شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عبيد الله كردي.. فقيد العلم والمعرفة في مأزر الإِيمان
ـ بالأمس كنت أقرأ له موضوعه الشيخ في صحيفة البلاد، واليوم - مساء الخميس - ينعاه لي عبر الهاتف الزميل والنسيب الدكتور عبد العزيز كابلي، إنه أستاذ الأجيال في مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، الشيخ عبيد الله كردي.
ـ وتعود بي الذاكرة إلى مطلع التسعينيات الهجرية عندما وجدت نفسي في مدرسة طيبة الثانوية.. أمام جيل متميز من الأساتذة الكرام: صالح حبيب، يدرس اللغة العربية، ومحمد الرويثي، يُلْقي دروسه في مادة الجغرافيا، وخالد الجُر في مادة الرياضيات وغيرهم واخترت أن ألتحق بالقسم الأدبي فإذا بي أجد نفسي في فرع للمدرسة الأم ((طيبة)) والتي كان يديرها أستاذ قدير، ومُربٍّ فاضل هو الأستاذ أحمد بوشناق - أمد الله في عمره.
ـ وأطلق على الفرع اسم ((أحد)) لوجوده في طريق سيد الشهداء وعم النبي المصطفى ((سيدنا حمزة بن عبد المطلب)) رضي الله عنه ، وقد تولى الإشراف عليه في بدايته الأستاذ علي يوسف، وكان يعاونه في تلك المهنة الجليلة أستاذنا الفاضل عبد الله عبد الإله خطيري، وكان الأستاذ الخطيري وزملاء له من أمثال الأساتذة الكرام: حسين الخطيب وعيد بن سالم الردادي، ومحمد سعيد حلابة، وحمزة سيسي، وناجي حسن عبد القادر الأنصاري وعمر حسن عثمان فلاتة ومحمود محمد علي خيمي، ومحمد حسوبة وعبد الله المطوع وسامي فقيه وحمزة مسعودي وأمين عثمان فلاتة، وغيرهم، هم الطليعة من شباب البلد الطاهر الذين أثروا الحركة العلمية والتربوية فيها لمدة تقارب الثلاثين عاماً أو تزيد، ودخل علينا في الفصل الدراسي رجل مهيب الطلعة، يتكلم عن اللغة العربية وآدابها وكأنه قد تخصص فيها، ويستقرئ التاريخ فإذا هو الخبير بدقائقه من شخصيات وحوادث، ومع أنه جاء ليلقي علينا درساً في (الجغرافيا) فإذا أنا أسمع منه مصطلحاً اقتصادياً لم أدركه إلا بعد مضي زمن وهو (تعويم العملة)، وكان يرسم الخريطة على السبورة ليس كجغرافي بل كفنان يجيد رسم المشاهد وتصويرها بدقة وإتقان. ولقد كان ذلك المربي هو المرحوم عبيد الله كردي.
درس في الغرب ثم عاد، فإذا هو الفقيه في علوم الشريعة، والحافظ لكتاب الله، والمجاهد بلسانه وقلمه ينعي على بعض طلاب العلم تشددهم لأن الإسلام دين الوسطية والسماحة والاعتدال ولكنه يجادل في أدب، ويناقش بسعة أفق ورحابة صدر، وكان قد تصدى لمواضع التعصب والفئوية الممقوتة أخذاً بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم دعوها فإنها منتنة فإنه لا يمكن أن يجتمع في قلب مؤمن الإيمان بالله ورسوله والدعوة بدعوى الجاهلية التي اختفت تداعياتها المؤلمة منذ منّ الله على هذه الملة باعتناق عقيدة الإسلام الصافية. فلقد خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحَدَ صحابته، رضوان الله عليهم، أنه امرؤ فيه جاهلية، فما كان من الصحابي الذي أدرك غضب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن طلب من سيدنا بلال ِ رضي الله عنه الله عنه أن يضع قدمه على صفحة وجهه، ولكن هذا الصحابي الذي تخرج في مدرسة النبوة، والذي قال في حقه سيدنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، (أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا) نعم لقد أبى بلال، رضي الله عنه، أن يفعل ذلك مع أخ له في الإِسلام ورديف في الهجرة وكان ذلك المشهد العظيم درساً للمجتمع المسلم الذي لم يناقض نفسه يوماً، ولم يعرف الازدواجية في سلوكياته وأقواله.
ـ وتصدى المرحوم (عبيد) للكتابة في تاريخ المدينة، فكتب المقدمات الضافية لمؤلفات الشيخ الحافظ لكتاب الله المرحوم أحمد ياسين الخياري، واهتم بمواقع قبور صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرسم الخرائط التي توضح أين دفن القوم الذين آزروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وناصروه، وأحبوه عن إيمان وصدق، ولقد كان آخر عهد رسول الله بالدنيا زيارته في دجى الليل لأهل البقيع يدعو لهم ويستغفر، ما أرحمك يا رسول الله بأمتك في حياتك، وبعد مماتك وفي يوم البعث والشفاعة، وصدق الله القائل في محكم كتابه: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (التوبة:128) قال القاضي عياض في كتابه المعروف (الشفاء بتعريف حقوق المصطفى) قال السمرقندي: وقرأ بعضهم مِّنْ أَنفُسِكُمْ بفتح الفاء، وقراءة الجمهور بالضم، ورُوي عن سيدنا علي بن أبي طالب، رضي الله عنه ، عنه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: مِّنْ أَنفُسِكُمْ ، قال: نسباً وصهراً، وحسباً ليس في آبائي من لدن آدم سفاح، كلها نكاح، (انظر الشفاء للقاضي أبي الفضل عياش اليحصبي، مذيلاً بحاشية العلامة: أحمد بن محمد بن محمد الشمني، دار الفكر، ص 14 - 15).
ـ وهناك جانب آخر في حياة الفقيد الشيخ عبيد كردي وهو الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة في بلاد الغرب، وكان يسافر كثيراً على نفقته الخاصة ولقد كانت إجادته للغة الإنجليزية، عاملاً هاماً في مخاطبة الآخرين بلسانهم، وإذا كان فقيدنا، رحمه الله، رقيقاً مع بني قومه وحتى مع أولئك الذين يختلفون معه بشدة، فإنه كان أكثر رقة مع قوم تختلف رؤيتهم للكون والحياة عن رؤيتنا، ولقد كان لهذه الشمائل الرفيعة التي ازدانت بها شخصية هذا العالم، والمربي، والمؤرخ أثرها في نفوس القوم الذين يدعوهم لاعتناق دين الوسطية والاعتدال، ودليله من كتاب الله عزّ وجلّ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا (البقرة: 143) قال أبو الحسن القابسي (وسطاً، أي عدولاً خياراً، وفي رواية في (الشفاء) (حدثنا البخاري، حدثنا محمد بن سنان، حدثنا فليح، حدثنا هلال عن عطاء بن يسار، قال (لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص، فقلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (الأحزاب: 45) وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماء، وقلوباً غلفاً) (الشفاء للقاضي عياض، ص 24 - 25).
رحم الله أستاذ الأجيال عبيد الله كردي، فلقد كان حريصاً على نشر السيرة العطرة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل مجلس يؤمه، وأن مأزر الإيمان وموئل الهجرة، ودار الهدى لتودع بوفاته واحداً من رجال العلم والفكر والدعوة، وتفقد لساناً ذرباً كان لا يخشى في الحق لومة لائم، اللَّهم اغفر له وارحمه، وعوّض فيه أمة الإسلام خيراً.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1450  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 315 من 482
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.