على أنها، وجدتها سليمة، لأن اللصوص لم ينهبوا بيتها، كما نهبوا بيتنا وغيره من البيوت... وعلى المائدة التي تحلقنا حولها، عاد الحديث عن سلالة الساكن وبقية قصص الرعب، التي اضطرتنا إلى مغادرة بيتنا في الليل، واللجوء إلى بيت الخالة فاطمة...
وكانت الخالة فاطمة توكد من جانبها، أن الكلام الذي قالته منكشة لابد أن يكون هو الواقع، وزادت على ذلك قصصا لا أول لها ولا آخر، عن الاشباح، وسلالات الساكن، في جميع البيوت القديمة، مثل بيتها وبيتنا... بل وفي البيوت التي في هذا الزقاق... وأضافت أنها ورثت هذا البيت من أبيها ((رحمة الله عليه)) وهو بدوره قد ورثه من أبيه... فعمره لا يقل عن مائة وخمسين سنة... ومع أن العم محمد سعيد، بعد أن تزوجته ـ قد فكر في بيعه وشراء أحد البيوت الجديدة، في ((باب المجيدي))، أو في ((العنبرية))... ولكنها رفضت... وهنا أدارت بصرها فيما حولها وهي تقول في صوت هامس ونبرة حذرة:
:ـ. تدري ليه يا فاطمة يا بنتي؟؟
:ـ. ليه يا خالة؟؟؟
:ـ. علشان فيه، كنز... زي الكنز اللي بتقول منكشة أنّو شافت في النوم الرجّال اللي قال لها عليه.
ـ. طيب يا خالة... لكن.. ليه ما ندرتو الكنز... وليه نحن كمان مانحفر، ونندّر الكنز اللي في بيتنا؟؟؟
:ـ. ما هو بيقولو، انو ما ينفتح الا على دم
:ـ. يعني ايه؟؟
:ـ. يوه... يعني انتي ما سمعتي من الشيخ افندي عن الدم اللي بفتحوا به الكنوز؟؟؟
:ـ لا يخالة.. عمري ما سمعت منّو، ولا من غيره.
:ـ. الدم يا فاطمة.. دبيحة..
:ـ. دبيحة؟؟؟ طيب يا خالة انا عندي فلوس.. أجرت الدكانين اللي في زقاق الزرندي.. نقدر نشتري بها الدبايح، وندبحها..
:ـ. لا يا فاطمة.. الدبيحة، ما هي طلي.. ولا بقرة.. ولا تور.. الدبيحة..
:ـ. ايه هيّه يا خالة؟؟؟
:ـ. الدبيحة اللي ينفتح عليها الكنز جارية.. أو عبد.. اسود..
ورأيت كيف اربدَّ وجه أمي وتغيرت نظراتها، وأخذت تلتفت هنا وهناك، خائفة مرعوبة.. وأخذت الخالة فاطمة تقول:
:ـ. وما اكدب عليكي... من زمان... قبل ما أجيب استيتك بدرية... اشتريت جارية وانتفضت أمي مرتعبة وهي تقول في صوت مبحوح.
:ـ. عشان؟؟؟
:ـ. ايوه.. بس لا تقولي لأحد... ايوه عشان اندّر الكنز..
:ـ. يعني كنتي رايحه تدبحيها يا خالة؟؟؟
:ـ. ما أقدر أدبحها بنفسي... وعشان كده اشتريت واحد عبد قلت هو اللي اخليه يدبحها.
وعادت أمي تتلفت حولها، في رعب واضح.. وكنت أجلس إلى جانبها فرأيتها تنظر إليّ ثم تشدني إليها وهي تقول:
:ـ. طيب.. وبعدين يا خالة؟؟
:ـ. عمك محمد سعيد.
:ـ ايش بو؟؟
:ـ. ما كان يدري عن الكنز.. وكمان ما كان يدري أني اشتريت الجارية، اللي ما قدرت ادبحها عشان الكنز... لكن لمّا اشتريت العبد فهم، اني ناوية على شي... ظن اني ابغا اعتق الجارية والعبد لوجه الله... وبدأ يقول لي
:ـ. يجوز لك تواب كبير... وفضل ينق عليّ، وفضلت أنا محتارة كيف أسوّي.. وفي يوم من الأيام، كان عمك محمد سعيد مسافر... ناديت العبد... كان غشيم ما يعرف عربي... لكن قدرت أفهّمه اني ابغاه يدبح الجارية في دكة القاعة...
:ـ. وبعدين يا خالة؟؟
:ـ. العبد خاف... رمى الساطور من يده... وراح يجري... شرد من البيت... ولما جا عمك محمد سعيد من السفر... هوة اللي عرف يجيبه.. وسمع منّه الحكاية.. وتدري ايش اللي سار بعد كده؟؟
:ـ. ايش اللي سار يا خالة؟؟؟
:ـ. عمّك محمد سعيد، اشترى منّي الجارية وهية هادى دادتك حسينة.. وخلاني بعت العبد على القازاق اللي يجو عند ابوكي شيخ افندي في أيام الحج... وبعدين تدري ايش سوّا كمان؟؟
:ـ. ايش سوّا يا خالة.
:ـ. رمى على يمين الطلاق بالتلاته، إذا رجعت أفكر في الدم اللي اندِّر به الكنز.
وبعد أن سمعت أمي هذه القصص المرعبة، قررت، أن لا تعود إلى سكني بيتنا في زقاق القفل... وخرجنا هي وأنا.. إلى سوق ((جوّه المدينة)) لتشتري لي ((الكندرة اللمّاع))... وبمرورنا على العم صادق، في رأس الزقاق... قالت له كل شي... وعرض عليها مرة أخرى أن ننتقل إلى بيته مع بنتيه... ولأول مرة سمعت أمي تعلن موافقتها على الفكرة إلى أن نجد البيت الذي ننقل إليه.
* * *
 
طباعة

تعليق

 القراءات :786  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 31 من 86
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور عبد الكريم محمود الخطيب

له أكثر من ثلاثين مؤلفاً، في التاريخ والأدب والقصة.